القاعدة الأولى: الإيمان رهان شخصيٌّ.
التَّحليل: يتأسّس الدّين عموما على ثلاث فرضيات ميتافيزيقيَّة: أوّلاً، فرضيَّة وجود قوَّة خارقة وواعية قرّرت في وقت معين أن تخلق العالم والإنسان سواء من مادَّة سابقة أو من العدم (فرضيَّة الخلق)؛ ثانيا، فرضيَّة أنّ هذه القوّة الواعية والخارقة تطلب من الإنسان أن يفعل بعض الأمور وأن يتجنّب بعض الأمور الأخرى (فرضيّة الوحي)؛ ثالثا، فرضيّة أنَّ هذه القوّة المهيمنة ستقوم في عالم ما بعد الموت بمحاسبة النّاس على أعمالهم (فرضيّة البعث). وبعد هذا، إذا استثنينا فرضيَّة الخلق والَّتي تقبل بنوع من الاستدلال العقليّ والمنطقيّ (دليل المبدأ الأوَّل أو المحرّك الَّذي لا يتحرَّك عند أرسطو؛ ودليل الصَّنعة وأن لا بدَّ لكلّ صنعة من صانع عند ابن رشد؛ ودليل واجب الوجود عند فلاسفة المسلمين؛ وفكرة الله كدليل على وجود الله عند ديكارت؛ إلخ)، كما يمكن عدم استبعاد هذه الفرضيّة من دائرة النّسق العلميّ (نيوتن، وأينشتين، وما يسمَّى بنظريَّة التَّصميم الذَّكيّ اليوم، إلخ )، فإنَّ القول الأكثر معقوليَّة حول فرضيَّة الوحي ما ذهب إليه ابن عربي ثمَّ سبينوزا من أنَّ الوحي مرتبط بمَلَكة الخيال لدى الأنبياء، والخيال مهارة من مهارات القوى الحدسيّة عند الإنسان، تختلف من شخص لآخر، وهذا ما يفسّر اختلاف الشَّكل التَّعبيريّ عن مضامين الوحي من نَّبيّ لآخر، غير أنَّ مدركات الخيال قد لا تخضع للاستدلال الحسّيّ أو العقليّ. لذلك، كان أصدق القول حول الدّين ما قاله المتصوّفة: يُدرك الدّين بالذَّوق. والذَّوق هو أكثر الحواس تفرّدا عند الإنسان، لكنّه الحاسَّة الَّتي لا تحتمل أي قدر من الإكراه والإرغام. وهذا بالذَّات ما يجعل الدّين مسألة شخصيَّة عند الإنسان، وتؤكّده الآية “لا إكراه في الدّين” البقرة-256. على هذا الأساس فإنَّ الخطاب الدّيني الَّذي يسعى إلى تنميط الكائن الإنسانيّ شكلا أو مضمونا إنَّما ينتهي إلى إفساد الدّين الَّذي لا يصلح سوى بحريّة الوجدان، وإفساد الطبيعة البشريّة الّتي لا تصلح سوى بحريّة الإنسان. هنا، لا يتعلق الأمر بمجرّد استنتاج منطقيّ وحقوقيّ نقصده ونبتغيه، وإنّما يتعلّق الأمر بمسلمة من مسلمات الخطاب القرآنيّ: “كلّ يعمل على شاكلته، فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا” الإسراء-84. مسلمة واضحة في النَّص الدّينيّ، لكن لربَّما مشكلة النَّص الدّينيّ أيضا أنّ كلّ يقرؤه على شاكلته. إذا كان الأمر كذلك فإنَّ الَّذي يأتي عن طريق الذَّوق الفرديّ والخيال الشَّخصيّ -نقصد الوحي- لا يُدرك بغير الذَّوق الفرديّ والخيال الشَّخصيّ. في المقابل، فإنَّ الذَّوق والخيال لا يقبلان الامتثال لمعايير موحَّدة ولا يخضعان للاستدلال المشترك، فإنّهما متعلّقان بالوجدان الذَّاتيّ والإحساس القلبيّ والشُّعور الشَّخصيّ. وأمَّا من حيث مضامين الوحي فإنَّ أدقّ وأصدق الآراء رأي كانط بأنَّ سلطة العقل لا تشمل مسلمات الدّين، ومن ثمَّة تبقى تلك المسلمات الدّينيَّة في الحساب الأخير خاضعة للمشاعر الشَّخصيَّة “الغامضة”.
أمَّا حول فرضيَّة البعث، وهي مسألة حساسة، لا سيما في المسيحية والإسلام، فإن القول الأكثر معقولية ما قاله باسكال ضمن ما يسمى بـ“رهان بسكال”. بحيث يمكن أن يكون الرهان على البعث رهانا معقولا حين يكون واعيا بنفسه كرهان مفتوح. رهان بلا عنف أو تسلط أو طغيان، رهان بلا برهان. بمعنى أني كإنسان مؤمن، ودون أن أتوهّم امتلاك أي يقين ( واليقين غير موجود في هذه الحياة باعتراف الخطاب القرآني نفسه ) سأراهن بهدوء وسلام على فكرة البعث، فإن صدق الرهان ربحتُ بعد موتي حياة أبدية، وإن لم يصدق الرهان فلن أخسر بعد موتي أي شيء. وقد سبق لأبي العلاء المعري في “رسالة الغفران” أن أورد صيغة بليغة لمثل هذا الرهان الأنطولوجي المفتوح :
قــــال المُنجـم والطبـيـب كلاهمـــا
لا تُــحشـر الأجسـاد قلـتُ إليكمــــا
إن صـــحّ قولكمـا فلسـتُ بخاســــر
أو صــــحّ قولي فالخاسـرُ عليكمــا
إن كان هذا الكلام يتعلق بخلود الأجساد، فهناك من يتوقع خلود النفس فقط، وقد يكون هذا هو تصور الأوساط الدينية الأكثر ذكاء منذ العصور القديمة إلى اليوم. لكن هناك من يراهن على أن الخلود هو نوع من الحلم السرمدي –(أو الخيال الأخروي)- الذي يغمر الأموات وهم في حالة “سكون أبدي” ( وهذا رأي أبو الهذيل العلاف، وصدر الدين الشيرازي، وربما آخرون )، حيث لكل واحد من الموتى أحلامه الأبدية التي تناسب أعماله في الحياة، إيه، لربما “أحلام الميت” هي الأخرى “على شاكلته”، إن كان مصلحا في الأرض فهي أحلام روحية سعيدة لا أول لها ولا آخر، تخصه بمفرده، وإن كان مفسدا فهي كوابيس روحية أبدية يراها في نفسه إلى أن يشاء الله أو أبد الآبدين. وإذا كان الإيمان بهذا النحو، فسيكون الإيمان رهانا شخصيا وشاعريا أيضاً.
في كل الأحوال، الإيمان رهان إنساني قد لا يخلو من معقولية حين نمارسه بوعي وحكمة وتجرد، وهو شأنه شأن كل رهان آخر، مسألة ذوق شخصي واختيار وجودي.. حين أومن أو أقرر الإيمان ببعض أو كل مسلمات الدين، يكون الإيمان رهاني أنا بالذات وليس رهان أحد غيري؛ فحين أموت لا أحد يموت مكاني، وحين أخلد لا أحد يخلد بدلي، وحين أفنى لا أحد يفنى عوضي، وإذا حدث لي أن أثرت غضب الله –وهذا ما لا أتمناه- فبكل تأكيد لن يغضب الله على أي أحد آخر بسببي، ولن يأخذ بجريرتي أحداً غيري، فلا سلطان لعاقل على عاقل، ولا وصاية لخطاء على خطاء، وفي الأخير، هناك آية قرآنية ليس اعتباطا أن نراها تتكرر في الخطاب القرآني خمس مرات على الأقل ( لا تزر وازرة وزر أخرى) -الأنعام 164، الإسراء 15، فاطر 18، الزمر 7، النجم 38.
الاستنتاج: الإيمان رهان وجودي ووجداني شخصي ومفتوح، لا يخضع للإكراه (( لا إكراه في الدين )) البقرة 256، ولا للتنميط (( كل يعمل على شاكلته )) الإسراء 84.
سعيد ناشيد
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد