في ضرورة الإصلاح الديني .. عود على بدء
مع وصول الارهاب التكفيري الى مرحلة التهديد الوجودي لبعض الكيانات العربية، لم يعد الحديث عن الاصلاح الديني مادة خصبة للتحليلات النظرية ولا للترف الفكري، بقدر ما أصبح يفرض نفسه كموضوع محوري يعاد معه طرح الأسئلة المتعلقة بماهيته ومآله وسيرورته، منذ انطلاقته مع حركة الإحياء المعروفة اصطلاحا بـ «النهضة الاسلامية» في القرن التاسع عشر.
لقد شكل الاصلاح الديني محورا مفصليا في البنية المعرفية التأسيسية لرواد النّهضة الاسلامية بقيادة الافغاني وتلميذه محمد عبده، لجهة التأصيل لمرحلة جديدة من مسار التعامل مع التراث الاسلامي، بما يكرّس القطيعة مع ما رسب منه من آليات تقليدية، تقيّد الاجتهاد وتغيّب العقل في التعامل مع النص الديني، بما يحوله لعائق معرفي لأي مشروع فكري ينشد التحرر من التأويلات البشرية التي لبست لبوس القداسة. لقد أعطى رواد النهضة للسّلفية مضمونا تجديديا مرتبطا أساسا بإعادة إحياء تجربة «السّلف الصالح» باستحضار «روحية» النّص المقدّس من خلال التأويل العقلاني له، بما تتطلبه مقتضيات العصر وكذا تعزيز «مقاصدية الشريعة» والابتعاد عن أدبيات التعامل الاقصائي، سواء تعلق الأمر بالمذاهب ضمن الدائرة الاسلامية، بإعطاء الاولوية للانتماء للدين كهويّة جامعة أوسع من الاطار المذهبي الضيق أو الطوائف غير الإسلامية. لقد استطاع الجيل الاحيائي الأول بقيادة الافغاني أن يؤسس لمنظومة معرفية ـــ وان بقيت حبيسة المستوى النظري ـــ قوامها التطلع للنهوض بواقع المسلمين بإصلاح ما لحق بدينهم من رواسب تعيق ولوجهم الى الحداثة. بيد أن ما تعرض له مسار الاصلاح الديني من تطور تراجيدي على يد رشيد رضا يعدّ نقطة البداية لإفراغ السّلفية الاصلاحية من مضمونها التجديدي الذي عرفته مع جيل النهضة الأول، لمصلحة مسار ارتدادي نحو خط فكري مرتبط بمحمد بن عبد الوهاب وابن تيمية، بكل ما يحمله ذلك من نصوص متحجرة وآليات تفكير جامدة غارقة في أدبيات التكفير والاقصاء لتتموضع السّلفية الوهابية بدل السّلفية التجديدية الاصلاحية في الفكر العربي، باعتبارها جزءا من حراك فكري اصلاحي ينشد «التجديد» ومحاربة البدع. ومن النافل القول، إنه برغم «تورط» مفكرين عرب كبار في تكريس هذا «التموضع»، فان الحجج التي ساقوها في تبريره تسقط أمام اي نقاش علمي تحليلي للبنية الفكرية المؤسسة للسّلفية الوهابية.
لقد أحاطت هذه المنظومة الفكرية التراث الاسلامي بـ «سياج دوغمائي» من مفاهيم وتأويلات للنص الديني المقدس، يقع أيّ معترض عليها تحت طائلة التكفير والتبديع. استبدل رشيد رضا، ما جاء به الافغاني وعبده من قيم التسامح والقبول بين اتباع المذاهب الاسلامية والدعوة الى النهضة الإسلامية، من دون تفرقة إثنية أو مذهبية، بلغة طائفية استعلائية مطلقة تحتكر «الفهم الدّيني الّصّحيح»، وما عداها ضلال، ليؤسس للعقل الطائفي الاقصائي الذي ينخر الوعي الجمعي العربي اليوم.
لقد زاد من انتشار هذا الفكر على حساب الفكر الاصلاحي التنويري، ظهور الاسلام السياسي ـــ «الاخوان المسلمون» تحديدا ـــ من رحم فكر رشيد رضا، بما عناه من انقلاب جذري على «تراث الاصلاح الديني التنويري» لمصلحة رؤية سلفيّة مشبعة بفكرة «الدولة الدينية» و «ّتطبيق الشريعة»، وحصرها بالبعد الاجرائي الذي لا يتعدّى جانب تطبيق الحدود، ونزوع نحو رفض كل قيم الحداثة السياسية من ديموقراطية ومواطنة. والأخطر من كل ذلك، «تجيير» مفهوم الجهاد في الفكر الاسلامي لمصلحة فكرة التوسل بالعنف لتحقيق هذه الاهداف بكل ما يحمله هذا «التجيير» من تعزيز للاحتراب الداخلي وتهشيم للنسيج الاجتماعي والثقافي، لمجتمعات عربية فسيفسائية التكوين الديني والمذهبي. شكّل ظهور هذا الفكر الظلامي في حيّز جغرافي تتمركز فيه كيانات وظيفية ذات امكانيات ماديّة هائلة مرتبطة بالمشاريع الاستعمارية، قوة دفع مكّنته من الانتشار والاختراق، ليس فقط لحركات الاسلام السياسي لمنعها من الرجوع الى منابع الاصلاح الديني الاولى، بل وأيضاً للمؤسسات الدينية التقليدية الكبرى في العالم الاسلامي ـــ (الأزهر نموذجا). هذا الاختراق وجّه الوعي العربي نحو المزيد من النكوص والارتداد عن «تراث التنوير الاصلاحي»، وملأ الفراغ الفكري الناتج من إخفاقات المشاريع النهضوية العربية من تخلّف حضاري وأزمة هويّة وهيمنة خارجيّة..الخ.
لقد مكنت القدرة الاختراقية هذا الفكر من الدخول في مواجهة مع المشاريع التحرّرية والنهضوية، ليس آخرها مع مصر النّاصرية، إلا أن المرحلة التي تلت ما سمي بـ «الّرّبيع العربي» شكّلت ذروة هذه المواجهة لطابعها الوجودي مع السّلفية الوهّابية بمختلف تلويناتها، «الّسّلفية الوهابية العلمية» المرتبطة بالأنظمة الخليجية الوظيفية، و «السّلفية الوهابية الجهادية» التي تتقاطع أجنداتها في خلق الفوضى وتدمير «الدول» مع المشاريع الاستعماريّة، أو حتى حركات الاسلام السياسي، التي انتفت نقاط التباين بينها وبين الوهّابية بقوّة الغزو الهائل للأخيرة لأرضيتها المعرفية والفكرية. فليس من باب المبالغة البتّة الحديث عن «وجودية الصراع»، ذلك ان السّلفية الوهّابية لم تعد تجسّد العائق أمام نهضة العرب فقط، وإنما هي خطر يتهدد كينونتهم «كدول «و «كأمة». فالصراع اليوم يتمحور حول الحفاظ على هذه الكيانات التي فشلت أصلا في الوصول بشعوبها الى التقدم والوحدة وإقامة الدولة العصرية، ومنع تحوّل العرب نهائيا الى تجمعات لطوائف وعشائر متقاتلة. جوهر هذه المواجهة الوجودية ليس الطابع العسكري فحسب ـــ على ما للمواجهة العسكرية من أهمية قصوى ـــ وإنما هو الاصلاح الديني الجدّي الذي يستأصل كامل المفاهيم التي تمنع قيام دولة المواطنة العصرية العادلة، لكل مواطنيها على اختلاف أديانهم وأعراقهم، من قبيل اجترار أدبيات «أهل الذمةّ» و «العهدة العمرية» في التعامل مع غير المسلمين، وتأجيل الصراع مع المشروع الصهيوني بحجة «أولوية الجهاد ضد المرتدين»، أو استحضار ما تزخر به كتب التراث من مصطلحات فتنوية تزيد من تأجيج الروح الطائفية كـ «الروافض» و «النواصب» و»الصليبيين»..الخ. إن الإصلاح الديني معني بإزالة الّلبس القائم حول العلاقة الجدلية بين الديني والسياسي، أو بين النص المقدس والسّياق التاريخي الذي نزل فيه، عبر تفعيل الاجتهاد العقلاني المتحرّر من أيّ قيد.
ليس أمام العرب اليوم من خيار سوى اعتبار السّلفية الوهّابية خطرا يتهدد وجودهم والوصول بالمواجهة معها الى مرحلة صراع صفري، لا تقبل فيه أدنى مهادنة تحت أي مسمىً. ومن دون ذلك، سيخرجون «كأمة» من التاريخ.
عبد الله بن عمارة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد