بورتريه للمجتمع المغربي المتفسخ
"من قال أنا؟"، كتاب شائق للروائي المغربي عبد القادر الشاوي، صدر حديثاً لدى منشورات "الفنك". هذا هو الوصف الذي يليق بالكتاب، لاعتبارات كثيرة من بينها أنه يخوض في تلك المنطقة "البيضاء" من الكتابة ومن الحياة، أي عندما يتحول الوجود الفردي إلى مجرد سرير أبيض في غرفة باردة، في مستشفى ما. هو تجربة في الحياة وفي الكتابة، يختلط فيها التخييلي بالواقعي، والفردي بالجماعي. فالوقائع تتخذ أشكالا أخرى وأحجاما جديدة في اللحظات البيضاء. لذا يقودنا هذا الكاتب الرهيف إلى متاهة المرض، في المعنى البورخيسي. فالإنسان يكون أعمى حيال الكثير من الأشياء ومن المسميات، وربما حيال حياته السابقة، الى أن يدهمه المرض، فيجلس إلى نفسه ويعيد قراءة الوجوه والأشخاص والصور والذكريات. حينذاك يبزغ ذلك الشيء الذي يتخذ هيئة ندم صغير، أو ندبة في الوجه، بسبب الإحساس الخامل والغافل الذي نام فيه من دون أن ينتبه اليه.
سبق لعبد القادر الشاوي أن أغنى مدوّنة السرد المغربي بنصوص مهمة، منها كتاباه "دليل العنفوان" و"الساحة الشرفية"، اللذان يلخصان مشروع كاتب ومناضل، يتأمل بلا هوادة ما ينقشه على صخرة الحياة. أما الكتاب الجديد فيشكل فرصة لإعادة اكتشافه، وهو الذي أمضى القسط الأزهى من حياته في برودة السجن ووراء القضبان. ربما يندرج الكتاب في إطار السيرة الذاتية الشخصية التي لا تعني أحدا غير كاتبها، لكن المؤلف، وتجنبا لأيّ إسقاط مباشر، يخلع عنها صفتها الواقعية والحرفية الدالة على حدوث الأشياء كما هي في الواقع، ليرفعها إلى مستوى السيرة الذاتية "التخييلية"، المطهوة بعناية. يعمد إلى تفكيك النص وإعادة تركيبه، بما يعطي الإنطباع بأن "من قال أنا؟" كتبته اياد متعددة، روت حقيقة مرض الكاتب ودخوله المستشفى وإجراء العملية الجراحية الصعبة، والأقاويل التي رافقت لحظاته الصعبة من جانب "مجتمع النميمة" الذي أعلن وفاته تارة، وطحن خصوصياته تارة أخرى، بالأحاديث التي تخفي تقيّح الحياة الإجتماعية في البلاد ووصولها إلى درجة لا تحتمل.
حالة المرض هي محفز للتفكير في المصير، وتأمله، حين يجد الفرد نفسه مجردا من إرادته البشرية التي تتيح له أن يختار. وربما يشتدّ ذلك لدى الحديث عن الباطنية التي تسم مجتمع الكتاب والمثقفين والسياسين، المريض بانتفاخ مريع للذات، والذي لا يوقّر حتى صنّاعه والمشاركين فيه.
إزاء شراسة المرض وشراسة الناس، يجد الكاتب أو السارد او الذوات المتكلمة فرصة سانحة لممارسة نوع من النقد الذاتي ومن التقويم للمؤسستين الإجتماعية والثقافية اللتين تنتجان القيم وتسوّقانها، لنصل في المستنتج الأخير إلى أن أشد الفئات الإجتماعية قابلية للتعفن هي فئة المثقفين والسياسيين، وخصوصاً أولئك المحتربين الذين اسسوا لأنفسهم مواقع في النسيج العام المترهل، بالإستناد الى المحسوبية والزبونية والخدماتية، الأمر الذي مكّنهم من الإرتقاء السريع في الإدارات وفي السلالم الحزبية، أو أولئك الذين وصلوا "بفضل" زيجاتهم، ما دفعهم إلى الوجاهة ودفة القرار السياسي والإداري والثقافي والفني.
في هذا الكتاب "يفضح" عبد القادر الشاوي الطريقة الفانتازية التي يتمّ بها صنع النخب، وطبيعة الإنتخاب الإجتماعي الذي يمارسه أطراف متعددون، منهم أطراف داخل مؤسسات الدولة، في شق النخبة وتسميمها حتى تتفرق. هذا على الأقل ما أصاب النخبة المغربية التي عانت الويلات من "الأيدي القذرة" ومن الإستقطابات التي تمّت داخلها، ومن المسخ الكافكاوي الذي التهم وجوهاً كانت محسوبة على التيارات المتنورة من النخبة المغربية.
"من قال أنا؟"، هو ايضا صيغة في الإنكار وفي التنصل من كل مسؤولية حيال محتوى الكتاب، ومن كل تأويل مغرض يريد ان يهيم بعيدا في التفاصيل. كأن الكاتب يريد أن يرسم فاصلة بين الكتابة التي تتم في الأوقات العادية الخالية من اي إكراه، والكتابة التي "تنكتب" رغما عنها بسبب غياب شرطي الحرية والإختيار. حينذاك تتحول إلى خيار وحيد لا محيد عنه، في الإتجاه الذي تتجلى فيه الحقيقة.
حين يريد الرواة الذين يحفل بهم الكتاب تقويم الواقع، يكتشفون فداحته المصنوعة من الورق المقوّى. لا شيء يستر عريه القميء، ولا يد تنتشله من القاع المتسخ بالذوات الكلبية التي تصرّ على تدنيس كل شيء جميل. وهي مؤامرة لا تتم ضد الكاتب وحده بل ضد الناس الطيبين الذين يشكلون الأمل في مجتمع غير منخور، وغير مفرغ من الداخل.
لم يكن الشاوي ليدرك هذه الحقائق لولا رواته، ولولا إيمانه بأن الحقيقة حمّالة أوجه. لذا سيكتشف المعدن النفيس من المعدن الرخيص في هذه المحنة "الصغيرة"، محنة المرض، وهو الماركسي السابق الذي يدين كثيرا للسماء بعودته سالما من الغياب.
لا يفلسف الشاوي المرض، ولا يضفي عليه "شعرية ما"، بل يجعله في هيئة الحياة التي هو عليها، حين تكون الذات مستغرقة إلى سكينتها، ثم ينقلب كل شيء دفعة واحدة، وتنجلي حقائق اخرى، من اهمها تلك الحفرة العميقة التي اسمها "اللحد"، والمخفية بستار أوهى من بيت العنكبوت. اما المتقوّلون فيمضون في قتل الحي بلا هوادة، ويرسمون له النهايات ويقولون: مرحى، لقد هنئنا بغيابه، لطالما أزعجنا بحضوره.
الكتاب أربعة فصول، الأول يرويه احمد الناصري، الصديق الحميم والاليف، الذي يعرف نزوات الكاتب وغزواته ونسيجه النفسي. الثاني ترويه منار السلمي، المرأة التي تحبه وتعشقه، والمعذبة بسبب مرضه وبسبب المنع الذي مورس عليها كي لا تزوره في المصحة، هو الذي كان قبل قليل بين أحضانها. الثالث لا يرويه احد، إنما يتكفل راوٍ افتراضي إضاءة جوانب أخرى من الحكاية. وفي الرابع يستعيد الكاتب عبد القادر الشاوي دفة الحكي كي يضعنا في مرحلة ذهابه الى المستشفى ودخوله الغيبوبة بعد تخديره في غرفة العمليات.
هذه هي اللعبة السردية التي لجأ إليها الشاوي كي يدين الطرف المتفسخ من المنظومة الإجتماعية والثقافية والسياسية في المغرب، والتي لم تعد تنفع مثقال قيراط.
... للمرض أيضاً عبقريته.
حكيم عنكر
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد