وأد الشرعية

08-11-2007

وأد الشرعية

المأساة الفلسطينية تتحول يوميا على أيدي الساسة الفلسطينيين إلى ملهاة.
فقد أضيف، أمس، إلى الخلافات الفلسطينية بعدٌ آخر يتمثل في عقد جلسة للمجلس التشريعي. وكأن ذلك ما كان ينقص الأزمة الفلسطينية، لتزداد تعقيدا وتشابكا.
الغاية المعلنة من انعقاد المجلس هو «إعلان» لا شرعية قرارات ومراسيم الرئيس الفلسطيني محمود عباس التي اتخذها بعد إقالة حكومة حماس.
ومما لا ريب فيه أن ذلك فعل «كبير»، لأنه يوضح لكل من لا يعلم أن الرئيس الفلسطيني، بالجملة والمفرق، غير شرعي.
وثمة من انتظر في اليوم التالي أن يكون الأثر الأول لهذه القرارات هو استقالة الرئيس عباس، أو تغير الظروف بحيث يضعف الحصار المفروض على قطاع غزة، أو تقترب الساحة الفلسطينية من إعادة اللحمة من جديد.
لكن شيئا من ذلك لم يحدث وبقيت الشمس تشرق على بؤس وتشرذم وتبدد أمل وزوال حلم. فالطرفان المتصارعان في الساحة الفلسطينية يأبيان انتهاج سياسة عقلانية ولا يريان سبيلا سوى «ركوب الرأس» ولو على حساب كل شيء آخر.
فثمة مراسيم رئاسية صدرت تحاول بناء شرعية عبر تجميع «أضعف الأسانيد»، وقرارات من «التشريعي» مشكوك في استنادها إلى أبسط قواعد الشرعية. ويبدو، أنه في ظل انعدام معيار مصلحة الشعب، صار بالوسع ابتكار المعايير موضع الإشكال.
فقد أقال الرئيس عباس حكومة الوحدة الوطنية، بسبب انقلاب حماس في غزة، وأعلن تشكيل حكومة إنفاذ حالة الطوارئ، التي سرعان ما غدت حكومة تسيير أعمال. وهذه الإجراءات التي صاحبها وأعقبها إصدار مراسيم لمواجهة الوضع الجديد لم تستند إلى معيار شرعي لا غبار عليه.
بل يمكن القول أنها لم تستند حتى إلى معيار المنطق، حيث شكل الرئيس عباس حكومة تفتقر إلى أي بعد تمثيلي. وتحت ذرائع، يصعب تبريرها وطنياً، تم إبعاد كل من حماس وفتح، عملياً، عن هذه الحكومة من دون إظهار أي أفق يشير إلى محدودية دورها وحصره في هدف معين.
بل أن هذه الحكومة التي تفتقر استمراريتها لأي سند شرعي تنطحت لمعالجة كبرى القضايا، التي لا يمكن لأي عاقل توقع النجاح فيها من دون توافق وطني. وليس على لسان المدافعين عن هذه الحكومة من تبرير سوى «الرد على انقلاب حماس».
وجاء عقد المجلس التشريعي، بعد اجتماع 29 نائبا في غزة علناً وتأكيد ستة نواب في الضفة تواجدهم «سرا» عبر الهاتف، وفق بيان رسمي، ليعلن وكالة هؤلاء عن عدد مشابه من نظرائهم المعتقلين لدى إسرائيل.
وهكذا صار بوسع سبعين من أعضاء المجلس، المتواجدين أصالةً أو وكالةً، أن يعلنوا عبر نائب رئيس المجلس أحمد بحر أن «كافة القرارات التي اتخذها الرئيس الفلسطيني محمود عباس ولم يتم عرضها على المجلس التشريعي لاغية».
ولأن هذه سابقة، تم فيها تفويض نائب عن الشعب لنائب آخر بالتصويت والمناقشة عنه، كان لا بد من إبراز أسانيدها. وقد برر رئيس الجلسة الدكتور بحر هذه السابقة، بالإشارة إلى أن توكيل النواب لبعضهم، «منصوص عليه صراحة في اللائحة الداخلية لكتلة التغيير والإصلاح البرلمانية، ولا تتعارض، في الوقت ذاته، مع نصوص القانون الأساس المعدل والنظام الداخلي للمجلس التشريعي، وتنظم عمل كتلة التغيير والإصلاح داخل المجلس، فإنها تغدو واجبة الاحترام والتنفيذ، الأمر الذي أيدته اللجنة القانونية في المجلس التشريعي صاحبة الاختصاص، وبارك هذه الخطوة الإخوة النواب المختطفون، وعلى رأسهم الدكتور عزيز دويك».
هل هناك من يتذكر قصة الفقير الذي أراد أن يتزوج ابنة الملك، وابتهج لأن والده ووالدته وعدد من جيرانه رحبوا بالفكرة؟
حماس تريد أن تجعل من لائحة كتلتها في المجلس التشريعي أرضية شرعية لسابقة، بدل أن تبحث عن طريقة أخرى تبقي في الذهن احترام المعايير وبالتالي احترام العقول.
ولا يقل استهتارا بالعقول أيضا، الارتكاز إلى المنطق ذاته الذي بررت فيه رئاسة السلطة إجراءاتها بالقول أنه ليس في القانون نص يمنع ذلك.
كان بوسع حماس أن تظهر أنها بحكم الغالبية الواضحة، التي نالتها في انتخابات نزيهة، ترفض قرارات الرئيس عباس. بل كان بوسعها، وهي التي ترفض حتى اليوم، الاعتذار عن الانقلاب في غزة، الذي أدخل الساحة الفلسطينية إلى أخطر مأزق في تاريخها، استخدام ما لديها من القوة لمواصلة تحدي هذه القرارات بطريقة أخرى.
فانعقاد المجلس التشريعي بهذه الصورة جاء وفق رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية لتأكيد أن هذا المجلس هو بيت الوحدة الفلسطيني، من دون أن ينتبه إلى حقيقة أن أيا من الكتل الأخرى في المجلس، لم توافقه هذا الرأي ولم تحضر تظاهرة الوحدة هذه، بدعوى أنها غير شرعية.
إن تمييع مفهوم الشرعية والقانون وتحويلهما إلى لعبة مفضوحة لتظهير المصالح، يمثل خطرا لا يقل شدة عن خطر الاقتتال. ففي الاقتتال تذوب حرمة الدم الواحد وتلغى التمايزات بين العدو والصديق، ولكن في ضرب مفهوم الشرعية والقانون تذويب وإلغاء لما تبقى من عقل وحكمة.

حلمي موسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...