هيفاء المنصور: إزاحة النقاب
منذ اللحظةِ الأولى للقائي هيفاء المنصور أصابني شعاعُ الذكاء الحاد المندلع من عينين لا تكفان ثانية واحدة عن محاولة اكتشاف الوجود والكائنات، وإدراك الآخر وسبر أغواره.
فطنة هيفاء المنصور تجعلها مدركة ان حضورها الإعلامي الواسع والسريع كأول إمرأة سعودية تخوض مجال الإخراج السينمائي، لا يعود الى القيمة الفنية لأفلامها وإنما الى موضوعات هذه الأفلام أولاً.
لا يعني هذا الرأي تقليلاً من شأن المخرجة الشابة التي يُحسب لها انها الأولى بين بنات جنسها وجنسيتها حين تجرأت على خوض مجال لم يسبقها اليه أحد من النساء. وقلة من الرجال فقط حاولت قبلها وضع اللبنات الأولى لحلم يُداعب خيال كثيرين من السعوديين أسمه: السينما السعودية.
طبعاً الحلم لا يزال بعيد المنال خصوصاً مع «أل التعريف» ، ثمة فارق شاسع بين «السينما السعودية» و «سينما سعودية» ، والوصول الى الأولى يمر حكماً، او يبدأ من خلال الثانية. المطلوب أولاً سينما سعودية، وهذا الأمر بدأت تلوح تباشيره من خلال الأفلام القليلة النادرة التي بدأت مع عبدالله المحيسن وراحت تزداد ببطءٍ شديد مع دخول عنصر الشباب على الخط، ومنهم هيفاء التي سجلت اسمها في تاريخ بلادها كأول امرأة تقتحم عالماً لم ينوجد بعد وهو السينما السعودية، لأن بضعة أفلام لا تتيح للحالمين إضافة أل التعريف الى حلمهم.
لا يضير هيفاء المنصور على الإطلاق ان أدواتها التصويرية والإخراجية والمونتاجية لا تزال ضئيلة وغير ناضجة، وهذا متوقع في بلدٍ يفتقدُ كل عناصر الصناعة السينمائية، من الدراسة الأكاديمية الى صالات العرض وما بينهما. فهذه الأدوات والتقنيات تتوافر بالتجربة، وهيفاء تنضج فيلماً بعد فيلم واختباراً تلو اختبار، وأية مقاربة لأفلامها الأربعة إخراجاً تتيح فرصة التعرف الى الشوط الذي قطعته منذ فيلمها الأول «مَن...؟» الى فيلمها الأخير «نساء بلا ظل» ، أما فيلم «كيف الحال» فكانت مساهمتها فيه انتاجاً لا إخراجاً.
تعرف هيفاء المنصور قبل سواها ان موضوعات أفلامها هي التي جذبت الاهتمام ولفتت الأنظار وجلبت الجوائز، لكن هذا الأمر، مرة ثانية، لا ينفي عنها صفة الريادة والأسبقية بين بنات السعودية، وهذا دأب الرواد، ان يبدأ أحد ما من مكان ما ثم يلحق الآخرون مطورين ما بدأه. وهذا ما فعلته هذه الشابة المتقدة شغفاً وحماسة، والتي نتعرف من خلالها الى نماذج من النساء السعوديات الرائدات في ميادين شتى، بعضهن ظَهَرَ الى العلن والضوء، وبعضهن لا يزال خلف الحجاب والعتمة. ولست أقصد بالحجاب غطاء الرأس او نقاب الوجه، فهذا شأن سواي، بل أعني حجاب العقل الذي يضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل، فارضاً عليها ما يخالف الشريعة والمنطق، وهذا «الحجاب»، يفرضه الرجل على المرأة مثلما تفرضه المرأة على نفسها، حين تستلذ دور الضحية أو تستكين له وتروح تبحث عما يبرره ويبيحه. وحجاب العقل ليس حكراً على النساء دون الرجال، ولا على المنقّبات دون السافرات، فكم من رجال يرتدون آخر صيحات الموضة وينظرون الى الحرية والتحرر وهم من داخل اكثر تخلفاً من البدائيين، وكم من سافرات حاسرات لا يفقهن من الحرية والتحرر سوى القشرة الخارجية الزائفة الزائلة.
هيفاء المنصور نموذج ناضج للفتاة السعودية المدركة ان ما يحررها ويحصنها هو العقل قبل سواه، لذا تسعى في مسيرتها الإبداعية الى إزاحة نقاب العقل لا نقاب الوجه، لأن الله عز وجل أمرنا بإعمال عقولنا في كل أمر. ومحاكاة العقل واجب أي مبدع، أما نقاب الوجه فلنترك أمره الآن للفقهاء يفتون فيه ويختلفون، أو لنتركه للمنقبات أنفسهن، فالزي خيار شخصي ليس لأحد ان يفرضه على أحد.
أنحاز الى هيفاء المنصور لا لكونها، امرأة (علماً أنني لا أخفي انحيازي الى النساء أمهات وأخوات وزوجات وبنات في سعيهن المشروع الى إزاحة نقاب الذكورة المُجحف عنهن)، بل لكونها مبدعة تسعى الى تقديم ما يستحق النقاش، اتفاقاً او اختلافاً، وأستعيد هنا بعضاً من تقديمي التلفزيوني لها: «في عينيها بريق ذكاءٍ حاد، وعلى المحيا علامات شقاوةٍ وفطنة، على مسافة أيام من ثوب الزفاف وزغاريد الأحبة، لكن هذه الشابة السعودية خلعت باكراً سواد التقاليد ولبست أبيض الإبداع معلنة نفسها عروساً لعريس لم يولد بعد يدعى «السينما السعودية» وحفرت اسمها رائدة، لا في رمل الصحارى، بل في ذاكرة بلادٍ لن تكتمل ملامحها إلا حين ترفع نقاب الممنوع عن مبدعيها ومبدعاتها...» .
نعم، لن تكتمل ملامح السعودية الإبداعية الا بالسينما، فهذا الفن أمسى نافذة من نوافذ العصر، وباباً من أبواب التواصل بين الشعوب. والى جانب الرواية والشعر والمسرح والموسيقى والغناء، تتقدم السينما لتكسر الصورة النمطية ولتصوّب الأفكار المغلوطة والأحكام المسبقة حيال هذا البلد أو ذاك (طبعاً الكلام هنا عن سينما مبدعة جادة وراقية لا عن سينما على الطريقة الهوليودية تزيّف أكثر مما تصحح).
لهيفاء المنصور ألف مبروك الزفاف، بالرفاه والبنين والبنات، وللسعودية أحرّ الدعاء بصناعة سينمائية (من المعهد الى الصالة) تعفي السعوديين مشقة الـ500 كلم!.
زاهي وهبي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد