نوبل لتمويل المؤسسات الصغيرة
هذا هو موسم توزيع جوائز «نوبل» على المستحقين في مجالات الأدب والطب والفيزياء والكيمياء والسلام، وأخيراً وليس آخراً، الاقتصاد. لفت نظري هذا العام فوز الدكتور محمد يونس من «بنغلادش» بجائزة نوبل للسلام بالاشتراك مع المنظمة غير الحكومية، والتي أنشأها في بلاده ونالت شهرة عالمية وهي «منظمة جرامين»، والتي انبثق عنها مصرف للفقراء يحمل الاسم نفسه.
التقيت الدكتور محمد يونس للمرة الاولى عام 1969 عندما وصلت الى جامعة «فاندربلت» بولاية تنيسي لأبدأ الإعداد للدراسات العليا هنالك، بينما كان هو يُنهي اطروحة دكتوراه في الاقتصاد. وجلست معه اكثر من مرة الى ان دار بيننا نقاش ساخن حين قام مجيب الرحمن بالانقلاب على جمهورية باكستان الاسلامية عام 1970، وأعلن استقلال بنغلادش، أو «السنغال» آنذاك، وكان هو متحمساً جداً لاستقلال بنغلادش، وأنا كعربي، كنت أكره أي انفصال مهما كان.
والتقيته بعد ذلك مرتين. المرة الاولى في عمان حين اتى زائراً ومشجعاً مبادرة الملك عبدالله الثاني والملكة رانيا لإنشاء «بنك للفقراء» في الاردن. والمرة الاخيرة وحينما كلفت من قبل «برنامج الامم المتحدة للانماء» بترؤس وفد من الخبراء الى بنغلادش لإعداد تقرير تقويمي لدور المساعدات الخارجية في دعم التنمية في ذلك البلد.
وبالطبع كانت تجربة «جرامين» موضع الاهتمام الاساسي. فقد كانت هذه المنظمة، التي بدأت متواضعة وتعرضت لانتقادات كثيرة في السبعينات من القرن الماضي، تحولت الى مارد ضخم يضم في عضويته اكثر من 6 ملايين شخص. وكانت الرائد والمحفز لقيام 600 منظمة اخرى شبيهة بها في تلك البلاد. وقد استفادت هذه المنظمات كثيراً من المساعدات الخارجية والقروض الميسرة التي تأتيها من الخارج. وتحول بعضها من مجرد صندوق مانح للقروض الصغيرة (مايكرو فايْنانْس)، الى مؤسسات استثمارية ضخمة تجني ارباحاً كبيرة، خصوصاً في مجال الهاتف الخليوي.
وفي تحليل دقيق لا شك في ان هذه المؤسسات لا تعطي الصورة المبهجة نفسها عن قرب، مثلما تبدو عن بعد، وان كان هذا الانطباع التقريبي لا يقلل قيمتها او جدواها، ولا حجم الدور المباشر وغير المباشر الذي ادته خدمة لهذا البلد الذي يعتبر من اكثر بلدان العالم فقراً وفساداً.
لقد سبق انشاء المنظمات غير الحكومية في بنغلادش وجود نظام اقراض ربوي فاحش الظلم، شبيه بما كاد يسود في عصر الانبياء الذين حرموه الربا، لأنه يأكل اموال الناس. ووجدت في بعض المناطق المنكوبة بالأعاصير والعواصف مثل «سوارج غنج»، ان قرضاً لا يتجاوز خمسين دولاراً، قد يرهن حياة أسرة كاملة الى المرابي الذي منحهم القرض طوال العمر. واذا تخلف المزارع الغلبان عن سداد الدين في موعده، وهو امر كثير الحصول، فإن الفائدة الاصلية والبالغة 1300 في المئة تتضاعف. وهكذا حتى لو تم تسديد القرض الاصلي، فإن الفلاح يبقى يسدد حتى نهاية عمره. واذا تخلف عن التسديد، يأتي المرابي، ومعه نفر من رجاله فيضربون ويكسرون ويعيثون فساداً، ويأخذون بعض املاكه ويعودون اليه لاحقاً ليفضحوا استمراره في تسديد الفوائد.
في هذه الظروف القاسية والبعيدة عن أعين السطلة، نشأت منظمة «جرامين»، والتي تمنح قروضاً صغيرة بفائدة لا تقل عن 25 في المئة سنوياً. وفي المقابل فإن المصارف التجارية هناك تمنح قروضاً بفوائد تقل عن نصف تلك النسبة. لكنها لا تمنحها الا للقادرين على تقديم ضمانات كافية. لكن فقراء بنغلادش كانوا سعداء بهذه النسبة. وعلى رغم ان رفع سعر الفائدة الى 25 في المئة او اكثر قد وضع للمخاطر الاكبر، لأن الضمان الوحيد هو المشروع الذي قدم القرض من اجله، فإن نسبة تخلف الفقراء عن تسديد القروض في مواعيدها لا تتجاوز 3 في المئة مقابل 17 في المصارف التجارية.
وتنبهت المؤسسات الدولية لوجود هذه المنظمات غير الحكومية، فبدأت تتعاون معها، وتقدم لها القروض. وعلى رغم ان بعضها شابه الفساد، ودخلت الى عملياته اعمال احتيالية، الا ان خدمتها للفقراء، وتشجيعهم على انشاء اعمال خاصة بهم، أحدثت تحولاً كبيراً في المجتمعات المتخلفة، وكادت تقضي كلياً على الربا والربويين في أرياف بنغلادش.
وجدت ان اكبر المنتقدين للمنظمات غير الحكومية، والذين يتهموها بالفساد والعمل لصالح الاستعمار والقوى الخارجية هم الاحزاب الاسلامية. والسبب واضح وهو ان وجود هذه المنظمات ضيّق المجال في هذه الدولة على الاحزاب الاسلامية للتوسع والانتشار. ومن هنا، فإن بنغلادش تشذ عن قاعدة ان الفقر والتطرف الديني يسيران معاً باتجاه واحد.
ان انتشار ظاهرة «جرامين» يستحق هذا التقدير من مؤسسة نوبل، اكثر مما يستحق مثلاً أناس كشيمون بيريز رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق.
جواد العناني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد