لماذا فشل حوار الأديان في تجنب لحظات الاحتقان؟
قبل أربعة عقود ونيف بادر الفاتيكان بفتح حوار مع الأديان كان من نتائجه فتح الطريق إلى علاقة إيجابية بين الكنيسة الكاثوليكية وإسرائيل بعد طول جفاء.
وفي المقابل لم يضع حوار الفاتيكان مع العالم الإسلامي حداً لتنامي وتجذر الصور النمطية عن الإسلام والتي توارثتها أعراقه الثلاث الأساسية: التركي بين القرنين السادس والتاسع عشر، ثم الفارسي منذ الثورة الخمينية، والعربي منذ صعود نموذج تطرف «القاعدة» مرافقاً لخطاب صدام الحضارات الذي بدا شاحباً أمام موجة طويلة من النقد استمرت طيلة التسعينات حتى جاءت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) لتضعه مجدداً في قلب الجدال الاستراتيجي العالمي، وخصوصاً في لحظتي احتقان مرت بهما العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي بدا خلالهما هذا الخطاب وكأنه على وشك الممارسة، الأولى امتدت بين خريف 2005، وشتاء 2006 إثر قيام صحيفة دنماركية ثم صحف أوروبية أخرى بنشر صور كاريكاتورية تسيء الى الرسول (صلى الله عليه وسلم) على نحو أثار عراكاً ثقافياً هائلاً استمر شهوراً عدة، وبدا السجال خلالها حول مفهوم «حرية التعبير» بين إطارين مرجعيين لكل منهما ضوابطه، إذ أصر اليمين الأوروبي على التوسع في تصوره والتعسف في استخدامه على حساب «حرية الاعتقاد»، بينما أصر الوعي الإسلامي على ضرورة الفصل بين «حرية التعبير» و «حرية الاعتقاد».
أما الثانية فتمتد منذ خريف 2006 إثر المحاضرة الشهيرة التي ألقاها البابا بيندكتوس السادس عشر أمام طلاب جامعة «ريجينزبورج» واستعادته لأقوال إمبراطور بيزنطي هو مانويل الثاني ووصفه الرسول (صلى الله عليه وسلم) كصاحب سيف بتار وظفه لنشر هرطقته، وليس كصاحب دعوة مختار جاهد لنشر رسالته، مرتباً على ذلك استنتاجه عن مجافاة الإسلام لروح العقلانية، بعكس المسيحية المشبعة بالروح الفلسفية الإغريقية.
وأخيراً تبدت ملامح لحظة احتقان ثالثة حينما أعادت الصحف الدنماركية نشر الرسوم المسيئة نفسها ما يعني أن اليمين الأوروبي لا يزال يصر على فهمه النرجسي لحدود «حرية التعبير» بحيث تعلو على «حرية الاعتقاد» أو تتسع لتستوعبها. وإذ تقع الثقافة الغربية بروحها الشكية في غواية تجسيد المسيح ونقده، بل والإساءة إليه فناً وأدباً، فإنها تحاول مد غوايتها إلى شخص الرسول الكريم، وهو ما لا يجوز في السياق الإسلامي إذ تربى العقل المسلم على رفض هذا التجسيد، ناهيك عن التشويه أو الإساءة، فجميعها ينال من ضمير المسلم وحريته العقدية، وهو فارق يجب على الثقافة الغربية أن تعيه وتحترمه فلا تفرض على الرسول الكريم محمد طريقتها في التعامل مع النبي الكريم عيسى، إذ للثقافة الإسلامية حق أصيل في صياغة مقدّساتها ومحرماتها، كالثقافة الغربية التي لم تتجاوز فكرة المقدس أو المحرم «التابو» على عكس الادعاء الشائع، لأنها وإن تجاوزت قداسة الدين، قدسّت ما دونه على منوال جريمة «الهولوكوست» على رغم كونها واقعة تاريخية لا يجب أن تخضع للتقديس وإلا بقيت في أسر الأوهام المعرفية الأربعة التي حذرت منها تجريبية بيكون ورفضتها شكيّة ديكارت، وهما معاً جذر العقلانية الأوروبية التي تجافي المطلق، وتعادي اليقين.
وإذ يهدد تكرار تلك اللحظات المحتقنة، بتحولها من حال الاستثنائية إلى مستوى النمطية، ما يصيب حال التعايش برضّة شديدة خصوصاً إذا ما غاب العقل وسيطر الانفعال، ثمة مطلبان وقائيين أساسيان:
الأول ديني: إذ يتوجب على الطرفين، الإسلامي والمسيحي، الاحترام المطلق للعقيدة، وقبول الآخر بحسب فهمه لإيمانه هو، لأن الحوار حول العقائد يصطدم بنقاط جوهرية صلبة، لا يمكن طرحها للمناقشة، ناهيك عن إمكانية حسمها، لأن طرفاً لن يرضى المساومة عليها مع الآخر، على منوال كون المسيح ابن الله، أو أنه المخلص المنتظر لدى المسيحيين، وكون القرآن وحي الله، ومحمد هو خاتم الأنبياء لدى المسلمين. وعلى هذا يبقى كل انتقاد للعقيدة مسيء وغير مجد، فمن الممكن أن يقدم معتنقو أي دين حيثيات موضوعية تؤكد أن دينهم أرقى من الأديان الأخرى، ولكن ذلك لن يكون ملزماً لمعتنقي هذه الأديان الأخرى، بل إنهم سيجدون لديهم ما يحاجون به على أن دينهم هو الأرقى في مواجهة مخالفيهم. فمثلاً أمتلك شخصياً قناعة تامة بصدق محمد وعظمته كرسول، وبإيجابية الإسلام وشموله «كنص» بغض النظر عن تجربة المسلمين في التاريخ صعوداً وهبوطاً، ولكن هذه القناعة ربما تبدو واهنة منطوية على أحكام مسبقة من وجهة نظر الآخرين الذين قد يتهمونني بالتحيز لإيماني، وقد يكون تصورهم صحيحاً على رغم محاولتي أن أكون موضوعياً، لأن للموضوعية حدوداً، وبخاصة في مواجهة الإيمان الذي يفرض على الإنسان رؤية خاصة للحقيقة قد ترجع لجوهر تكوينه، بل قد تكون هي التي حفزته إلى هذا النوع من الإيمان أصلاً، بمعنى أن ذوقي «العقلي» الخاص وعمق إيماني بحريتي على المستوى الوجودي، وحبي لعلاقة مبدعة وأفق مفتوح بين الله وعباده، هو الذي حفزني إلى عشق الإسلام كصورة سامية وشفافة للعلاقة بين السماء والأرض، لم أكن لأومن بأي دين لو لم أجد مثالها.
قد يكون هذا صحيحاً، ولكنه يبقي حقيقة وجودية جوانية لا أستطيع أن أقنع بها أحداً، فمن السهل على معتنق دين آخر أن يكذبني، ولا أستطيع أمامه دفعاً، كما أستطيع أنا أن أكذبه، فلا يستطيع معي دفعاً، وهكذا مهما تعدد الإيمان، وتباينت الأديان. فماذا يعني هذا على الصعيد العملي؟
يعني للجانب المسلم أن يتقبل المسيحيين كما هم، غير واصم لهم بأنهم مشركون كفرة، حتى وإن كانوا، من وجهة النظر الإسلامية، يدينون بوحدانية متميعة أو حتى بالثالوث. كما يعنى للجانب المسيحي أن يكف عن الزعم قولاً وعملاً بأن لا نجاة أو خلاص خارج الكنيسة، كما يقول الفاتيكان، ما يفرض على الكاثوليكية أن تتنازل عن مبدأ رئيسي لديها وهو أن لا نبي إلا الأنبياء الذين تعترف بنبوتهم، لتخرج من حال الشيزوفرينيا التي تدفعها إلى اعتراف أمر واقع بحقيقة وجود «مسلمين» يجب معاملتهم باحترام، بينما تغضي عن عمد، الإشارة للقرآن ومبلغ القرآن محمد (صلى الله عليه وسلم) كنبي صار على ذلك الصراط الحنيف الذي شقه نبي الله إبراهيم، وسار عليه من قَبْل موسى وعيسى عليهما السلام.
وأما الثاني فثقافي: وهو تجاوز الاستعلائية الكامنة في نزعة التمركز الغربي حول الذات، ما يقتضي تجاوز مفهومين أساسيين لدى العقل الغربي أولهما: هو مركزية الاستثنائية الإغريقية في التاريح الفلسفي، حتى أنها تصبح الجذر الوحيد لكل عقلانية ممكنة، فلا توجد عقلانية أخرى خارجها. وثانيهما: هو المفهوم العنصري للثقافة والذي يتصور بقاء هذه الفلسفة نقية خالصة إذ لم يرفدها مكون ثقافي سابق لها، كما لم يلوثها أي بناء فكري لاحق عليها، حتى ولو كان العقل العربي - وخصوصاً في تياره الرشدي - هو ذلك الجسر الذي عبرت عليه تلك الفلسفة من الوعي الأوروبي ما قبل الجرماني وقبل المسيحي، إلى الوعي الأوروبي ما بعد الجرماني، وما بعد المسيحي، إذ كان السجال الأشد في الوعي الأوروبي طيلة القرنين الثالث عشر والرابع عشر بين الرشديين اللاتين وخصوصاً في جامعة باريس ثم بادوا الإيطالية وبين خصومهم حول مبدأي «وحدة العقل» و «ثنائية الحقيقة» لدى ابن رشد المدافع الأكبر عن العقلانية اليونانية بإقراره لموقف أرسطو من قدم العالم وخلقه، ونظرته إلى الكون باعتباره خاضعاً لنواميس طبيعية، وإنكار علم الله للجزئيات، وعدم تأثير العناية الإلهية في أفعال البشر، سواء في مواجهة التيار المدرسي الذي تبنى عقلانية أقل جذرية وأكثر خضوعاً للإيمان المسيحي، على منوال توما الأكويني وألبير الكبير، أو في مواجهة التيار الذي رفض العقلانية الأرسطية من الأصل، واستدعى المثالية الأفلاطونية السابقة عليها، كما استدعى فكر الغزالي خصوصاً «تهافت الفلاسفة»، في مواجهة التيار الرشدي على منوال ريموند مارتن الذي نهض بعد موت القديس توما بمقاومة الرشدية في كتابه «الدفاع عن الإيمان»، والذي أثبت فيه آراء الغزالي في الخلق بعد العدم وبراهينه في التدليل على أن علم الله شامل للجزئيات، وبرهنته على عقيدة البعث بعد الممات.
تقضي الضرورة التاريخية، والثقافية إذن بتجاوز هذين المفهومين: «استثنائية الفلسفة اليونانية» و «طهرانية العقل الغربي»، حتى لا يظل الوعي الإسلامي خارجاً ليس فقط عن إطار العقلانية الغربية، بل على كل عقلانية ممكنة، ويبقى الحوار بينهما أقرب إلى حوار طرشان غير ممكن أو غير مجد، إذ يتحول إلى محاضرات تعليمية يفترض أن يلقيها الغرب/ المعلم على المسلم / التلميذ ليسمعه فيها أفكاره التي عليه التكيف معها ليتأكد له النجاح / التقدم وإلا فهو الإخفاق، فيكون الرد العربي الإسلامي هو نفسه، ولو عبر سيكولوجيا بالغة التعقيد هو رد الطالب الكاره للمعرفة والذي يراوح بين رفض قاعة المحاضرات أصلاً والهروب منها إلى ما هو غير محدد بذاته ولا يمكن تعريفه إلا بكونه ما هو خارجها أو بعيد عنها وأحياناً نقيضها الساعي إلى هدم أعمدتها (الإرهاب) وبين الحضور الجسدي بها ولكن في غياب الذهن المكتشف الساعي إلى مد الجسور حيث إلقاء الخطب البلاغية حول قبول الآخر من قبل النخب العربية الإسلامية الناطقة باسم ثقافتها من دون تأثير في كتلها المجتمعية (الإسلام التقليدي)، هو نفسه حال الطالب الذي يلقي بسمعه إلى معلمه قاصداً النجاح لا المعرفة في امتحان تلقيني على سبيل إنجاز الهدف الشكلي من الطقس المراوغ الذي فرضته على الطرفين ظروف تكاد تكون خارجة عن إرادتهما معاً بقدر ما تكاد تكون خاضعة لنظام مستقل تحركه العادة الاجتماعية لدى الطالب في وطنه أو العادة الثقافية لدى الجماعة الإنسانية في مواجهة مثيلاتها.
وإذا كان الحوار اليهودي - الكاثوليكي لم ينجح إلا في ضوء اعتبار اليهودية أحد جذري الحضارة الغربية اليهو - مسيحية، حيث يصعب فصل العهد الجديد عن العهد القديم، فإن الحوار المسيحي - الإسلامي لن يكون ناجحاً إلا في إطار القبول الكامل والصادق بالاختلاف على أرضية الدين الحنفي الإبراهيمي، ولن يكون مثمراً إلا إذا تجاوز المسائل العقدية إلى قضيتين أساسيتين، الأولى هي الأخلاق الإيمانية في مواجهة الأخلاقية الوضعية «الشاذة» كمجال ثري لفاعلية الدين، والثانية هي السلم العالمي في مواجهة نزعات الهيمنة الغربية وبؤر التطرف الإسلامي كفضاء موضوعي لفاعلية الثقافة. وعندها لن يكون هناك مبرر للحديث عن صدام حضارات، بل ينفتح الطريق واسعاً أمام تجاوز خلاق للصياغة الحدّية «شرق - غرب» أو «إسلام - مسيحية» قبل أن تتحول ثنائية أقنومية راسخة ونهائية.
صلاح سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد