قداسةٌ دون مقدسٍ
ماذا يعني الدينُ في المجال العام؟ أيعني توظيفاً له؟ إذا كانت المسألة كذلك، هل تصّحُ كلمةُ استعمالٍ إزاء المُقدَّس؟ الاستعمالَ يرتهن بالمعتقد كنظامٍ رمزيٍّ؛ أي يعطي الدين نفسَّه(بنفسه) مبرراً للتدخل في الحياة، بل في أخص مجرياتها. وستكون لدي أصحابه ذخيرتُّهم الخطابية لإثبات هذا.فهي ستفرز رؤاه النوعية التي يخلعها على الأشياء، بينما سيراها الأكثر يقيناً إزاء أي شيءٍّ مهما يكُن مغايراً. فرسالة الدين تمنحُ حقَ التدخل، بل حق التخطي، إنْ لم تحسم المواقف حول الحياة والعالم والإنسان والموت والثواب والعقاب. لكن أليس ذلك فخاً أيديولوجياً لما هو ديني دون حذر؟! ألاَ يضعه وسط التنوع البشري؛ أي التهديد بتصفية المقدس؟!
ربما الأمر غيرُ واضحٍ. كيف لشيءٍ تأتي أهميته من نفسه؟ الدين هو المتن الوحيد تقريباً الذي يستمد مشروعيته من ذاته. ولأنَّه مؤسسٌ على الإيمانٍ فتلك المشروعية تظل ساريةً بقدر مزاعمها المتواصلة. بل يتنازل المتدينون عن قلُّوبهم ابتغاء تجسيدِّها في فعلٍ ماديٍّ، تنازُل هم يرونَّه عملاً مقدساً يستحيل تركُّه. تلك الفكرة ستصطدم بقضاياً كثيرةٍ. كيف لقلب مكتفٍ بتجربته أنْ يصير مؤسسةً عموميةً، وأنْ يتخلَّق في علاقات، وأنْ يكون جلباباً وطقساً ومنديلاً وشعاراً جامعاً كشعار“الإسلام هو الحل”؟!
هنا لا يغدو الدين ديناً، إنَّه يخضع للفعل الإنساني، تاركاً قواه التَّصورية تمسّح(تنظِّف) جذورها في أشكال متناميةٍ وأكثر اتساعاً. وهذه هي الطرافة:حينما يدخل الدين فضاءً عمومياً يتخفف من أعباء دجمائية تواصلاً مع الآخر. كلُّ تصور ديني محكوم بهذا البُعد طالما يجري أمام آخر حتى وإنْ كان مُؤمناً به. وإذالم يدرك المتشدِّدون ذلك يعتبرون الدين أداة إرهابٍ لا يقصُد أفراداً فقط بل المجتمع إجمالاً. وما لم يتجسد الايمانُ خلال بدائل أبعد من الأهداف الضيقة سيصبح الدين قناعاً برجماتياًpragmatic mask للمآربِ والمصالح.
تحولات الدين
دأبت الجماعات الإسلامية على إغراق الحس العام بالشعارات والرموز والنصوص الدينية. لم يعرفوا أنَّ الاغراق هو ذاته اغراق للشعار في عملية تمزُّق حيٌّ. لأنَّ المعتّقدَ شعارٌ ليس يبلغه جميع الناس بذات الأسلوب ونفس الأيديولوجيا. هذا سر خوف جماعات كهذه من “رُهاب الواقع”(1)، بل يسعون ليلاً ونهاراً لتعميته. فلئن كان الشعارُ والنص مقولتين لغويتين فإنَّهما كذلك حجابٌ سيميائيٌّ لعمل شيء أعمق. إنَّهما يعيدان كتابة الفعل على أكبر نطاق بفضل مخزونه الرمزيِّ. لا يبتعد التاريخ الدلالي للعلامة الدينية عن مكوثه كأبي الهولعبر الواقع المتحول. فالواقع رغبةٌ هي “الكتلة الفاعلة”2 في الوجود الاجتماعي العام.
لكَّم حاولت الجماعات اقتناص أية فرصة للتماهي مع هذه الرغبة. وكم سعت- أثناء الربيع العربي- إلى مبادلة الرغبة بكتل الحشود لالتهام المجتمع. لهذا كان التّيار الديني يرشق الشعارات في كلَّ تظاهرةٍ وفي أدنى فعلٍ عامٍ. ليس من باب أسلمة المجتمع، هذه القشرة البرانية كقشرة الذهب المزيف، لكن لكّون الأخير عصيَّاً على التواطُؤ الخاطف. فبناء الواقع عملية تاريخية ثقافية لا تنتهي. وبما أنَّالتيار السابق لا يملك إلاَّ دفاتره القديمة، فماذا يعمل سوى تفتيشها أثناء الأزمات بطريقة جحا حين يُفلّس؟!
استعمالُ الدين عبارة عن تحويلهtransform إلى قوةٍ لتنشيط الأفعال والتصورات الخاملة. وعليه فالدين ليس مادةً ولا محتوى. إذا كان ثمة دينٌ فإنَّه يأخُذ مظهراً فردياً. ولن يظهربكامل عتاده الرمزي في محيط عام. حتى في أنظمة حاكمة تتبنى لاهوتاً سياسياً يضمن هيمنتها، لا يطغى الدين إلاَّ كمرجعية مسكوتٍ عنها. هي من حيث زرعها في العقل الجمعي تختفي، فتكمن في سلوكيات وبرامج نظرية، في عبادات وشعائر تُوجِد دلالات فردية أكثر منها نمطاً مُوّحداً من المعتقد. بل يُختَّبر هذا الدين اختباراً خطيراً، لأنَّه يجري تعريته لعيون فاحصة ووعي ناقدٍ. هل كان لأيَّة ممارسات دينية أنْ تتعرض للنقد من غير انصرافها مثولاً في حياة مباشرة؟
هكذا لن يمر الدينُ في المجال العام دونما شيء ما يحدث في أبنيته الصامدة. بالتالي سيحمل بذرةً مضادةً بأعمق مدى لمسيرته الروحية، لأنَّه يتعرض لما يتراكم من رواسب أيديولوجية. على الأقل لن يجري كما هو ولا مثلما يحاول معتنقوه الارتباط بتجاربه الأصلية. فلا يمكن تنحية الدين عن الصراعات وفي ذات الوقت يستحيل المحافظة على مقدساته بلا تأرُّخ وإعادة صياغة(3). الفكرة نفسها(أي الدين الخالصpure religion) بلا منطق إلاَّ إذا تأسست على الصرامة الوجودية. وهذا الأمر له ثغراته المزدوجة لأنَّها تثبت عكسها:
أولاً: سيُفرض الدينُ فرضاً وإنْ قبلته أطراف المجتمع قاطبة. الفرضُ يعني وضع الدين على فوهة التساؤل اليومي. لأنَّ ثمة متابعة المؤمنين لبعضهم البعض مع الطقوس والشعائر.
ثانياً:يبلغ الدين- بمفاهيم ومعتقدات – إمكانية مختلفة عما يقصدها، مختلفة لدرجةأنَّ التنوع في النظر إليه لا يُحدُّ، على مستوى الدين الواحد فما بالنا بأديان عدّةٍ.
ثالثاً: ينبغي إيجاد نموذج خارج الأفراد يستثمر قوى الدين حتى لو على صعيد الأفرادِ.
رابعاً: يمتنع المؤمنون عن اقتحام المغايرين، بل يظهرون مواقفهم المحتملة إزاء الواقع والحياة. هذا الامتناع لا خيار لهم فيه. لأنَّ مجالاً عاماً بحكم نسبيته يستحيل الهيمنة عليه إلاَّ قسراً. وإذا أخذ بقبضة دينيةٍ سيكون مصيرها التفكك والتحلل.
المجال العام
يمتص المجالُ العام قدرات الدين نافياً أيَّ مقدسٍ من الوضع اليومي إلى الكلي. فالتغير حاضرٌ في تفاصيله كما أنَّ تبادل المواقع أمرٌ لازم بذات الدرجة. لذلك حاولت فلسفةُ التنوير نزع الطابع الديني بإظهار اختلاف المقدس باختلاف المجتمعات معرفياً وفكرياً(4). وبالتالي ستتحول القداسةُ إلى هذا المجال نفسه دونما مقدساتٍ ودونما آلهة ودونما سلطات أبدية. إنَّ الدولة ميتافيزيقا سياسية أرضيةعاملة على استهلاك المقدس إلى الرمق الأخير. وبدلاً من عجن الإرادة العامة باللاهوت فإنَّها تعجنها بالحرية والديمقراطية. بالتالي لا يمرّ ذلك التخلُق العام(أي الظهور وإمكانية الانبثاق والاستقلال) اعتباطاً. فلئن حُمل الدين من تلقاء نفسه أسبابَ وجوده، فلم يعد هنا منفرداً بذاته، لقد قفز خارج ذاته في كياناتٍ متطورة تاريخياًعبر الإرادة العامة.
في هذا الوضع يُفهم أيُ مبررٍ بواسطة مبررات الآخرين، مبررات المؤمنين تحديداً. فهم باشتقاق اللفظ مؤتمنون على ما في قلوبهم حتى يبلغونه واقعاً. وهذا ما يُسمى بتطبيق تعاليم الدين، أو بعبارة الجماعات الإسلامية تطبيق الشريعة. لكن هذا نفسه أيضاً يُفشل كلَّ محاولات امتلاك الآخر باسم الدين، ويأخُذ هؤلاء في جعل الحياة مسوغاً كلياً لهبوط الوحي في التجربة الإنسانية. كما لو كان هبوطه من السماء قد حدث تواً لا سلفاً. هذا “الجعْل” يتشابك فيه البُعد الروحيُّ مع البعدين السلوكي والاجتماعي. ويظل مميزاً بهيمنة الاعتقاد على الممارسةلاستعادتها كلما تفلَّتت منه. بالتالي يستحيل صبغ المجال العام بسمات دين بعينه دون فشل الاثنين معاً(5). والتجارب السياسية للحكم الديني أياً كان نبوياً أم بشرياً لم يحكم من غير قوى في المجال العام. إذن لم ولن يكون حُكماً بأمر فوقيٍّ قاهر لا رادَّ له.
هذا سيفرض علينا تحديد المعنى بالنفي كعادة اللاهوت السالب. فلم يعد الدين بتلك الأطر وعياً مفارقاً، إنما قد يتهيأ لأصحابه انبثاقه من باطن الأشياء. فالموضوعات المادية بإمكانها الرمز إليه. بل فجأة تستحيل إلى شبكة دالة على معتقداته. كثيراً ما صُورت بعض الأشكال والأجنة في أوضاع معينة كدلالة على مظهر ديني، أو بوصفها معبرةً عن آيات كونية. والحقيقة يمثل الانسان والكون من تلك الزاوية مجازاً بلاغياً لوجود الله. وتكاد كافة الأديان تشترك في تصوير دلالي كهذا(6)، إنْ لم تكن تلك السمه تقرب رؤى الدين(لا أقول الدين كما هو) في لاوعي أصحابه من الاستعارات الخيالية. استعارات كانت كفيلةً قديماً بملء الكون بالأرواح والكائنات النورانية والشريرة وصور الكواكب السحرية والنجوم التي تؤثر على مصائر البشر.
لكن رغم هذه الصور إلاَّ أنَّها لا تمس المجال العام بعمقٍ. وقد تبتعد تبعاً لمنحاها التقديسي عن التأثير في أوضاع المجتمع. ونحن نميل إلى اعتبارها غير مرتبطة به مباشرة ولا نحبذ أنْ تؤدي مهمة في هذا الارتباط. إزاء ذلك نميز بين ثلاثةِ جوانب في الدين. أولا: مصدر الدين، وهو الله أو القوة العليا في أغلب الديانات تقريباً. ثانياً: وجود هذا المصدر في مرجعية نصيةٍ، أي كتاب مقروء بقانون الدين نفسه أو كتاب منظور(الكون) بإسقاط المتدينين له. ثالثاً: تشكل هذه المرجعية عبر نظام أو أبنية قيمية ومعرفية وثقافية.
النقطة الأخيرة كما نلاحظ هي التي تتغلغل في المجال العام. فهي تشكل المرجعيَّة الدينية حتى يعود متجسدّاً بعد إنْ كان معتقَدَّاً. الفكرة بهذا المعنى تمثل نمطاً من الحياة وتؤكد عليه الطقوس والأفعال الرمزية. غير أننا سنلاحظ أن الجوانب الثلاثة ليست واحدة. المطلوب من المؤمنين البحث عن تطابقها. بل لن يتم عمل ايماني دونما هذا التطابق بين (المصدر- المرجعية- النظام).
وإنْ كان النظام غير مكتمل فلأنَّه يحتاج إلى حقائق جديدة مع كل واقع. هو تجربة مبتكرة في ظهورها. غير أنَّ الثقافة الدينية( لا الدين) تحشوها بمادة تقليدية، وتجعل إيقاع الطقس الديني كأنَّه مواد حياتية ملموسة. وتدريجياً يستغرق الطقس ملكات أصحابه ومواردهم الذهنية والطبيعية حالاً محل الحياة. فأيُ ثقافة من هذا النوع تطمس الإدهاش الأولِّي، الإثارة الغضة لتلك الموارد. فهي تغدو عملية نقل لا تغيُر فيها. وبات مطلوباً من المؤمنين حفظاً وترديداً وابقاءً على الأثر حذو الأثر والسلوك حذو السلوك والعقل حذو العقل. كقطع من القرميد الملون المتراص تمسك سقف الفكر تحت إطار محكَّمٍ. وهذه إمكانية تجعل كلَّ تصور ديني قابلاً للانحراف. ليس بطريقة الصواب والخطأcorrectness and error وهذا أمر مهم أيضاً. لكنه سيكون عرضة باستمرار إلى نزوع شكلي. فالشكل كمظهر مخاتل وغوّاء هو مرآة العمل الديني العام.
طبعاً لا يكون هذا الوضع الشكليبصددالمعتقد والايمان. فهذان لهما جذورهما في أعماق المؤمنين ولا سبيل إلى كشفهما. كما أنَّ أي دين مكتمل بنفسه طالما يتمتع بفرض مبرراته الذاتية وطالما كان نسقه الرؤيوي شاملاً وغير بائن الثغرات. والأديان من تلك الجهة أديان تامة وتعيش تجربة الاكتمال الخاصة. ليس هناك اختلاف بين الأحدث أو الأقدم منها حتى ولو كانت أنماط أولية من التصورات والمعتقدات. كل ذلك فقط يختلف داخل المجال العام. لكن ما السبب؟
الدين خارج ذاته
عسف مستعملي الدين بالمجال العام إنما يأخذ مواقعه تحت أقدام الساسة ورجال السلطة في تاريخ الوعي العربي الإسلامي. فهؤلاء انتهكوا المجال العام انتهاكاً أجهز عليه من قعره. وترك به بثوراً لن تندمل إلاَّ بعد سنوات من التراكم التاريخي. بل المناسب أنَّ أيَّة ظاهرة هيمنة على الوعي الجمعي كان أساسها هياكل سياسية قهرت المجتمع العربي وامتصت لحمه وعظامه. وأرغمته على التنازل على الشأن العام لمن يمسك بزمام السلطة الحاكمة. تلك المواقع كانت محفورة وغارقة بأفكار آسنة منذ قرون.
طبعاً المشروع الديني كان قادراً على نكأ الجراح وبدلاً من تطهيرها أغرق المجتمع في ذات المظاهر ومارس نفس السلوكيات بأسلوب أعنف. ليس لأنَّه لا يعرف الواقع بل لأن الأدوار اللاهوتية السياسية كانت واحدة في تاريخنا الثقافي. بل كثيراً ما تبادلت السيناريوهات والممثلين. وأكاد أقول كتبت الحوار بينهم وبين بقية المجتمع بنفس اللهجة وتعاضدت في انجاز مصالحهاضد عامة الناس. فلم يفلت الفقهاء من التورط داخل قصر خليفة وعبر شبكة تأويل ديني للسلطة. ولم يتورع الساسة عن استعمال الدين لخدمة حكمهم.
هكذا تركت السياسة أحذيتها لكي يرتديها الأيديولوجيون الدينيون دونما معرفة بطبيعة التطور التاريخي ولا بضرورة تجديد خطابهم وغربلة الأفكار التي قُبرت في أكمامها.
في الأخير يتعامل هذا “الفكر التلفيقي” مع المشكلات كتعامل الطاهي مع مواد الطبخ. يحاول ايجاد صيغة لخلط بعضها البعض. فإذا فاته مذاقاً يُكثر البهارات لتجنب الطعم غير المحتمل. وفي هذه الحالة “بهارات الدين”(7)هي الأوضح لتغطي إهدار السياق المعرفي والاجتماعي. وإذا خرج الطعامُ مناسباً يرسل وصفته السحرية إلى مسارح الفكر العربي.
ذلك يعني نقل القداسة إلى المجال العام مع تنوع المقدسات واختلافها. بكلمات أوضح: الانسان حيوان تقديسي، وعندما يقدِّس فضاءً مفتوحاً ولا نهائياً من الرؤى ينفي التعصب المقيت لمقدس أحادي الأيديولوجيا. علينا النظر إلى أبنية السياسة والدين بصورة مغايرة. كيف تعدِّد(السياسة والدولة والحق والغير) انغلاقاً دينياً عنيفاً؟
1- السياسة.
ليست السياسة من ساس يسوس بوقعها المعجمي الحيواني. إنَّها الموت المؤجل لأية دوجما فكرية تلوح في الأفق. السياسة فن الفناء غير المطلق لكل ما هو مطلق وتام الإنجاز. وأي مقدس سيهدف إلى تصنْيم صورتِّه سيكون فحماً حجرياً في آتون الممارسة. سيتحدد في صوره هو خارجها لكنه سيشعل فتيلاً لانفجار كيانه الصوري المؤطَّر سلفاً. من ثم هناك علاقة نادرة الظهور بين السياسة والجنون وألعاب البهلوان.
التوقيع البهلواني في الفعل السياسي هو حبر تاريخي لكهان ودهاقنة السلطة. البهلوان يفهم في الدين أكثر مما يفهم رجل الدين في خطابه. لهذا كان ملحوظا تحوُّل الإسلاميين إلى بهلوانات بامتناعهم الزائف عن التنوع. لأن المفارقة: ستنسخ السياسة أكثر من صورة لهذا الإسلامي، فيغدو لاعباً في السيرك وخطيباً مفوَّهاً في جلباب واحدٍ، لا لشيءٍّ إلاَّ لأنه داخل السياسة. أين التقديس؟ إنَّ مخزوناً تمثيلياً بهلوانياً هو نفسه الخطاب السياسي الديني. بذات الوقت يقبل السيرك السياسي أعضاء السيرك الديني دونما ضغوط، بل يعطيهم كامل المساحة لإبراز عضلاتهم البلاغية. والمعجم يراوح بين البوليتيكا بالمضمون السياسي Politicsوالاستعمال الشائع للحيل والألاعيب والإبهار.
دخول الخطاب الديني هذا المجال لا يبعد مضمونه عن بوليتيكا اللاوعي، اللاوعي جراب ضخم كما الحياة يغص بالمناورات والصراعات(كما يقال شعبياً: يا ما في الجراب يا حاوي). فالخطاب الديني يلجأ إلى أساليب مؤثرة بذات المنطق الثقافي الغالب. الخطاب عمل سياسي في المقام الأول، هذا العمل يعود عليه بالتآكل المفاهيمي والدلالي. لأن السياسة فضاءٌ لصراع الرغبات وإدارة الدهاء بشكلٍّ ممكن وليس شرطاًقبوله أو عقلّنته.
2- الدولة.
الدولة بالنسبة للخطاب الديني أشبه بالزهور آكلة الحشرات. تفرز مواداً وروائح جاذبة فإذا بها تصبح قاتلاً متوحشاً، تذيب الأجساد وتسحق العظام. والجماعات الإسلامية رغم تكفيرهم للدولة لكنهم يحولونها إلى صنم لاهوتي جديد باسم أسلمة النظم السياسية. فالدولة تكنولوجيا سياسية وهي أسوأ أفضل الحيل المطروحة لتدبير شؤون الإرادة العامة.
لكن الإسلاميين يعتبرونها داراً لرعاية الأيتام والعجائز. هم أنفسهم الأيتام، فلقد فطموا سياسياً بحرمانهم التاريخي من أثداء السلطة ولم يجدوا أباً رحيماً ولا أماً رؤوماً. فما كانوا إلاَّ لاهثين على مقاعد الحكم، هذه الرضاعة البديلة لكل رحيقها الرمزي. رأينا الإخوان المسلمين بمصر يبتلعون الدولة جغرافياً وإدارياً. كانت الجماعة نوعاً من الكائنات المنقرضة كالماموث والديناصور.ثم تعاملت مع الدولة بهذا الفهم الحفري، لم يدركوا معنى الحياة المعاصرة ولا آليات الحكم الديمقراطي ولا قيم التعددية السياسية.
لم يكن حتى رئيسهم(مرسي) يفهم أية دولة يحكم. كان رئيساً على كف مرشد؛ أي كان محمولاً على غيره. وأحالته مفاهيم الدولةُ كجهاز حساسٍ سياسياً للتقاعد المبكر. أكبر أعداء الإخوان ليس الأحزاب ولا المختلفون أيديولوجياً ولا العلمانيون إنما كيان الدولة وذكاء الأنظمة الحداثية. لأنَّهم عاجزون عن استيعاب حقيقتها ولا كيفية إدارتها. هناك خصاء سياسي حدث لكلِّ جماعة إسلامية تزعم ذكورة دولة الخلافة، لأنَّها لم تكن دولة إنما إقطاعية لاهوتية المرشدُ رأسُها بينما الرئيس عاملاً في ديوانه الوهمي.
3- الحق.
كلُّ مبرر لاهوتي ليس حقاً وإنْ ظهر هكذا. بينما الحق الفعلي يستعصى على اختراق مبرراته واستنفادها. الحق لا يستجيب للون ولا لشكلٍّ ولا مركز لكونه خارج الانحياز، خارج إمكانية لي عنق الإرادة العامة. الحق هو فائض الوجود بالنسبة لأية أيديولوجيا دينيةتناوئ الآخر. الحق يتجاوز الديانات والمذاهب والسياقات. لأنَّه يخصُ الإنسانَ كإنسانٍ لا يُجدي لونه ولا عرقه ولا طائفته ولا تنظيمه الديني. لذلك كانت فكرةُ الحق عصيةً على الترويض في تاريخ المجتمعات الإسلامية. وهي أقرب الأفكار لتعرية الجذور السحيقة للتسلُّط.
وعلى الرغم من ترديد مقولة الحق إلاَّ أنَّ الجماعات الدينية لا تعرفُ ماذا تفعل إزاءها. الحقُ ليس دينياً ولا أيديولوجيا ولا اجتماعياً ولا سياسياً ولا ميتافيزيقياً ولا تاريخياً. إنَّه ليس جميع ذلك.إضافة إلى هذا يعتبر حقاًفوق الشروط، لكونه مشروطاً بنفسه إزاء كلِّ الرهانات والقوى والتوازنات. فهو غير مؤجَّل ولو أُجل سيجدُّ من يطالب به دائماً. وإن غاب المطالب سيكون المجتمع إجمالاً موضِّع تساؤل. لأنَّ الحق ليس ملكاً لفرد إنما ذا مكانة كلية.
والحق أكثر من كونَّه مقولة انطولوجيةً تتّجسد في مؤسسات ولوائح وقوانين ودساتير. ثمة إيماءة إسلامية بارزة أنَّ الله يستجيب لدعوة المظلوم:“وعزتي وجلالي لأنصُرنك ولو بعد حينٍ” وإيماءة أخري لم تفهمها جماعات الإرهاب: “اتقِ دعوةَ المظلوم ولو كان كافراً”. ما مدلول ذلك؟ الحق أبعد من الدين نفسه ويساوي الوجود الإلهي في شرطه لذاته خارج العالم، ويوازي الحق قسمَّ الإله على ذاته تبعاً لقدراته اللانهائية. إذن تفكِّك تلك المقولة أيَّأيديولوجيا دينية تضيِّع حقاً كان مفعولاً. فالحق يخلق مجالاً يترصد من يعتدي عليه ولو باسم الدين.
4- الغير.
ليس الغيرُ بعيداً عنّا، هناك حيث لا وجود أو هكذا نتمنى التخلص منه أنطولوجياً. هذا التمني الذي يزيح كلَّ ما يُمثل خطراً على الأنا. الغير داخلنا في صور ليس أوضحها الأنَّا مقلُّوباً بشكل ساخرٍ. إننا نقلَّبه على جميع الأوجه كراهيةً وحباً للنقيض. مشكلة الجماعات الدينية أنهم يقتلون الغير المختلف عنهم بينما هو فيهم؛ أي يضعونه في رداء وثني لتصفيته من جذوره.
الغير هو الممقوت فتحاً لقوس الكراهية إلى نهايته القصوى. يحتوى على كلِّ نقائصنا وكل شراستنا. بينما هذا الغير عصيٌّ دوماً على الدين، لأنَّه لا يخضع لمنطقه. يكفي أنَّه لا يؤمن به ولا يضمر أيَّ اعترافٍ به. والأهم استدعاء المجال العام ليقطن فيه على مرمى الأنا متجسداً ومترقباً. هل يمكن تجاوزه؟ ليس بإمكان الدين تجاوز الغير. وذلك باعتراف الدين نفسه:“من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. هذا العمل بمثابة فتح جبهة للغير والآخر في جدار الدين، في بيت المقدس. الغيرُ يسكن تاريخ الدين وليس بعيداً عنه. ودراما الشيطان في الخطاب الإسلامي: أنَّه “يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق”، كيف نقتل أو نكفر الغير إذن؟
واثباتاً لقضية أبعد فإنَّ النفس تحمل النجدين(الضلال والهدى) معاً. إذن نحن الغير بالقوة في شكل وجود بالفعل بلغة أرسطو. وتلك القضية تدمر أيَّة أيديولوجية لاهوتية تزعم خلوصها النقي في قلوب مؤمنة. وتثبت استحالة وجود جيل ولا جماعة طاهرة ومصطفاة.
الهامش:
1- نظراً لعمل الجماعات الاسلامية تحت الأرض بأساليب سرية،فالواقع يمثل بالنسبة إليهم مصدراً للرعب الديني. والحقيقة ليس هذا السبب فقط بل يعتبرونه كفراً بواحاً يواجهونه بكل العنف الكامن في خطاباتهم وممارساتهم. بالتالي يعد الواقع رُهاباً يتجنبونه بالعزل الشعوري والنفسي والحياتي. قد يقال إنهم يحاولون الاستيلاء عليه فكيف يعتبر رهاباً؟ إنهم يقابلون هذا الرُهاب بالحشود والكتل البشرية التي تصارع القوى الأخرى. وبالمقابل يعد الواقع غامضاً غموض تلك الجماعات برغم معرفة نشأتها وأفكارها. فكم أساء الإخوان المسلمون فهم وتحليل الثورة المصرية لا لشيء إلاَّ لأنَّ الوضع الاجتماعي- من وجهة نظرهم- وضعاً ماجناً ومنحرفاً عن درب الإسلام. وكذا الوضع السياسي إذ يتجه نحو محاربة الدين دوماً. بالتالي لا تكفر الجماعات السياسيين بل يحاولون استئصالهم من الواقع. وأخيراً بعد خروج الإخوان من السلطة فاشلين فشلاً ذريعاً سيكون الواقع نكبة أكبر من نكبة الأندلس وفلسطين. وسيتحول الواقع إلى ذاكرة سوداء، مظلمة، بحجمالرغبة في وجود الاسلام!!
2— الرغبة العامة كتلة سائلة لدى الجماعات الدينية كما هي كذلك بمنطق الثقافة العربية ومنطق الجموع الغفيرة. إنها بلغة مادية تتجلط كالدماء من أجل التأثير في الواقع. فمن أجل تحريك الأحداث الثورية كانت الجماعات والأحزاب والنقابات تسهم في هذا التكتل العام كأنه مادة متجلطة سياسياً. ومن ثم تنشأ الأحزاب والجماعات دونما تأثير حقيقي. وهذه الرغبة ناتجة عن انعدام التحرر الفعلي في الثقافة العربية كما أنها ترتكز إلى رغبة القطيع في الاستنفار لإدامة الصراع. وبفضل غياب الديمقراطية والنقد وروح التسامح تأخذ شكلاً جمعياً من العداء العام المتدثر مرة بالدين وأخرى بالطائفة وغيرهما بالأيديولوجيا.. وهكذا. لهذا تلتهم الرغبة الجمعية كل بعدٍ فردي أو ليبرالي مستنير واضعةً له داخل ماكينة الكتلة ليخرج معدوماً مثل الفضلات!!
3— كل تصور ديني بمثابة إعادة وحذف لذاته، لجزء منه ولتراكم ما عليه كما تتراكم الطبقات الجيرية على الأسنان.بكل قوى الدين(ميتافيزيقا- شريعة- طقوس- رأسمال رمزي) يتحدد في شكل بسيط ينفض عنه غباراً دائماً. هذا ناتج عن نقصان الإيمان الكافي لإتمام العمل الديني بما فيه الاعتقاد. كذلك لا يتعين الدين بحكم مطلقه إلا في أقنية التصور البشري ونحن نعرف أن كل تحديد سلب. إذن يجري السلب بنائياً على أي موضوعات دينية. حتى أنَّ هناك مقولة تدل على كون القلب أتياً من التقلب فيواجهه الفقهاء بدعاء وقائي:“يا مُقلِّب القلوب ثبت قلبي على إيمانك”
4- اتجه فلاسفة النهضة ( فولتير وهوبر وهيوم) ومن قبلهم بودن إلى نزع الأساطير والطابع الثيولوجي عن العالم. فنشأ الدين الطبيعي حتى يتركز النظر حول ماهية الأشياء في ذاتها. وهذا الأمر جعل الدين في حالة فعل غير مادي؛ أي تقرر سياق الدين دون خلعه على الكائنات. كما أنه وضع الأشياء في مجالها الطبيعي دونما أساطير وأسرار. فلقد كانت الأساطير تصنع من العالم كائنات ليست ذات إمكانيات معقولة وبالتالي تخضع للتقديس. إذ ذاك كما في العصور القديمة يغدو التقديس طبقة ميتافيزيقية سميكة تخفي الطبيعة وتأسطرها. الأساطير خملت وتراجعت لكن الوظيفة الاستعارية والدينية لم تنته بعد. إنَّ استعمالاً للدين بهذا الشكل –حتى ولو في نطاق محدود- يخلع على الأشياء أردية وعلامات مقدسة ليست لها ولن تكون. لعلنا نرى هذه القداسة التي يتعامل بها أعضاء الجماعات الدينية مع الشيوخ وسلفاً وراهناً. إنه التعامل ذاته الذي يستعيد وظائف الديانات القديمة. ولهذا فالمجال العام يبطل مفعول هذه الوظيفة التي تتكرر كالفيروسات التي توجد منذ ملايين السنوات. والمجال العام حين يبني نفسه على العقلانية والديمقراطية والاستنارة إنما يأخذ القداسة. لكن بمنظور عدم المساس به لا تحويله إلى لاهوت سياسي ولا اجتماعي. إنَّه قداسة أرضية ناتجة عن عدم المساس بالآخر انساناً وإرادة.
5- مشكلة جماعات العنف الديني هذا الإصرار على اقحام الخطاب الأيديولوجي في المجتمع. لقد تناسوا طبيعة المجتمعات وكيف تتغير وأية ثقافة تواكب التطور المعرفي والفكري.فالخطاب ينضح بمشكلات وأفكاراً ضاربة في القدم منذ العصور الاسلامية الأولى لم تعد لتساير الزمن الراهن. فلا هم يعنون أنفسهم بفهم المجتمع ولا هم يطورون من أساليبهم ولا طروحاتهم. وإذا كانت الديانات جميعاً قد بدأت بالدعوى تدريجياً فنشأ هؤلاء المحيطون بالأنبياء فإنَّ الخطاب المشار إلية يؤدلج المشكلات والتحولات بحسب المرجعية الصارمة لأزمنة سابقة. أزمنة لم تتعرض لنفس القضايا ولا لنفس الاختلاف المعرفي ولا لذات الضخ التكنولوجي ولا الانجازات الراهنة.
6- هناك وجه آخر لعدم تجسد الدين في أشكال عامة كأنَّه مادة ومحتوى. فنفي الصفات المادية عن الله كما في الشهادة وكما في الصفات حيث لا يحتويه مكانٌ ولا زمانٌ ولا جهةٌ إنما تمتد إلى الدين جميعه. فكل تصور ديني يسلب نفسه بنفسه كما يبرر ذاته بذاته. وهذا خطر محاولة فرضه كنمط سياسي أو اجتماعي.
وهذا النفي له أكثر من دلالة: أولاً: لا يبلغ إنسان ولا جماعة الحقيقة الدينية من تلقاء ذاته. هي فقط صورة مجازية لنمط من الحياة قابلة للمناقشة والتغير.ثانياً: نفي النفي إيجاب، بمعنى إذا كان الدين لا يقر بنظام سياسي ولا اجتماعي واحدٍ، فإنَّ رفع هذا النفي يتم في مجال عام لا يتلون ولا يختلط بأي أيديولوجيا لاهوتية. إنّه الحقيقة القصوى لتواريخ من الصراعات الدينية والمذهبية. ثالثاً: لا توجد سلطة دينية ولا قدرة على التكتل باسمها في صورة الجماعات والمذاهب السياسية.
7- لا ينفصل ذلك المصطلح عن جريان الكلام الديني على ألسن الناس والمسؤولين والخطباء بمناسبة وبدونها. لقد اتخذ الدين كإيمان اكسسواراً اجتماعياً social accessories للرواج في المجال الاجتماعي. والكلام(مثل النصوص والآيات والأحاديث ومقولات الفقهاء) يشابه الأحجبة والتمائم في المجتمعات الوثنية. تلك التمائم التي تعلق في الآذان والأنوف والشفاه لاستحضار أرواح الآلهة. والحوارات والخطب في الثقافة الاسلامية ظلت مطرزة بهذه الأيقونات الرمزية طوال التاريخ السياسي والاجتماعي. ليس لأن أصحابها من حفظة الدين إنما كنوع من الرأسمال الشائع. حتى أصبح النص الديني المؤسس أو غيره مشاعاً في التداول والفهم والتفسير والالتزام الأيديولوجي. ونظراً لأن الخطاب الديني تجارة لا تبور، فإنه سينحرف نحو العنف. فالتنظيمات الاسلامية لم تأخذ رأياً من المجتمع الاسلامي ولا غيره(كل المجتمع) حتى تؤول النصوص الأصلية بمرجعية قاتلة متمثلة في كتابات بعض الشيوخ والأسلاف. وهذه الحالة جزء رئيس من مشكلة الارهاب: أن النص مشاعٌ يفعل به الأفاعيل الأيديولوجية. بالتالي يأتي الإرهابي ليتناوله مبرراً لقتل الآخرين.
سامي عبد العال
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد