في مبادئ الحوار الديني العلماني

09-08-2011

في مبادئ الحوار الديني العلماني

آمل أن تكون هذه المداخلة حافزاً ودافعاً لاستيلاد نظرية وطنية لمفهوم الهوية ضمن الملاحظات التالية:
 
الحوار غير المشروط
أولاً: لا ينبغي للحوار أن يكون حواراً مشروطاً سلفاً إلا بشروط المصلحة العليا للأمة إذ لا معنى للحوار إذا لم يكن لكل طرف من أطرافه حريته الكاملة في التفكير والتعبير عما يرى ويفكر، فالحوار الإسلامي- الإسلامي الذي يقترحه الإسلام ويصوغ آفاق وجوده ويؤسس لقيامه الحضاري هو حوار لا يمكنه أن يعيش في الفراغ ولا يمكنه أن يعيش منغلقاً على ذاته لأنه لا يستطيع أن يقيم مشروعه الحضاري بمعزل عن اعتبار الآخر حيث الآخر الثقافي- الديني من منظور إسلامي ليس موضوعاً للنفي المتبادل. إنه مجال لتواصل ما، مجال لتفاعل وتعارف واغتناء ومن ثم فإن أبرز خصوصيات- الهوية الإسلامية- كونها مفتوحة على العالم إلى كامل حدوده الإنسانية فكيف تقوضت عناصرها وكيف تمزق نسيجها الداخلي وابتعدت عن دوائر التأثير في صياغة واقع العالم المعاصر؟ أوليس اغتيال الحريات الفكرية والاجتهادية؟ أوليس تجميد العقل على محطات الإسلام التاريخي البشري؟ أوليس إطلاق تعميمات الحكم بالكفر على بعض أنظمة هذا العالم الإسلامي ومذاهبه؟ أوليس مقولة أن الانتماء إلى الإسلام يقضي بالقطع مع هذا العالم القائم والانفصال الكامل عنه؟ قد صادر مركز النبض في هويتنا وحرمنا من اكتشاف الجديد الواعد من ملامحها التي قد تكون أكثر أهمية وفاعلية من ملامحها المعروفة والظاهرة في بنيات مجتمعنا الإسلامي وانقساماته الراهنة فلا حوار إسلامياً- إسلامياً في غياب الأسئلة ولا حوار في غياب حركة الجدل داخل كل تيار وبين التيارات والاتجاهات المختلفة التي يتشكل منها الفكر العربي والإسلامي المعاصر من هنا أرى أن بلورة وعي مشترك لمفهوم الأمة والهوية والمعاصرة لا يتحقق بتقوقع كل تيار على وعيه الخاص لهذه المفاهيم وما يتصل بها من مشكلات، فمن حق كل فريق من التيارات المختلفة أن يدافع عن وجهة نظره وعن وعيه الخاص وتعريفاته التي يتبناها ولكن ليس من حقه أن يتحصن بموقف الرفض تجاه الشرطين التاليين:
الشرط الأول: الاعتراف للآخر بحقه في الاختلاف من جهة وإعادة النظر في وجهة نظر الآخر والبحث عن جوانب السلامة والصحة فيها من جهة أخرى.
الشرط الثاني: أن يمارس كل تيار إعادة النظر في قناعاته في ضوء السجال مع الآخر وألا يمتنع عن التسليم بضرورة التغيير عندما تمليها ضرورات الحوار ونتائجه.
المصالح والتحالفات
ثانياً: يجب أن يدرك الحوار من موقع العقيدة الإسلامية أن هذه العقيدة السمحاء لا تمنع المسلم من صياغة علاقاته وتحالفاته المرحلية والإستراتيجية بما يمكنه من تقديم فرص أفضل لتحقيق هذه العقيدة فلئن اختلف المسلم مع المسلم في شأن من شؤون العقيدة فإنه يلتقي معه في أهداف واسعة تتعلق بصميم اهتمامات الرسالة الإسلامية المباركة سواء على مستوى قضايا التحرر من الهيمنة الخارجية أم مستوى التنمية والبناء، وفي هذا السياق يجدر التنويه بمأثرة في المملكة في مجال ما قدمته - لمفهوم التوحيد - من عطاء فكري جم لا غنى عن الانطلاق من مرتكزاته القرآنية للوقوف على ميثاق هويتنا ومصدر حريتنا فلا يخفى أن أعمق مفهوم عرفه الإنسان للحرية هو المفهوم القرآني الذي يتجلى بعقد العبودية الذي يقيمه الإنسان بينه وبين الله سبحانه وتعالى إذ بمجرد الإيمان يصبح الإنسان المسلم مسؤولاً عن الكرامة الإنسانية على قاعدة الاستخلاف الرباني على الأرض.

دواعي الحوار
ثالثاً: من أجل إثراء الحوار وإنضاج وعي الحوار الإسلامي- الإسلامي لا بد من تشخيص موجباته وموضوعاته ولا يخفى أن أي مشروع للنهوض والتحرر الشامل يقترحه هذا الحوار- لا بد أن تشارك فيه جميع القوى والتيارات التي تلتقي على ضرورته فينهض الجميع بمسؤولياتهم المشتركة لوضع أسس مشتركة لا يحققها إلا قيام حوار جدي وعلى أوسع نطاق. فكيف نسقط هذا الجدار المصطنع بين ما سميناه نقلاً عن- الإعلام الغربي- التنويريين- والظلاميين..؟ أوليست أزمة التمسك بنقل أفكار ومفاهيم الخلافتين الأموية والعباسية، يوازي مأزق تمسك العلمانية اليوم بنقل الفكر الأوروبي الحديث باتجاهاته القومية والليبرالية؟ وإذاً لقد قمنا بعملية استنساخ كربوني واضح لعوامل الانحطاط في الماضي والحاضر، دون أن نلتفت إلى أن تمسك الذهنية الإسلامية بنقل الماضي ومحاكاته جعلها عاجزة أو قاصرة عن مواجهة تحديات الواقع، كما أن الذهنية العلمانية التي لجأت إلى نقل الفكر الغربي ومحاكاته دون دراسة ودون تحديد الجوهري والثانوي منه جعلها عاجزة هي الأخرى وفاشلة في تأمين الحد الأدنى لرفاه أمتنا ووحدتها وتقدمها. صحيح أن أشياء كثيرة قد امحت من قسماتنا وملامحنا، من خصائصنا وخصوصيتنا غير أن ذلك لا يسوغ شعورنا بالإحباط.. وحتى لا تستثمر الاختلافات فيما بيننا لمصلحة مشروع- المتوسطية الجديدة- يجب أن نحدد وظيفة الحوار وآفاقه من واقع حياتنا، ومن واقع الاعتراف بتطويع الاختلاف وترويضه لمصلحة أهدافنا العليا في الحياة، ولمصلحة عروبتنا وأقول- عروبة- عند هذا المنعطف الحرج من مصيرنا لأن العروبة هي العنصر الأثقل في إسلامية حوارنا ووحدتنا..! فهل ينجح الاستنفار الإسلامي الآن لدعمها في تحرير- القدس الشريف.

بين التيار الاسلامي والعلمنة
رابعاً: إن العلاقة التنابذية بين التيار الإسلامي والتيارات العلمانية فوتت على الفكر العربي الإسلامي خصوصاً وعلى الفكر العلماني بشكل أخص فرصاً غنية بآفاق الإبداع والحيوية لم يفوتها المفكرون والفلاسفة العرب والمسلمون تجاه الفكر اليوناني وخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجري، واليوم إذ يشهد العالم المعاصر من حولنا انتفاضة لهويات منها: القومية والعرقية والدينية في الوقت الذي كان يعتقد فيه المفكرون السابقون على هذه المرحلة أن العالم ماض باتجاه تذويب الهويات لمصلحة هوية واحدة وحيدة تطمح لتعميم ذاتها ومزاجها وقوانينها الخاصة على الإنسانية بكاملها هي هوية الغرب بكل ما فيها من تضخيم للأنا واستبعاد للآخر حضارة وثقافة وعناصر تميز واختلاف، أما وقد أخفق المشروع الغربي للعولمة في إلغاء الهويات الخاصة للشعوب أتساءل هل بوسع المسلمين أن ينجحوا حيث أخفق الغربيون أم إن إخفاق الغرب الذي قام على ثغرات النظرية الغربية وعيوبها رغم إمكانية الغرب وإرادته ستتكرر لأمتنا ولكن ليس بسبب النظرية الإسلامية التوحيدية وإنما بسبب غياب إرادة المسلمين وضعفها بفعل سيادة عقلية التخاصم والتنازع (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)؟
خامساً: في هذا المفصل من تحديات الوجود والمصير أقترح تأجيل الحوار حول المسائل المذهبية بين الفقهاء وتأجيل الحوار حول المسائل الفلسفية بين التيارات الإسلامية وخصومها في الداخل لا اعتقاداً مني بعدم أهميتها بل ربما كانت أهميتها وخطورتها هي السبب في الدعوة إلى تأجيلها، فالحوار المذهبي أو الفلسفي يتطلب مناخاً وظروفاً لا تتسم بمخاطر التحديات التي نواجهها في اللحظة الراهنة من هنا أرى أن اختيار موضوعات الحوار يجب أن يتسم بقدر كبير من الدقة وأن يخضع لنظام أولويات تحدده الرغبة المشتركة في إنجاح الحوار الإسلامي - الإسلامي وتوسيع دائرته وهذا يتطلب تقديم الموضوعات ذات الطابع الميداني التي لا يكثر الجدل بشأنها - كموضوعات الحوار حول تحديات العولمة - ومشكلات التنمية والتخلف ومخاطر الكيان الصهيوني في المنطقة وقضايا حقوق الإنسان المسلم وجداول أعمال الوحدة الإسلامية في المرحلة القادمة وغيرها من الموضوعات الحية الراهنة التي تعتبر من مواضيع التوافق بل التطابق بين مختلف التيارات والاتجاهات في عالمنا الإسلامي وعلى هذا الأساس يصبح اختيار الأهداف المرحلية محكوماً للإستراتيجية العامة أي لخدمة الهدف الأعلى، وهذا يفترض فيما يفترضه من اعتبارات الحرص على إطلاق نماذج ناجحة للحوار الإسلامي - الإسلامي كمعبر فعلي عن استعادة الذات الإسلامية وتوحيد المسلمين. ومن منظور عربي فإن استشراف المستقبل لا يمكن تأمينه بحال من الأحوال في غيبة تخطيط إستراتيجي ينبغي أن يبدأ بغير إبطاء.. وذلك رغم كل ما يبدو من مظاهر القوة الاقتصادية أو السياسية القائمة اليوم في الوطن العربي.. ويكفي أن أشير- توكيداً لهذه الحقيقة- إلى الملاحظات التالية:
أ- إن موقف العرب من العولمة لم يعد موقفاً موحداً، ولم يعد كذلك موقفاً منسقاً توزع فيه الأدوار.
وهذا يعني أن أطرافاً عربية عديدة يمكن أن تستخدم- بوعي أو بغير وعي- في لعبة السياسة العالمية للدول الكبرى ويمكن- بذلك- أن يتفتت الكيان العربي من ناحية وزنه الدولي، وأن تتهاتر سياسات الدول العربية المختلفة نتيجة توزعها- وداً وارتباطاً ومصالح- بين دول كبرى مختلفة.
ب- إن الإستراتيجية العربية في مواجهة الكيان الصهيوني لم تعد هي الأخرى واضحة ولا محددة.. بل شغلت عنها، الخلافات التكتيكية حول أنسب المواقف المرحلية أو الجزئية.. وفي هذا الخلاف تمسكت بعض الأطراف بالمبادئ المثالية المطلقة. وشغلها الواجب عن الممكن، وأغفلت أثر المتغيرات العديدة التي طرأت على الصورة العربية وصورة المنطقة كلها خلال عشرين عاماً.
وتعلقت أطراف أخرى بالممكن وحده، إما لارتباطها الوثيق ومسؤوليتها المباشرة عن إيجاد حل لمشاكل الواقع والمستقبل القريب، وإما لضغوط داخلية عديدة تجعل انتظار الأفضل والأمثل - من زاويتها- تجميداً للموقف الذي لا تحتمله أوضاعها.. وبين هذين المنطقين ضاعت الإستراتيجية الموحدة، وصار الصراع العربي الإسرائيلي يدار، في الأعم الأغلب- من خلال رؤى متباينة، ومواقف أكثرها ردود أفعال غير مدروسة، أو أفعال تعكس النزاعات العربية الداخلية أكثر مما تعكس موقفاً واضحاً مدروساً في الصراع العربي الإسرائيلي.
ج- إن قضية التنمية وإن احتلت حقيقة جانباً كبيراً من اهتمام كل العرب المعاصرين، إلا أن التخطيط المتكامل البعيد المدى لا يزال في شأنها أملاً يراود المؤمنين بوحدة الأمة العربية، والمدركين لمخاطر نفاد المخزون من ثرواتها تحت الرمال العربية، ويحول دون مبدأ التخطيط «التكاملي». إن المصالح الاقتصادية كثيراً ما تبدو متعارضة في المدى القصير، بين بلاد تريد أن تقطع طريق التنمية قفزاً بغير إبطاء، سباقاً مع الزمن، وبلاد عربية أخرى تعيش أزمة قلة الموارد وكثرة السكان واستنزاف الموارد في معارك الدفاع عن أرض العرب ومصالحهم وكيانهم الحضاري كله.. وهي لذلك محتاجة إلى المال السائل، وإن كانت غنية بالموارد البشرية وبالخبرة الفنية التي تعد- كالمال السائل تماماً - عنصراً ضرورياً من عناصر التنمية وتوفير الرخاء.

غياب الرؤية الشمولية
سادساً: إن مشكلة الهوية الإسلامية تتجلى في غياب صيغة شمولية متعالية على منطق الاستئثار بحق الاجتهاد وامتيازات الفقهاء فالمادة البشرية للساحة الإسلامية بحكم تنوع انتماءاتها المذهبية والسياسية والقومية لا تحتمل أي صيغة منغلقة على مذهب فقهي بعينه أو على قومية بعينها أو على نظام سياسي بعينه فلا بد لجلاء الأبعاد الجغرافية والثقافية والسياسية لهويتنا من صيغة فدرالية تحتفظ لكل فريق إسلامي بخصائصه وتتيح لكل طائفة أن تنمو تحت سقفها بعيداً عن طابع المجاملة أو طابع التخاصم الذي ساد معظم أشكال الحوار الإسلامي طوال القرن الماضي وليس بوسعنا تأسيس قواعد لهذه الصيغة الشمولية لهويتنا إلا إذا خرج الحوار عن أطره التقليدية وإلا إذا قام على قاعدة الأزمات الاجتماعية وعلى قاعدة السعي إلى تأسيس مجتمع مدني تتكامل فيه العناصر الضرورية لمجتمع الحوار بوصفه مطلباً إسلامياً وقومياً وعلمانياً على حد سواء فيصبح العمل على ترسيخ نموذجه أحد عوامل المواجهة الرئيسية ضد مشاريع التقسيم ونفي مبرراتها التي يحاول أن يلتمسها التقسيميون من جميع التيارات ألم يضمن الفقه الإسلامي لغير معتنقيه حرية ممارسة شعائرهم الدينية؟ ألم يضمن الفقه الإسلامي الدفاع عنهم بوصفهم جزءاً لا ينفصل عن المجتمع الإسلامي فلهم ما له وعليهم ما عليه. لقد انطلق الإسلام في حرصه على صيانة حرية غير أتباعه من مبدأ أساس وهو مبدأ عدم الإكراه.. هذا المبدأ الذي يستلزم مبدأ الحرية ومبدأ الحرية في الإسلام من القداسة بدرجة جعلته يحرم القتال ابتداء إلا في حالة واحدة هي الدفاع عن الحرية والحرية هنا ليست حرية معتنقيه فحسب بل الحرية كمبدأ وكحق لبني البشر كافة ولأن الإسلام في جوهره دعوة إلى الحرية الكاملة كان من الطبيعي أن يلحظ حماية هذه الحرية عند غير معتنقيه خصوصاً وهم يعيشون في ظله وتحت حمايته.

الشيخ حسين أحمد شحادة

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...