عن فنجان قهوة صنع مكتبة عامة على الانترنت!

22-04-2014

عن فنجان قهوة صنع مكتبة عامة على الانترنت!

في صورة دائمة، يتجدّد النقاش عن حريّة المعلومات على الإنترنت. المفارقة أن هذا النقاش بات جزءاً من الشأن العام، بما فيه السياسة، في البلدان الغربية المتقدّمة، خصوصاً الولايات المتحدة.

في المقابل، تغطّ الدول العربية في نوم عميق حول الموضوع، مكتفية بالمناسباتية في تناوله، مع تبنيها وجهة نظر الشركات العملاقة في المعلوماتية والاتصالات حول هذا الموضوع. ولم يتخذ النقاش عن الحريّة الإلكترونية هيئة واضحة عربياً. ولم يصل الى مرحلة التبلوّر في محاور محددة، وكذلك لم يصبح جزءاً من النقاش العام.

والأرجح أن ذلك يعود إلى أن الغرب منتج للمعلوماتية والاتصالات وعلومها، ولتخلف النقاش العام وغياب العِلم عنه عربيّاً، إضافة الى أسباب اخرى لا يصعب تصورها.

مرّة أخرى، تجدّد النقاش عن حريّة الانترنت في الولايات المتحدة. وبعد نجاح موقع «نت فليكس» في المسلسلات التلفزيونيّة المُعدّة أصلاً للانترنت، تجدّد اندفاع بعضاً من الشركات صوب بثّ برامج تلفزيونية على «يوتيوب»، ما أثار جدلاً حول الملكية الفكرية المتّصلة بتلك البرامج. (أنظر «الحياة» في 14 نيسان - إبريل 2014).

حريّة المجلات العلمية

في الغرب، ثمة سابقة لافتة. فعندما تعاظمت ظاهرة أجهزة الفيديو، التي سوّقتها أميركيّاً شركة «سوني» اليابانية في ثمانينات القرن العشرين، بادرت مجموعة من شركات التلفزة الى رفع دعاوى قضائية ضد الفيديو. وطلبت منع بيع هذا الجهاز، بدعوى انه يمكّّن الناس من تسجيل برامج من التلفزيون، من دون الحصول على إذن من الشركات المنتجة لتلك البرامج. وخسرت الشركات دعاواها. وامتلك الجمهور أداة تمكنهم من تسجيل برامج مرئية - مسموعة، وإعادة إستخدامها. واندرجت تلك الممارسة ضمن ما يعرف باسم «الاستخدام العادل» Fair Use للمحتوى.

قبل فترة غير بعيدة، ظهر مقال في مجلة «ساينس»، الناطقة بلسان «الجمعية الأميركية لتقدم العلوم»، عن حريّة المعلومات على الانترنت. صدر المقال بعنوان: «تكاثر المجلات الحُرّة على رغم احتدام النقاش».

وركّز المقال على تجربة «المكتبة العامة للعلِم» Public Library of Science، وهي مكتبة رقمية مفتوحة ظهرت في مطلع الألفية الثالثة، بفضل جهود ثلّة من العلماء البارزين في الولايات المتحدة، في طليعتهم البروفسور هارولد فارمُس، وهو حائز جائزة نوبل للطب في العام 1989 عن بحوثه المتصلة بالعلاقة بين الجينات والسرطان.

ولاحظ مقال «ساينس» أن هذه التجربة تطوّرت بقوة. إذ باتت المكتبة تصدر مجموعة كبيرة من المجلات المفتوحة، أبرزها «بلوس» PLos، التي تحمل اسم المكتبة، وكذلك «بيو ميد سنترال» BioMed Central التي يزورها قرابة مليون قارئ يومياً.

ونقل المقال عن دراسة أجرتها «جامعة هانكن للإقتصاد» (مقرّها هلسنكي) أن عشرة في المئة من المقالات العلمية، باتت مفتوحة الوصول، وينمو الجزء المفتوح الوصول من المحتوى العلمي الموثّق، بمعدل واحد في المئة سنوياً.

واستعاد المقال عينه القصة المثيرة لإنطلاقة حركة نشر المحتوى العلمي إلكترونياً بطريقة مفتوحة.

فذات صباح من شهر كانون الأول (ديسمبر) 1998، التقى شخصان ليحتسيا كوباً ساخناً من القهوة، في مقهى في مدينة «سان فرنسيسكو». كان أحدهما البروفسور بات براون، وهو عالِم لامع متفوّق في الطب، شارك في بحوث عن علاقة الجينات بالسرطان. وكان الآخر فكان البروفسور فارمُس، الذي ترأس حينها، «معاهد الصحة الوطنية الأميركية»، أضخم مؤسسة للبحوث في علوم البيولوجيا عالمياً.

ما نجم عن لقاء الرجلين، فاق حتى ما توقّعاه، بحيث لم يتردّد فارمُس في وصف حال وعيه عند ذلك اللقاء بـ «السذاجة».

إذ نجمت عن لقاء الرجلين تجربة تطاول مسألتين أساستين: حركة الوصول المفتوح Open Access Movement والدوريّــــــــات العلميّة الرفيعة.

قبل لقاء القهوة ذلك، تعرّف براون إلى الطُرُق التي يستعملها علماء الفيزياء النووية في مختبر «لوس ألموس» الذي صنع القنبلة الذرية الأولى، كي ينشروا أعمالهم عبر الإنترنت. وعرف براون أنهم يوضعون مقالاتهم على موقع مفتوح للعموم في شبكة الإنترنت، حمل إسميّ «لانكس» و «آراكسيف».

واستهل الرجلان حديثهما بملامسة ميزة غير عادية في العالم الرقمي، وهي أن نسخة من النص تكفي لنشره عالميّاً، بصورة فوريّة ومتكرّرة ورخيصة.

وكذلك لاحظا أن ليس ثمة حدود لعدد الأشخاص الذين يستطيعون استخدام المكتبة الرقمية، ما يمثّل تهديداً للناشرين الذين يعتمدون على بيع الكتب والإشتراكات. وبسبب من هذا التهديد الاقتصادي، ما زال العالم بعيداً نسبياً، من الوصول إلى المكتبات الرقمية المفتوحة.

وكان براون على عِلم بوجود حركة شبابية منتشرة في الجامعات الأميركية تؤيّد النشر الإلكتروني المفتوح وإحداث تغيير جذري في طريقة نشر العلم. إذ تسعى الى إيصال المقالات، فورياً ومجانياً، إلى الجميع، من موقع إلكتروني صحافي يستطيع الجميع الوصول إلى معلوماته، وكذلك من مكتبة رقمية عامة.

وتهدف حركة النشر الإلكتروني المفتوح إلى تعميم فوائد النشر بطريقة تفوق ما يفعله النشر ورقياً. واتّفق الرجلان على أن تمويل تلك الدوريّات، على الأقل في مجال البيولوجيا والطب، يمكن أن يأتي من الحكومة الأميركية، لأنها المموّل الأساسي للبحوث.

لم يرَ فارمُس عقبة في إطلاق موقع إلكتروني تذهب إليه تقارير البحوث التي تموّلها «المعاهد الوطنية للصحة» في أميركا وخارجها، كي يطّلع عليها الباحثون عن المعرفة عالمياً. أكثر من ذلك، كان لفارمُس معرفة مباشرة بأن دول العالم الثالث شديدة الظمأ لتلك البحوث، التي لا تصل إليها إلا بعد مضي سنوات طويلة، أو أنها تطلع على بعض تفاصيلها عبر منشورات مرتفعة التكلفة.

 انتصارات صغيرة للحريّة

بعد سنة من لقاء القهوة الشتوي، ترك فارمُس إدارة «المعاهد الوطنية للصحة»، وفي قلبه أكثر من حسرة لأن حلماً وردياً عن شيوع المعرفة بفضل الإنترنت لم يتحقق. في المقابل، سجّل «نصراً» صغيراً.

فبفضل لقائه مع براون على فنجان قهوة، جرت الاستفادة من مبادرة الرئيس الأميركي، حينها، بيل كلينتون الذي عمل على وضع معلومات «الجينوم» على الانترنت، بصورة مجانية.

وحاولا إقناع الإدارة الأميركية بنقل التجربة عينها إلى مجالات علمية أخرى. النتيجة؟ ثارت ثائرة الكونغرس. وانبرى نواب من الحزبين الديموقراطي والجمهوري لحماية المصالح الهائلة التي تنجم عن احتكار المعارف والعلوم، وتنهض عليها صناعات مثل الأدوية والأدوات الطبية والخدمات والدوريّات والكتب وغيرها. واندحر الرجلان. ولم يتحقق حلم نشر العلم سيولاً عبر الانترنت.

في المقابل، تحقّقت في سياق ذلك الصراع أمور بسيطة.

استطاع فارمُس وبراون إطلاق المكتبة الرقمية العامة الأولى لعلوم البيولوجيا والطب. وسمّياها «بابميد سنترال».

وبجهد مفرد من فارمُس، تأسّست «المكتبة العامة للعِلم»، التي تمثّل أحد مظاهر نشاط حركة الوصول المفتوح. وتلا ذلك عقد مؤتمر تأسيسي لـ «حركة النشر المفتوح»، في ولاية «ميريلاند».

تعزّزت الثقة بمستقبل «بلوس» وبالدوريّات المفتوحة الوصول. وتصاعد التأييد سياسيّاً وثقافيّاً لحركة الوصول المفتوح.

وفي 2007، تجمّع أعضاء في الكونغرس وأمناء المكتبات وأصحاب النشر الإلكتروني المفتوح الوصول، ومن ضمنهم موقع «بلوس»، وبعض قادة العلم، وصاغوا بياناً تفصيلياً عن حركة الوصول المفتوح. وأعربت مؤسسات تمويل أوروبية، مثل «مجلس البحوث الأوروبية» European Research Council، عن تأييدها للنشر الإلكتروني المفتوح الوصول. ثم أعطت «كليّة الفنون والعلوم» في جامعة هارفرد تأييدها لتلك الحركة. وفي 2008، صار الوصول المفتوح جزءاً من سياسة البيت الأبيض (نسبياً)، ما اعتبر «انتصاراً صغيراً» لهذه الحركة.

أحمد مغربي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...