علامات خارقة من أجل مستقبل «مجهول»
كانت الساعة شارفت على الواحدة بعد منتصف الليل، حين خطت ريم إلى صالون المنزل حيث يجلس والدها المرهق من نهار عمل طويل. وقفت أمامه ترتجف، وهمست: «لن أقدّم الامتحانات هذه السنة، سأنسحب!».
مفاجأة كبرى تفوّهت بها ريم، لتنضّم إلى عدد كبير من الفتيات اللواتي تعرّضن للحال نفسها. فقد أمضت الشابة العام الدراسي تلو الآخر، محافظة على مكان شبه ثابت ضمن ترتيب الطلبة الأوائل في مدرستها، وكل ما تبتغيه من جهدها الحثيث هذا هو دخول كلية الفنون الجميلة، التي من المفترض أن تركز شروطها على الحال الإبداعية أو الموهبة إلى جانب الثقافة العامة، عوضاً عن العلامات.
ودفعت حال القلق الشديد الذي تعيشه السيدة غادة على ابنيها الاثنين إلى ارتفاع ملحوظ في الوزن، وإشكالات في ضغط الدم لم تكن معهودة لديها في السابق. وسيدة أخرى انتهى المطاف بها في عيادة طبيب الأمراض الجلدية لتحسس مرده نفسيٌ - عصبي.
ولا تنحصر الاستعدادات، للامتحانات الرسمية في إطار العائلة فقط، بل تضم الجيران والأقارب والأصدقاء. فمن لديهم شهادة، والمقصود أنّ في منزلهم طالباً يقدم امتحان الشهادة، ينقطع الجميع عن زيارة منزلهم إلا عند الضرورة، كي لا يقلقوا راحة الطالب وسكينته. أمّا البرامج الدراسية التي تنظم الوقت والدراسة فتعلق كالرايات السود منذ بداية العام، وليس مسموحاً للطالب «المسكين» بساعة طيش أو نهار عطلة، فيقضي الصيف السابق في التحضير والعام الدراسي في التحصيل والمتابعة العلمية، والعطل الرسمية في المراجعة، وأخيراً يدخل قاعة الامتحان وليس أمامه إلا الانهيار، إن لم يكن لدى رؤية الأسئلة التي تقوم على نظرية «حجرا بكرا» أو «كم مرة وردت كلمة الليل في قصيدة...»، أما وإن تحمل جسده وأعصابه إرهاق قطع سباق «الماراتون» الكبير حتى النهاية، فلن يقوى على الوقوف في وجه أحد حين تصدر النتائج التي تعلن خسارة جيش الطلبة في حربهم الشرسة لنيل القبول في الفرع الذي يرغبون فيه، أو الذي يُفترض به أن يؤمن لهم حياة أفضل.
في بلدان كثيرة من العالم يخرج الأبناء بعد سن الثامنة عشرة من منازل أهلهم ليستقلّوا بحياتهم، وآخرون يتجلون في بلدان مختلفة، ولكن الحال تختلف في سورية، إذ يجلس الأهل مع أبنائهم يذاكرون المناهج التي تعتمد على نظرية «التلقين»، بعيداً من الإدراك أو الفهم، وكأنهم هم المعنيون بتقديم الامتحانات. ويوم جلوس الطالب على مقعد الامتحان، يتجمهر الأهل في الخارج، بعضهم بسياراتهم الفخمة، وآخرون يحملون الكتب الدينية تقرباً من الله رجاء العون والتوفيق، حتى أنهم يحـــضرون قهوتهم الصباحية معهم، فيتساوى الأهل في هذا اليوم على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية أو الثقافية، ينشدون نجاح ابنهم من أجل مستقبل أفضل.
ومن اللافت أن الخوف في هذه الفترة لا يتعلق فقط بإمكان رسوب الطالب، فللراسب حق «الإعادة» مرة واحدة، بل الخوف يتمحور حول النجاح ولكن بعلامات مقبولة. إذ أن الآفاق المستقبلية المتوافرة لا تستوعب كلمة «مقبول»، بل يجب أن تكون علامات «خارقة، ساحقة وشبه كاملة»، ومثلاً، كان على الطالب المتقدم الى كلية الطب البشري، الحصول على 234 علامة من أصل 240 حصيلة للمواد العلمية كما النظرية، مثل التربية القومية وسواها من المواد التي لن يحتاج منها في حياته المهنية أية كلمة. هذا الارتفاع المحموم في معدلات القبول، كان الأهل والطلبة يردونه إلى مواربة باب الجامعات الحكومية بوجه الطلبة، لكي يُتاح المجال للجامعات الخاصة والتعليم المفتوح والموازي لتحقق أرباحها. إلا أنّ استمرار الحال قاد إلى التفكير بالمستقبل «الموحل» الذي ينتظر الطلبة، إذ ليست المسألة محصورة بالقبول الجامعي، بل تتعلق بتأمين فرص العمل الكافية لجيوش القادمين إلى معركة الحياة، وتقارب أعداد طلبة الحقوق في السنة الأولى ستة آلاف طالب، في ظل شبه انعدام لفرص عمل تستوعب جزءاً يسيراً منهم، يبقى مستقبلهم مجهولاً حتى بعد الانتهاء من دراستهم الجامعية، لا سيما في ظل الشروط الاجتماعية والاقتصادية المتردية. أمام كل هذا لا يبقى للطلبة المحكومين بالأمل إلا فقدان القدرة على النوم، أو الهروب إلى الطعام والشراب، أو فقدان الشهية، أو حالات القلق الدائم والتوتر العصبي.
يارا بدر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد