صعود الوهابية والسلفية في روسيا
بالرغم من نجاحات فلاديمير بوتين الملحوظة في وقف الحركة الانفصالية ذات الصبغة «الإسلامية» في الشيشان، إلا أن روسيا تشهد في الفترة الأخيرة تصعيداً واضحاً داخل الساحة الإسلامية نفسها، بين ما يسمى بالإسلام الرسمي المعتدل (المؤيد للدولة الروسية) والإسلام الراديكالي، الذي يُطلق عليه هنا الإسلام الوهابي أو السلفي المتشدد. ويتجلى هذا التصعيد في اغتيالات ومحاولات اغتيال لبعض رجال الدين الإسلاميين الرسميين من قبل أنصار الإسلام الراديكالي. ففي صيف العام 2011، جرى اغتيال مقصود صديقوف، رجل الدين المعتدل ومدير معهد علوم الدين في جمهورية داغستان الروسية، الواقعة في شمال القوقاز.
وفي شهر آب/ أغسطس 2012، تم اغتيال الشيخ سعيد أفندي، أحد أبرز شيوخ الصوفية في داغستان أيضا. وقد قُتل سعيد أفندي وسبعة من مُريديه على يد فتاة دخلت منزله المفتوح دائماً للزوار والمريدين، وفجرت نفسها بحزام ناسف. واتضح في ما بعد أن هذه الفتاة من أبناء القومية الروسية، التي اعتنقت الإسلام منذ سنوات، وتتهمها السلطات الأمنية الروسية بأنها تنتمي إلى الحركة الوهابية السلفية المتشددة في داغستان. وقد عُرف عن الشيخ سعيد أفندي أنه من أبرز المتصدين للوهابية في القوقاز الروسي. وتشير التحقيقات في الاغتيال بأصابع الاتهام إلى حركة «أبناء الغابات»، وهي مجموعة من السلفيين المتشددين المسلحين، التي تتخذ من غابات داغستان ملجأ لها لمحاربة السلطات الرسمية المحلية، على اعتبار أن هذه السلطات موالية للكرملين. ويستند المحققون في ذلك إلى أن الانتحارية، أمينات كوربانوف، التي نفذت عملية اغتيال الشيخ سعيد أفندي، تنتمي إلى الحركة الوهابية السلفية المتشددة، وكانت زوجة لأحد أبرز رموزها، الذي قتلته أجهزة الأمن الروسية منذ عدة سنوات. ولذلك سارع رئيس جمهورية داغستان، محمد سلام محمدوف، إلى تشكيل «فصائل الدفاع الذاتي» لمكافحة الراديكاليين الإسلاميين.
ونعتقد أن داغستان تشهد ما يشبه «الحرب الدينية»، التي نتجت عن انقسام عقائدي حاد بشأن تفسير الشريعة الإسلامية وكيفية تطبيقها، وبشأن العلاقة مع الدولة الروسية نفسها. ويمكن القول إننا أمام فريقين أساسيين، هما أنصار الإسلام الصوفي التقليدي في هذه الجمهورية، والذين يشكلون غالبية السكان، وأنصار ما يسمى بالإسلام «الصحيح»، وهم أتباع السلفية والوهابية. إن هذا الانقسام يمكن اعتباره، بدرجة معينة، من سمات شمال القوقاز خلال العشرين عاماً الأخيرة منذ انهيار الدولة السوفياتية، ومنذ تغلغل ما يسمى «بالمجاهدين العرب» في تلك المنطقة مع الحرب الشيشانية الأولى في العام 1994. كما أن هذا النزاع «الإسلامي الداخلي» يمكن النظر إليه أيضاً كنزاع بين الأجيال، فالشباب الحاصلون على تعليم ديني ـ بما في ذلك في الخارج ـ غالباً ما يبدون استياءهم من الإسلاميين التقليديين «المعتدلين»، معتبرين إياهم موالين للسلطات الرسمية المحلية، الموالية بدورها للكرملين. وفي هذا المقام، لا يستبعد الباحث الروسي في الشؤون الإسلامية، أليكسي مالاشينكو، أن يؤدي التنافس بين الراديكاليين والتقليديين على الجيل الشاب في مناطق روسيا الإسلامية إلى راديكالية متدرجة في صفوف الإسلام التقليدي نفسه، الذي تعتبره موسكو في الأعوام العشرة أو الخمسة عشر الأخيرة حليفها الرئيسي في القوقاز.
ان مناهضي التيار الراديكالي الاسلامي في القوقاز الروسي ليسوا دائماً من أنصار الصوفية. فالمذهب الحنفي المنتشر تقليدياً في مناطق أخرى من القوقاز الروسي وحوض نهر الفولغا وموسكو يقوم بالدور نفسه تقريباً. ولكن الملاحظ، أن وزن ونفوذ الراديكاليين الإسلاميين في تزايد مستمر خلال السنوات الأخيرة، حتى أنهم فازوا في انتخابات بعض البلديات.
واللافت، أن عمليات تصفية الرموز الدينية الرسمية امتدت من شمال القوقاز إلى جمهورية تتارستان الروسية، الواقعة على نهر الفولغا. ففي العام الماضي أصيب مفتي تتارستان، ايلدوز فايزوف، بجروح خطيرة جراء محاولة اغتيال استهدفته في وضح النهار في قلب العاصمة قازان. وفي اليوم نفسه لقي مصرعه نائب المفتي، ولي الله يعقوبوف، في حادث اغتيال آخر.
ويرى العديد من المحللين الروس، أن تلك الاغتيالات تعكس الصراع الدائر منذ سنوات بين «الإسلام الرسمي المعتدل» والحركات الإسلامية الراديكالية. ويدلل هؤلاء على ذلك بأن احد اسباب اغتيال الشيخ سعيد أفندي هو إفشال المصالحة التي بدأت في داغستان في مايو/ آيار الماضي بين ممثلي مختلف المذاهب والتيارات الدينية، حيث كان الشيخ أحد أبرز المبادرين لهذه المصالحة. ولكن ثمة من لا يستبعد أن تكون أجهزة الأمن، هي التي تقف وراء جريمة اغتيال الشيخ سعيد بهدف توتير الوضع من جديد في القوقاز الروسي لأسباب تتعلق بإثبات صحة وجهة نظر الكرملين بأن «الربيع العربي» يرمي إلى وصول الإسلاميين الراديكاليين إلى السلطة، ومن خلال التحالف بين هؤلاء الراديكاليين والولايات المتحدة يجري حصار روسيا وضرب أمنها القومي في مناطقها الإسلامية.
ويتبنى وجهة النظر هذه، حيدر جمال، رئيس اللجنة الإسلامية في روسيا، ويعللها بامتعاض الأجهزة الأمنية والسلطات الرسمية من بعض التقارب في المواقف بين الصوفيين والسلفيين في القوقاز الروسي خلال الفترة الأخيرة. ويتفق معه في الرأي مساعد رئيس الإدارة الدينية لمسلمي الشطر الأوروبي لروسيا، فريد اسدولين، ولكنه لا يستبعد ما يُطلق عليه «اليد العربية» في عملية اغتيال الشيخ سعيد أفندي، حيث يعتقد أن بعض القوى الراديكالية الإسلامية العربية لها مصلحة في توتير الوضع في هذه المنطقة، بُغية اقتطاع القوقاز من روسيا وتأسيس إمارة القوقاز الإسلامية.
وترى يانا أميلينا، رئيسة قسم القوقاز في جامعة البحوث الإستراتيجية الروسية، أن أسباب تلك الاغتيالات تكمن في الصراع المستمر منذ عدة سنوات، الذي تخوضه العناصر الراديكالية من الوهابيين والسلفيين وأمثالهم ضد رموز الإسلام المعتدل في روسيا، حيث تهدف هذه العناصر الراديكالية المتطرفة ـ من وجهة نظرها ـ إلى تدمير الدولة العلمانية واستبدالها بالخلافة الإسلامية. وتعتقد الباحثة الروسية أن الأمر يتعلق بتشكيل جبهة إسلامية راديكالية توحد الجهاديين تنظيمياً في شمال القوقاز وحوض نهر الفولغا في مناطق روسيا الوسطى، وذلك تناغماً مع ما يجرى حالياً في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وبغض النظر عن الفرضيات الرسمية وغير الرسمية المطروحة لدوافع عمليات الاغتيال المشار إليها، فإن الواضح تماماً تزايد نشاط الجماعات الإسلامية الراديكالية في القوقاز الروسي وتتارستان الواقعة في حوض نهر الفولغا، تلك الجماعات التي تعتبر ممثلي ما يسمى بـ«الإسلام الرسمي المعتدل» عملاء للسلطة الروسية وأتباعاً لها. فالصراع بين التيارين الإسلاميين (المعتدل والراديكالي) في روسيا بات حقيقة ملموسة، وقد تترتب عليه الكثير من العواقب الوخيمة مستقبلا. والصعود الملحوظ لتيارات الإسلام الراديكالي في الساحة الإسلامية الروسية سيغذي، من دون شك، حالة «الانتعاش» الجارية في صفوف الحركات الروسية القومية الراديكالية (جماعات النازيين الجدد)، وسوف يُزيد أيضاً من استفزاز الغالبية المسيحية الأرثوذكسية في روسيا.
هاني شادي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد