حرية المعتقد أقدس المقدسات
عرف النضال من أجل الحريات الفردية في المغرب طفرةً ملحوظةً خلال السنوات الأخيرة. ما فتئتْ دائرة المطالب تتسع، كما أنّ تابوهات عدة قد زالت. إلا أن من بين كل تلك الحريات، ثمة واحدة لا يزال التذبذب في الرأي قائماً بشأنها، بما في ذلك داخل أوساط الحركة الحقوقية وعند دُعاة المشروع الديموقراطي التحرري الحداثي: أقصد حرية المُعتقَد. رغم بعض المواقف والمبادرات الشجاعة التي تصب لصالحها، تحتاج حرية المعتقد إلى مزيد من تبيان حقيقتها كمبدأ رئيسي للتعايش المتناغم في أي مجتمع متشبع بقيم الكرامة الإنسانية والتسامح والتعددية واحترام الاختلاف.
إنها تصير، إذا نُظر إليها كحق أساسي للفرد والمواطن وطبّقت بتلك الصفة، مؤشراً دالاً على مدى استتباب دولة القانون داخل بلد ما وعلى علُوّ البناء الحضاري الذي بلغ إليه أي مجتمع.
مع ذلك، لا يمكن فصلها عن مبدأ اللائكية الذي هو الضامن الحقيقي لها. لهذا السبب، أصبح من المُلحّ أن نسميَ الأشياء بمُسمّياتها، وألّا نتحرج في التحدث عن اللائكية، تماماً مثلما نتحدث عن المواضيع الأخرى المُدرجة في جدول أعمالنا: إصلاح المؤسسات، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، العدالة، نظام التربية والتعليم، المساواة بين المرأة والرجل، النموذج التنموي، حماية البيئة... يجب أن نوضح بشكل حاسم أنّ اللائكية لا علاقة لها قطعاً بالدعوة إلى الإلحاد أو العداء للمعتقدات والممارسات الدينية. على العكس، إنّها تضع على عاتق الدولة مسؤولية ضمان وحماية حرية ممارسة تلك المعتقدات أو عدم التقيد بها على حد سواء. من هذا المنطلق، تُلزمها بالتدخّل طبقاً للقانون كلما تم المساس بذلك الاختيار الحرّ وضد أيّ خطاب أو تصرّف يحرّض على الكراهية تجاهه. وحالما تتوضح تلك الرؤية وتثَبّثُ تلك الحقيقة، تصير اللائكية قضية الجميع، متدينين وغيرَ متدينين، ما دام الكل يشترك في التطلع إلى الكرامة الانسانية وبناء الديموقراطية التي تضمن نفس الحقوق والحريات للمواطنين، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الفلسفية. وبصورة منطقية، تطرح اللائكية، من دون مواربة، مسألة الفصل بين مجالي الدين والسياسة، وبالتالي مسألة طبيعة الدولة ذاتها. وإن فكرة كهذه، رغم أنّه يروج لها على أنها بدعة من البدع من قبل أولئك الذين يستشفون بين طياتها خطر زعزعةٍ لاستراتيجيتهم الرامية إلى الهيمنة على المجتمع وخندقته داخل إيديولوجية تعتمد المرجعية الدينية دون سواها، ليست بالـ«ضلال» الذي قد يتوهمه البعض. هي قد عرفت سبيلها إلى التحقق في البلاد الإسلامية، في دول كتركيا أو تونس. كما أنه تم يتم طرحها والدفاع عنها من قبل مفكرين متدينين برهنوا بأن اللائكية، على غرار الديموقراطية «قابلة للذوبان» في الإسلام. بكتابتي لهذا النص، ما أصبو إليه هو أن تتاح لنا إمكانية حوار متعقل ومتحضر حول المسألة. إذا نحن توفقنا في خوض هذه التجربة من دون غوغائية، من دون إقصاء أو إقصاء مضاد، من دون تكفير أو شَيْطنةٍ أو تحريض على القتل، من هذا الطرف أو ذاك، سنكون قد أضفنا، من أجل الغد وما يليه، قاعدة جديدة إلى أسس «البيت المغربي» كفيلة بأن تضمن لكل واحد منّا، أياً كان اختلافه عن الآخرين، أمنه وطمأنينته، وسعادته بأن يعيش حياة حرة بين مواطنيه. هل أفصح لكم عن أمنية ثانية، لطالما، وإلى الآن، لم تسعفني بشأنها العبارة؟ فالموضوع ذو حساسية. وهو محاط في ذهن معظمنا بهالة من الصمت والتكتم، خصوصاً أنّ له اتصالاً بعالم الموت.
بمَ يتعلق الأمر؟ بحرية المعتقد أيضاً، ليس في الحياة هذه المرة، بل إزاء الموت. يتعلق الأمر بحق منبثق عن حرية المعتقد تلك، إذا ما نحن أقررناه بالمبدأ، يستطيع المواطن بموجبه أن يختار المكان والطريقة التي يُشَيّعُ بها إلى مثواه الأخير. من اليسير أن نتفهّم أن مراسيم دفن دينية من شأنها أن تتعارض والقناعات الفردية للشخص، إن هو لم يكن مُتدينا، ومن ثم إنّ من واجب المجتمع حياله احترامَ رغبته، وذلك بقبول مبدأ الدفن المدني.
هنالك جانب آخر في الموضوع يتعلق بالحق المشروع لكل زوج لا يدين أحد طرفيه بدين الإسلام، في ألّا تتم التفرقة بين هذين الطرفين بعد الممات. في الحالة الراهنة للأمور، وإذا استثنينا بعض المدافن المسيحية، لا تتيح مقابرنا لمثل هؤلاء الأشخاص إمكانية تحقيق إحدى أعز أمانيهم.
والحل الذي ينبغي مبدئياً ألا يثير حفيظة النساء والرجال ذوي الضمائر الحية والمتشبعين بحرية الآخر، هو أن يتم داخل مقابرنا تهيئة «مُرَبَّعٍٍ لائكي» أو مدني للتجاوب مع مثل تلك الرغبات المشروعة. أدفع هنا بهذا الطلب، باسم التسامح، باسم الأخوة والكرامة الإنسانية. لعلكم أدركتم أخيراً أنّني إن أثرت هذا الموضوع الجوهري، فلأنه يهمني شخصياً. وقد تفيد حالتي الخاصة في تَجْلِيَته، كما حاولتُ ذلك في أحد مؤلفاتي الأخيرة. إليكم منه، كخاتمة، هذا المقتطف: «إذا ما قرّرتُ (...) أن أرقد في أرض «البلد الحبيب»، فهل ستُحْتَرمُ رغباتي الأخيرة؟ هل يمكن أن أحظى بمأتم مدني من دون إقحام لأي طقوس دينية؟ فقط بضع قصائد على سبيل الصلاة، ربما إحدى أغنيات الحب والمقاومة التي طالما سمعني أقربائي أدندن بها. وماذا أقول عن أمنية أغلى من تلك: أن أرقد، عندما يحين الوقت، بجانب شريكة حياتي، المسيحية بالولادة، المتحررة من كل الأديان والمغربية بالقلب؟ باسم ماذا سيفرقون بيننا؟ طلبات بهذه البساطة تنفَّذُ بحذافيرها في كثير من بلدان العالم، هل سيأتي يوم تُؤخَذُ فيه بعين الاعتبار في أرض الإسلام؟ ليس لدي إجابة؟ ولكن، هل كفرتُ يوماً بالمستقبل؟»
عبد اللطيف اللعبي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد