تحقيق في قصص العهد القديم(*)
هل صدَّق بنو إسرائيل حقًّا قصَّة أنَّ إبراهيم قد نوى التَّضحية بابنه إسحاق قبل أن يتدخَّل الله ويأمره بأن يذبح كبشًا بدلاً من ابنه؟ أم أنَّ الأمر هو أنَّ كهنة بني اسرائيل قد أدركوا الحاجة إلى سلطة إله عندما أرادوا فرض تقليد جديد: أنَّه ابتداء من الآن يجب عدم التَّضحية بالأطفال كما كان النَّاس يفعلون من قبل، وكما كان جيرانهم الفينيقون ما زالوا وقتها يفعلون، ولذلك جرى تأليف أسطورة بأحداث بسيطة ورسالة قابلة للفهم؟
سنجري هنا تحقيقًا في بعض الأساطير الَّتي وراء قصص العهد القديم. لم يكن غرض كتَّاب العهد القديم ولا كتَّاب العهد الجديد أن يكتبوا وصفًا موضوعيًّا لتاريخ الشَّرق الأوسط في العصور القديمة. لقد كتبوا عن وعد الرَّبّ لشعبه المختار، وعن جرائم البشر ضدّ الاتّفاق المعقود مع الرَّبّ. وكثير من قصص الكتاب المقدَّس هي أساطير أكثر منها تأريخا، ولهذا علينا أن نعتبر الكتاب المقدَّس نصًّا عقائديًّا (إيديولوجيَّا) وليس كتاب تأريخ. فالسّياق الرَّئيسيُّ في العهد القديم هو الأسطورة القوّميَّة حول أرض الميعاد.
بعد الطوفان
لا تأخذ قصَّة خلق الرَّب للسّماء والأرض ولأوَّل كائن بشريّ سوى جزء افتتاحيّ صغير من سفر التَّكوين. ويتَّفق باحثو الإنجيل اليوم على أنَّ أيَّام الخلق السّتة هي أسطورة تشرح أنَّ على الانسان، تيمُّنًا بالرَّبّ، أن يتَّخذ اليوم السَّابع يوم استراحة؛ وعليه فإنّ يوم السَّبت هو عطلة. ويضيف باحثون أكثر راديكاليَّة بأنَّ السَّبت كان من اختلاق الكهنة في أورشليم. فلكي يحتفظوا بسلطتهم أرادوا أن يجبروا النَّاس على المجيء إلى الهيكل يومًا في الأسبوع.
الجزء الرَّئيسيُّ للسّفر الأوَّل من التوراة موضوعه وعد الله وعهده مع البشر، وكذلك العقوبات الَّتي يفرضها على الخاطئين، الَّذين عندما يتجاوزون إرادة الرَّبّ وشريعته فإنَّهم يخرقون عقده معهم. جاء في الإصحاح السَّادس من سفر التَّكوين أنَّ الله ندم على خلقه البشر، لأنَّه رأى أنَّ أفكارهم وأعمالهم شريرة على الدَّوام. ومع ذلك كان هناك استثناء واحد: إنَّه نوح، الرَّجل الصَّالح الَّذي يخاف الله، ولهذا السَّبب حثَّه الله على أن يبني له سفينة عظيمة (فُلْكًا):
فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كلَّ جسد فيه روح حياة من تحت السَّماء. كلُّ ما في الأرض. ولكن أقيم عهدي معك، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كلّ حيّ من كلّ ذي جسد، اثنين من كُلٍ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرًا وأنثى (التَّكوين. 6: 17-19)
هكذا أنقذ وعد الله نوحًا وأسرته من الفيضان، ولمَّا انحسر الماء رسا الفلك عند جبل أرارات، فأطلق نوح حمامة وعادت بغصن زيتون مخضرّ علامة على أنَّ الأرض صارت صالحة للعيش. وندم الرَّبّ مرَّة ثانية وعقد عهدًا جديدًا مع نوح وأولاده:
أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كلّ ذي جسد أيضًا بمياه الطُّوفان. ولا يكون أيضًا طوفان ليخرب الأرض (التَّكوين. 9:11)
وكعلامة على هذا العهد الجديد خلق الله قوس قزح.
الأشخاص الرَّئيسيون في هذه القصَّة المتَّصلة في أوَّل أسفار موسى هم نسل نوح، وفي مقدّمتهم الجدُّ الأوَّل إبراهيم وولده إسحاق وولده يعقوب. ومعظم هذه القصّة أساطير كان مرادًا منها أن تشرح أسماء تضاريس وطقوسًا دينيَّة وتقاليدًا اجتماعيَّة. فهنا بإمكاننا أن نعرف كيف اكتسبت المجموعات البشريَّة المختلفة في الشَّرق الأوسط أسماءها ومناطقها، وكيف أنَّهم جميعًا أقارب لبعضهم البعض إلى هذا الحدّ أو ذاك.
إنَّ نقطة الانطلاق هنا هي لوحة النَّسب لأبناء نوح: سام وحام ويافث. فالبحث اللُّغوي القديم يخبرنا بأنَّ أسماء هؤلاء الشُّخوص قد استخدمت كعلامات للمجموعات اللُّغويَّة القديمة: اللُّغة السَّامية، والحاميَّة، واليافثيَّة. حيث ينسب إلى نسل سام كلّ من الآشوريين والآراميين والعِبريين، بينما نسل يافث هم الأوروبيون الَّذين أقاموا على الشَّواطئ الشَّرقيَّة والشَّماليَّة للبحر المتوسّط. أمَّا أبناء حام فقد سكنوا الجزيرة العربيَّة ومصر، وكان من بينهم كوش ابن حام، الَّذي أصبح أبًا لنمرود “أوَّل حاكم في العالم”. وعندما نقرأ وصفًا لمملكة نمرود سنلاقي أسماء بابل، أكد، آشور، نينوى، وأماكن استطاع علماء الآثار تعيينها في وادي الرَّافدين.
وحيث أنَّ كلّ نسل نوح كانوا في الأصل يتكلَّمون لغة واحدة فقد سهَّل هذا عليهم أن يخطّطوا لبناء المدينة الكبرى بابل، وفيها بدأوا أيضًا ببناء برج عال أريد له أن يصل في علوّه إلى السَّماء، وهو أمر أثار قلق الرَّبّ فتدخَّل وعمل تشويشًا في لغة النَّاس (بَلْبلَ ألسنتهم) لكي لا يفهموا بعضهم البعض وبالتَّالي سيضطرُّون إلى قطع العمل في البرج. فقصَّة برج بابل هي إذن أسطورة المراد منها شرح لماذا يتكلَّم البشر لغات مختلفة.
أحد أبناء حام هو كنعان أصبح الجدَّ الأوَّل للشَّعب الَّذي سكن في فلسطين، أرض كنعان. لكن أبا كنعان ارتكب خطيئة كبرى عندما شاهد أباه نوحًا يستلقي عاريًا في خيمته. هذا ما يرويه حام لأخويه:
فأخذ سام ويافث الرّداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما؛ فلمَّا استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصَّغير، فقال: “ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته”. (التَّكوين. 9: 23-25)
إنَّ أسطورة خطيئة حام ولعنة نوح على كنعان ما هي إلاَّ لتبرير استيلاء بني إسرائيل على أرض كنعان.
حكاية إبراهيم
من بين أبناء سام نجد تارح وله ثلاثة أبناء: إبراهيم وناحور وحاران. وجاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر التَّكوين أنَّ أبا إبراهيم قد هاجر مع أسرته من مدينة أور، أو أور الكلدانيين كما أطلق العهد القديم على شرق وادي الرَّافدين. وساروا صاعدين مع نهر الفرات حتَّى بلد الحِثّيين، ومن هناك واصل إبراهيم مسيرته نازلاً صوب كنعان. وهنا عقد الرَّب عهدًا مع إبراهيم:
وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كلّ أرض كنعان ملكًا أبديًّا. وأكون إلههم. وقال الله لإبراهيم: وأمَّا أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الَّذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كلّ ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. (التّكوين. 17: 8-11)
وعندما سار إبراهيم وأبناؤه عبر البلاد نازلين باتّجاه مصر أصبح أحد أفراد الأسرة مغضوبًا عليه وتمَّ إقصاؤه. إنَّه لوط، إبن أخ إبراهيم، حيث رحل شرقًا وعبر نهر الأردن ليدخل مع زوجته وابنتيه مدينة سدوم، وكْر الخطيئة الَّتي سيعاقبها الرَّبُّ بالدَّمار التَّامّ. ولكنَّ الرَّب يتيح للوط وأسرته أن ينجوا من سدوم المحترقة شرط أن لا ينظروا إلى الوراء؛ ولم تطع زوجة لوط الرَّبَّ فنظرت إلى الوراء وتحوَّلت إلى عمود ملح. وعاش لوط كلاجئ في كهف، وهناك أغوته ابنتاه. وهكذا صار لوط أبًا لأبني ابنتيه: موآب وبِن عَمّي، فقد أُنجِبا في الخطيئة ومنهما تناسل جيران بني إسرائيل، الشَّعبان الصحراويان الموآبيون وبنو عمّون.
كقصَّة تاريخيَّة، فإنَّ هذه المرويَّة عن أقدار لوط ومغامراته هي في الحقيقة لا معنى لها، والأمر كلُّه أسطورة الغرض منها هو شرح أحد المحرَّمات الواردة في السّفر الخامس من أسفار موسى: لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرَّبّ. حتَّى الجيل العاشر لا يدخل منهم أحد في جماعة الرَّبّ إلى الأبد (التثنية. 23: 3). فأسطورة لوط وابنتيه أريد بها أن تشرح لماذا كان الموآبيون وبنو عمون مذنبين ومرتكبي محرَّمات.
وطُردَ إسماعيل، ابن إبراهيم من الخادمة المصريَّة هاجر، هو الآخر إلى الصَّحراء. كان لإسماعيل إثنا عشر ولدًا يعتبرهم العهد القديم الأجداد الأوائل للعدد نفسه من السلالات العَربيَّة. ووفق قرآن المسلمين فإنَّ إبراهيم وإسماعيل هما اللَّذان بنيا الكعبة.
وكان لدى إسحاق، الإبن الثَّاني لإبراهيم، ولدان، هما التَّوأمان عيسو ويعقوب. فعمد الأخ الأصغر، يعقوب، إلى الاحتيال لسلب أخيه إسحاق البكورية، أي حقّ الابن الأكبر في وراثة قطعان الماشية والمراعي. وعندما يتوسَّل عيسو بأبيه ليمنحه بركته يجيب إسحاق:
هُوَذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك،
وبلا ندى السَّماء من فوق.
وبسيفك تعيش،
ولأخيك تُستعبد.
ولكن يكون حينما تجمح
إنَّك تكسر نيره عن عنقك. (التكوين. 27: 39-40)
طرد عيسو إلى الصَّحراء، وهناك تزوَّج ابنة عمّه إسماعيل، وسكن شرق البحر الميّت في إقليم أدوم المجاور لسيناء. لكن أخاه يعقوب لم يكن لديه حتَّى تلك اللَّحظة موطن، فالبلد الَّذي وعد به الرَّبُّ إبراهيم كان في أرض كنعان، وهذه كانت مغلقة بشكل دائم على يعقوب وأبنائه.
الحقيقة أنَّ كتَّاب العهد القديم ليسوا محايدين، فقد وقفوا مع سام ويافث ضدَّ حام وكنعان، مع إبراهيم ضدَّ لوط، مع إسحاق ضدَّ إسماعيل، مع يعقوب ضدَّ عيسو. إنَّه نزوع واعٍ: فسكَّان الصَّحراء الَّذين كانوا جيران بني إسرائيل وأعداءهم يشار إليهم هنا بوصفهم نَسْلاً للمغضوب عليهم من أقارب نوح، أي المطرودين: حام، كنعان، لوط، إسماعيل وعيسو.
قد يكون جديرًا بالملاحظة أنَّ الفلسطينيين في غزَّة يعتبرون أنفسهم من نسل عيسو الابن الأكبر لإسحاق والَّذي احتال عليه أخوه الأصغر يعقوب، يعقوب الَّذي كان اسمه الآخر: إسرائيل.
أبناء يعقوب الإثنا عشر
ينتهي أوَّل سفر في التَّوراة بقصَّة عن أبناء يعقوب الاثني عشر، حيث يوسف هو ثاني أصغر الأبناء، وقد باعه إخوته في مصر كعبد، لكنَّه مع ذلك استطاع أن يكوّن لنفسه مستقبلاً في مصر وأصبح رجل دولة موثوقًا لدى فرعون. إنَّ هذه القصَّة هي رواية رومانسيَّة من دون أيّ جوهر تأريخيّ. لكنَّها أيضًا أسطورة تفسيريَّة أريد لها أن تربط ما بين حكاية الآباء الأوَّلين (إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب)، والتَّقليد المتواتر القائل بأنَّ بني إسرائيل هاجروا من مصر بقيادة موسى. إنَّ الهدف من قصَّة موسى وإخوته هو الإجابة على سؤال كيف تأتى لأبناء إسرائيل أن يصلوا إلى مصر.
كذلك أريدَ من هذه القصَّة أن تفسّر أصل النّظام الاتّحاديّ المكوّن من اثنتي عشرة سلالة ووهو النّظام الَّذي وجد وحكم في التّلال الواقعة على جانبي نهر الأردن، فحسب العهد القديم تتألَّف تلك السُّلالات من نسل يعقوب وأبنائه الاثني عشر. لكنَّ السّياق الحقيقيَّ ينبغي أن يكون العكس: فمن أسماء هذه السُّلالات ابتُكرت أسماء الآباء: رأوبين، سيمون، ليفي، يهوذا، دان، نفتالي، جاد، عشير، يساكر، زبولون، يوسف وبنيامين. ثمَّ يفسّر هذا السّياق النّظامَ الاتّحاديّ بأنَّ الآباء الأوَّلين كانوا إخوة، أبناءً ليعقوب وزوجتيه ليا وراحيل وكذلك أبناء له من جاريتيه بيلها وزيلفا. إنَّ أسماء المناطق الَّتي استوطنتها هذه السُّلالات في كنعان تظهر في عدَّة مواضع في التَّوراة وفي أماكن أخرى أيضًا، وتعكس في حقيقة الأمر واقعًا تاريخيًّا وجغرافيًّا. فرأوبين وجاد كانت مراعيهما في شرق الأردن، بينما عاش دان وعشير في الجليل. وإلى الأسفل منها عاش يوسف وبنيامين في الأرياف الَّتي هي الآن السَّامرة. أمَّا يهوذا وسيمون فقد سكنا في الجبال شرقًا في المنطقة الَّتي تسمَّى الآن يهودا. كما تُظهِر النُّصوص أنَّ علاقات القوَّة بين هذه السُّلالات قد تغيَّرت خلال الزَّمن. في خطبة الوداع لأبنائه يقول يعقوب أنَّ رأوبين، الإبن الأكبر، لم يعد هو المقَّدم على أخوته، وإنَّما يهوذا: “لا يزول قضيب من يهوذا” (التَّكوين. 49: 26). لكنَّ الإبن الحبيب ليعقوب هو يوسف، وبركات الرَّبّ سوف تتدفَّق “على رأس يوسف وعلى قمَّة نذير إخوته” (التَّكوين. 49: 26).
في السّفر الرَّابع من التَّوراة يقوم موسى بتسجيل الإسرائيليين المؤهَّلين للخدمة في الجيش. فتُكوِّن سلالة يهوذا أكبر نسبة على الإطلاق (74600 رجل)، يليها في الحجم سلالة دان (62700 رجل). وفي هذا التَّسجيل لا نرى وجودًا لسلالة يوسف حيث إنَّها قسمت بين ولديه إفرايم ومنسّى. وبذلك زاد عدد السُّلالات إلى ثلاثة عشر، لكن مع ذلك فإنَّ اثنتي عشرة سلالة هي الَّتي كانت لديها أماكنها المخصَّصة في بلاد كنعان. فما كان لسلالة ليفي أن تمتلك منطقتها الخاصَّة وذلك لأنَّ الليفيين كانوا كهَّانًا وخدَّام هياكل، وحقوقهم وواجباتهم ستصفها فيما بعد أجزاء عديدة من العهد القديم، من بين ذلك أن تدفع بقيَّة السُّلالات نسبة العُشر لإعالة الليفيين.
إنَّ النُّصوص الَّتي تتحدَّث عن انتشار السُّلالات الإسرائيليَّة في كنعان إنَّما تعرض وضعًا تاريخيًّا– سياسيًّا كان موجودًا في زمن سابق، يعود حتَّى الماضي الأسطوريّ للآباء الأوائل، كما تعطي إشارة إلى الزَّمن الَّذي جرى فيه هذا العرض. فلابدَّ أنَّ هذا العرض قد جرى في الوقت الَّذي شكَّل فيه الإسرائيليون أنفسَهم في مقاطعتين قبليتين: يهودا والسَّامرة واللَّتين ستصبحان في نهاية القرن العاشر قبل الميلاد مملكة يهودا في الشَّرق ومملكة إسرائيل في الشَّمال. لكن المؤكَّد أنَّ النُّصوص الَّتي تبرز المركز الخاصَّ لليفيين هي أقرب من ذلك بخمسمائة سنة، فهي تعود في الأصل إلى الزَّمن الَّذي صار فيه كهنة أورشليم وخدَّام هياكلها في موضع القوَّة بحيث صار بمقدورهم أن يكتبوا تأريخ الإسرائيليين من منظورهم الخاصّ بما في ذلك قيامهم بضمّ موسى وهارون، بطلي الهجرة اليهوديَّة، الى سلالة ليفي. إنَّ المكانة الخاصَّة لليفي يجري إبرازها أكثر في نصوص أقرب عهدًا عثر عليها بين لفائف كهوف قمران، ففيها يظهر ليفي بوصفه الأب الرَّابع، إبن يعقوب، وحفيد إسحاق، وإبن حفيد إبراهيم.
متى كتبت التَّوراة؟
طوال أكثر من ألفي سنة كان الكتاب المقدَّس العبريّ مترجمًا إلى اليونانيَّة ومتاحًا سواء لدراسات نقد النَّصّ أو لدراسات نقد المصادر، ولكن حتَّى الآن لم يتَّفق باحثو الكتاب المقدَّس حول زمن كتابة التَّوراة (أسفار موسى الخمسة) ولا حول جدارتها بالثّقة كمصدر تأريخيّ. في خاتمة السّفر الخامس نقرأ أنَّ موسى هو الَّذي كتب كلّ شيء، وهو أمر يكاد يكون غير منطقيّ فهو يعني أنَّه وصف حتَّى عمليَّة دفنه! كما إنَّ التَّحليلات الفطنة الَّتي أجراها الباحثون اللُّغويون على نصوص الكتاب المقدَّس تظهر أنَّ حالات التّكرار الكثيرة والاختلافات الأسلوبيَّة الكثيرة تدلّل على أنَّ التوراة بشكل عامّ لا يمكن أن يكون كاتبها شخصًا واحدًا. الأصحُّ هو إنَّ التوراة مجموعة قصص من أزمان مختلفة، حيث يحتمل أن تكون قد وجدت نواة لأساطير قبَلية شفاهيَّة قديمة جُمعت وحُرّرت من أجل خلق ملحمة قوميَّة مستمرَّة. أمَّا متى حصل ذلك فأمر لا نعلمه على وجه اليقين، لكن الباحثين يشيرون إلى ثلاثة مواقف مختلفة خلال العصور القديمة إحتاج فيها الشَّعب اليهوديُّ إلى التَّوحّثد قوميًّا ودينيًّا.
المرَّة الأولى كانت تحت حكم الملك يوشيا الَّذي أنجز خلال فترة حكمه (639- 609 ق.م) سلسلة من الإصلاحات هدفت إلى جعل عبادة ربّ اليهود (يهوه) في مكان مركزيّ هو هيكل أورشليم. ففي أثناء أعمال التَّرميم على الهيكل سنة 622 ق. م عثر رئيس الكهنة حلقيا على مخطوطة قديمة وسلَّمها إلى الملك، الَّذي قرأها باهتمام ورعب معًا. فقد اتَّضح له أنَّ النَّاس في أورشليم لم يعودوا يتَّبعون عقدهم مع الله وتعاليم العبادة المنصوص عليها في تلك المخطوطة. وتلك كانت نقطة البدء لإصلاحات الملك يوشيا. إنَّ كثيرًا من الباحثين يعتبرون أنَّ المخطوطة الَّتي “عثر عليها” حلقيا هي في الحقيقة قد كتبت في حينها، وأنَّها على وجه الدّقة السّفر الخامس من التوراة، سفر التثنية.
الاحتمال الثَّاني هو “السبي البابلي” (586-539 ق.م) حين أحرق الملك البابليُّ نبوخذنصر مدينة أورشليم وهيكل يهوه ونفى كلَّ رجال البلاط الملكيّ وكبار موظفي الدَّولة إلى بابل؛ وربَّما بلغ عدد المنفيين 10 آلاف شخص. استمرَّ المنفى نصف قرن، وأتيح لكثير من هؤلاء الأسرى أن يندمجوا في مجتمع بابل، وقسم كبير منهم اختاروا البقاء في بابل حتَّى بعد نيلهم الحريَّة. فليس من المستحيل والحالة هذه أن تكون الأسفار الأربعة الأولى من التوراة قد كتبت على يد المنفيين اليهود في بابل. هذه الفرضيَّة تسندها حقيقة أنَّ كتَّاب التوراة امتلكوا معرفة جيّدة بالبيئة الثَّقافيَّة في بابل: فالأسفار تورد الكثير من الأماكن في وادي الرَّافدين كما أنَّ قصص الخلق والطُّوفان في العهد القديم نجد لها قصصًا شبيهة، سابقةً عليها، في الأساطير البابليَّة.
الاحتمال الثَّالث يمكن أن يكون الموقف الَّذي نشأ عند استيلاء الملك الفارسيّ “قورش الكبير” على بابل سنة 539 ق.م وسماحه لليهود الأسرى بالعودة إلى أورشليم ومساعدته لهم في إعادة بناء هيكلهم. وعنى هذا لكهنة الهيكل أن يوحّدوا ما بين اليهود الَّذين كانوا قد بقوا في يهودا وأولئك العائدين من بابل، أن يعيدوا - بعد نصف قرن من الافتراق - خلق هويَّتهم الدّينيَّة والقوميَّة، لكن هذه المرَّة كإقليم في المملكة الفارسيَّة وبدون إستقلال سياسيّ. فحكَّام أورشليم لم يكونوا هذه المرَّة من سلالة الملك داود، وإنَّما هم كبار الكهنة، حيث أنَّ أسرة داود الحاكمة كانت قد انطفأت.
الهامش:
(*) فصل من كتاب “الكتاب المقدَّس وعلماء الآثار”، الصادر في ستوكهولم عام 2011.
Bibeln och Arkeologerna
هانس فوروهاغن Hans Furuhagen
ترجمة سمير طاهر
المصدر: الأوان
هل صدَّق بنو إسرائيل حقًّا قصَّة أنَّ إبراهيم قد نوى التَّضحية بابنه إسحاق قبل أن يتدخَّل الله ويأمره بأن يذبح كبشًا بدلاً من ابنه؟ أم أنَّ الأمر هو أنَّ كهنة بني اسرائيل قد أدركوا الحاجة إلى سلطة إله عندما أرادوا فرض تقليد جديد: أنَّه ابتداء من الآن يجب عدم التَّضحية بالأطفال كما كان النَّاس يفعلون من قبل، وكما كان جيرانهم الفينيقون ما زالوا وقتها يفعلون، ولذلك جرى تأليف أسطورة بأحداث بسيطة ورسالة قابلة للفهم؟
سنجري هنا تحقيقًا في بعض الأساطير الَّتي وراء قصص العهد القديم. لم يكن غرض كتَّاب العهد القديم ولا كتَّاب العهد الجديد أن يكتبوا وصفًا موضوعيًّا لتاريخ الشَّرق الأوسط في العصور القديمة. لقد كتبوا عن وعد الرَّبّ لشعبه المختار، وعن جرائم البشر ضدّ الاتّفاق المعقود مع الرَّبّ. وكثير من قصص الكتاب المقدَّس هي أساطير أكثر منها تأريخا، ولهذا علينا أن نعتبر الكتاب المقدَّس نصًّا عقائديًّا (إيديولوجيَّا) وليس كتاب تأريخ. فالسّياق الرَّئيسيُّ في العهد القديم هو الأسطورة القوّميَّة حول أرض الميعاد.
بعد الطوفان
لا تأخذ قصَّة خلق الرَّب للسّماء والأرض ولأوَّل كائن بشريّ سوى جزء افتتاحيّ صغير من سفر التَّكوين. ويتَّفق باحثو الإنجيل اليوم على أنَّ أيَّام الخلق السّتة هي أسطورة تشرح أنَّ على الانسان، تيمُّنًا بالرَّبّ، أن يتَّخذ اليوم السَّابع يوم استراحة؛ وعليه فإنّ يوم السَّبت هو عطلة. ويضيف باحثون أكثر راديكاليَّة بأنَّ السَّبت كان من اختلاق الكهنة في أورشليم. فلكي يحتفظوا بسلطتهم أرادوا أن يجبروا النَّاس على المجيء إلى الهيكل يومًا في الأسبوع.
الجزء الرَّئيسيُّ للسّفر الأوَّل من التوراة موضوعه وعد الله وعهده مع البشر، وكذلك العقوبات الَّتي يفرضها على الخاطئين، الَّذين عندما يتجاوزون إرادة الرَّبّ وشريعته فإنَّهم يخرقون عقده معهم. جاء في الإصحاح السَّادس من سفر التَّكوين أنَّ الله ندم على خلقه البشر، لأنَّه رأى أنَّ أفكارهم وأعمالهم شريرة على الدَّوام. ومع ذلك كان هناك استثناء واحد: إنَّه نوح، الرَّجل الصَّالح الَّذي يخاف الله، ولهذا السَّبب حثَّه الله على أن يبني له سفينة عظيمة (فُلْكًا):
فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كلَّ جسد فيه روح حياة من تحت السَّماء. كلُّ ما في الأرض. ولكن أقيم عهدي معك، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كلّ حيّ من كلّ ذي جسد، اثنين من كُلٍ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرًا وأنثى (التَّكوين. 6: 17-19)
هكذا أنقذ وعد الله نوحًا وأسرته من الفيضان، ولمَّا انحسر الماء رسا الفلك عند جبل أرارات، فأطلق نوح حمامة وعادت بغصن زيتون مخضرّ علامة على أنَّ الأرض صارت صالحة للعيش. وندم الرَّبّ مرَّة ثانية وعقد عهدًا جديدًا مع نوح وأولاده:
أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كلّ ذي جسد أيضًا بمياه الطُّوفان. ولا يكون أيضًا طوفان ليخرب الأرض (التَّكوين. 9:11)
وكعلامة على هذا العهد الجديد خلق الله قوس قزح.
الأشخاص الرَّئيسيون في هذه القصَّة المتَّصلة في أوَّل أسفار موسى هم نسل نوح، وفي مقدّمتهم الجدُّ الأوَّل إبراهيم وولده إسحاق وولده يعقوب. ومعظم هذه القصّة أساطير كان مرادًا منها أن تشرح أسماء تضاريس وطقوسًا دينيَّة وتقاليدًا اجتماعيَّة. فهنا بإمكاننا أن نعرف كيف اكتسبت المجموعات البشريَّة المختلفة في الشَّرق الأوسط أسماءها ومناطقها، وكيف أنَّهم جميعًا أقارب لبعضهم البعض إلى هذا الحدّ أو ذاك.
إنَّ نقطة الانطلاق هنا هي لوحة النَّسب لأبناء نوح: سام وحام ويافث. فالبحث اللُّغوي القديم يخبرنا بأنَّ أسماء هؤلاء الشُّخوص قد استخدمت كعلامات للمجموعات اللُّغويَّة القديمة: اللُّغة السَّامية، والحاميَّة، واليافثيَّة. حيث ينسب إلى نسل سام كلّ من الآشوريين والآراميين والعِبريين، بينما نسل يافث هم الأوروبيون الَّذين أقاموا على الشَّواطئ الشَّرقيَّة والشَّماليَّة للبحر المتوسّط. أمَّا أبناء حام فقد سكنوا الجزيرة العربيَّة ومصر، وكان من بينهم كوش ابن حام، الَّذي أصبح أبًا لنمرود “أوَّل حاكم في العالم”. وعندما نقرأ وصفًا لمملكة نمرود سنلاقي أسماء بابل، أكد، آشور، نينوى، وأماكن استطاع علماء الآثار تعيينها في وادي الرَّافدين.
وحيث أنَّ كلّ نسل نوح كانوا في الأصل يتكلَّمون لغة واحدة فقد سهَّل هذا عليهم أن يخطّطوا لبناء المدينة الكبرى بابل، وفيها بدأوا أيضًا ببناء برج عال أريد له أن يصل في علوّه إلى السَّماء، وهو أمر أثار قلق الرَّبّ فتدخَّل وعمل تشويشًا في لغة النَّاس (بَلْبلَ ألسنتهم) لكي لا يفهموا بعضهم البعض وبالتَّالي سيضطرُّون إلى قطع العمل في البرج. فقصَّة برج بابل هي إذن أسطورة المراد منها شرح لماذا يتكلَّم البشر لغات مختلفة.
أحد أبناء حام هو كنعان أصبح الجدَّ الأوَّل للشَّعب الَّذي سكن في فلسطين، أرض كنعان. لكن أبا كنعان ارتكب خطيئة كبرى عندما شاهد أباه نوحًا يستلقي عاريًا في خيمته. هذا ما يرويه حام لأخويه:
فأخذ سام ويافث الرّداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما؛ فلمَّا استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصَّغير، فقال: “ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته”. (التَّكوين. 9: 23-25)
إنَّ أسطورة خطيئة حام ولعنة نوح على كنعان ما هي إلاَّ لتبرير استيلاء بني إسرائيل على أرض كنعان.
حكاية إبراهيم
من بين أبناء سام نجد تارح وله ثلاثة أبناء: إبراهيم وناحور وحاران. وجاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر التَّكوين أنَّ أبا إبراهيم قد هاجر مع أسرته من مدينة أور، أو أور الكلدانيين كما أطلق العهد القديم على شرق وادي الرَّافدين. وساروا صاعدين مع نهر الفرات حتَّى بلد الحِثّيين، ومن هناك واصل إبراهيم مسيرته نازلاً صوب كنعان. وهنا عقد الرَّب عهدًا مع إبراهيم:
وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كلّ أرض كنعان ملكًا أبديًّا. وأكون إلههم. وقال الله لإبراهيم: وأمَّا أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الَّذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كلّ ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. (التّكوين. 17: 8-11)
وعندما سار إبراهيم وأبناؤه عبر البلاد نازلين باتّجاه مصر أصبح أحد أفراد الأسرة مغضوبًا عليه وتمَّ إقصاؤه. إنَّه لوط، إبن أخ إبراهيم، حيث رحل شرقًا وعبر نهر الأردن ليدخل مع زوجته وابنتيه مدينة سدوم، وكْر الخطيئة الَّتي سيعاقبها الرَّبُّ بالدَّمار التَّامّ. ولكنَّ الرَّب يتيح للوط وأسرته أن ينجوا من سدوم المحترقة شرط أن لا ينظروا إلى الوراء؛ ولم تطع زوجة لوط الرَّبَّ فنظرت إلى الوراء وتحوَّلت إلى عمود ملح. وعاش لوط كلاجئ في كهف، وهناك أغوته ابنتاه. وهكذا صار لوط أبًا لأبني ابنتيه: موآب وبِن عَمّي، فقد أُنجِبا في الخطيئة ومنهما تناسل جيران بني إسرائيل، الشَّعبان الصحراويان الموآبيون وبنو عمّون.
كقصَّة تاريخيَّة، فإنَّ هذه المرويَّة عن أقدار لوط ومغامراته هي في الحقيقة لا معنى لها، والأمر كلُّه أسطورة الغرض منها هو شرح أحد المحرَّمات الواردة في السّفر الخامس من أسفار موسى: لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرَّبّ. حتَّى الجيل العاشر لا يدخل منهم أحد في جماعة الرَّبّ إلى الأبد (التثنية. 23: 3). فأسطورة لوط وابنتيه أريد بها أن تشرح لماذا كان الموآبيون وبنو عمون مذنبين ومرتكبي محرَّمات.
وطُردَ إسماعيل، ابن إبراهيم من الخادمة المصريَّة هاجر، هو الآخر إلى الصَّحراء. كان لإسماعيل إثنا عشر ولدًا يعتبرهم العهد القديم الأجداد الأوائل للعدد نفسه من السلالات العَربيَّة. ووفق قرآن المسلمين فإنَّ إبراهيم وإسماعيل هما اللَّذان بنيا الكعبة.
وكان لدى إسحاق، الإبن الثَّاني لإبراهيم، ولدان، هما التَّوأمان عيسو ويعقوب. فعمد الأخ الأصغر، يعقوب، إلى الاحتيال لسلب أخيه إسحاق البكورية، أي حقّ الابن الأكبر في وراثة قطعان الماشية والمراعي. وعندما يتوسَّل عيسو بأبيه ليمنحه بركته يجيب إسحاق:
هُوَذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك،
وبلا ندى السَّماء من فوق.
وبسيفك تعيش،
ولأخيك تُستعبد.
ولكن يكون حينما تجمح
إنَّك تكسر نيره عن عنقك. (التكوين. 27: 39-40)
طرد عيسو إلى الصَّحراء، وهناك تزوَّج ابنة عمّه إسماعيل، وسكن شرق البحر الميّت في إقليم أدوم المجاور لسيناء. لكن أخاه يعقوب لم يكن لديه حتَّى تلك اللَّحظة موطن، فالبلد الَّذي وعد به الرَّبُّ إبراهيم كان في أرض كنعان، وهذه كانت مغلقة بشكل دائم على يعقوب وأبنائه.
الحقيقة أنَّ كتَّاب العهد القديم ليسوا محايدين، فقد وقفوا مع سام ويافث ضدَّ حام وكنعان، مع إبراهيم ضدَّ لوط، مع إسحاق ضدَّ إسماعيل، مع يعقوب ضدَّ عيسو. إنَّه نزوع واعٍ: فسكَّان الصَّحراء الَّذين كانوا جيران بني إسرائيل وأعداءهم يشار إليهم هنا بوصفهم نَسْلاً للمغضوب عليهم من أقارب نوح، أي المطرودين: حام، كنعان، لوط، إسماعيل وعيسو.
قد يكون جديرًا بالملاحظة أنَّ الفلسطينيين في غزَّة يعتبرون أنفسهم من نسل عيسو الابن الأكبر لإسحاق والَّذي احتال عليه أخوه الأصغر يعقوب، يعقوب الَّذي كان اسمه الآخر: إسرائيل.
أبناء يعقوب الإثنا عشر
ينتهي أوَّل سفر في التَّوراة بقصَّة عن أبناء يعقوب الاثني عشر، حيث يوسف هو ثاني أصغر الأبناء، وقد باعه إخوته في مصر كعبد، لكنَّه مع ذلك استطاع أن يكوّن لنفسه مستقبلاً في مصر وأصبح رجل دولة موثوقًا لدى فرعون. إنَّ هذه القصَّة هي رواية رومانسيَّة من دون أيّ جوهر تأريخيّ. لكنَّها أيضًا أسطورة تفسيريَّة أريد لها أن تربط ما بين حكاية الآباء الأوَّلين (إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب)، والتَّقليد المتواتر القائل بأنَّ بني إسرائيل هاجروا من مصر بقيادة موسى. إنَّ الهدف من قصَّة موسى وإخوته هو الإجابة على سؤال كيف تأتى لأبناء إسرائيل أن يصلوا إلى مصر.
كذلك أريدَ من هذه القصَّة أن تفسّر أصل النّظام الاتّحاديّ المكوّن من اثنتي عشرة سلالة ووهو النّظام الَّذي وجد وحكم في التّلال الواقعة على جانبي نهر الأردن، فحسب العهد القديم تتألَّف تلك السُّلالات من نسل يعقوب وأبنائه الاثني عشر. لكنَّ السّياق الحقيقيَّ ينبغي أن يكون العكس: فمن أسماء هذه السُّلالات ابتُكرت أسماء الآباء: رأوبين، سيمون، ليفي، يهوذا، دان، نفتالي، جاد، عشير، يساكر، زبولون، يوسف وبنيامين. ثمَّ يفسّر هذا السّياق النّظامَ الاتّحاديّ بأنَّ الآباء الأوَّلين كانوا إخوة، أبناءً ليعقوب وزوجتيه ليا وراحيل وكذلك أبناء له من جاريتيه بيلها وزيلفا. إنَّ أسماء المناطق الَّتي استوطنتها هذه السُّلالات في كنعان تظهر في عدَّة مواضع في التَّوراة وفي أماكن أخرى أيضًا، وتعكس في حقيقة الأمر واقعًا تاريخيًّا وجغرافيًّا. فرأوبين وجاد كانت مراعيهما في شرق الأردن، بينما عاش دان وعشير في الجليل. وإلى الأسفل منها عاش يوسف وبنيامين في الأرياف الَّتي هي الآن السَّامرة. أمَّا يهوذا وسيمون فقد سكنا في الجبال شرقًا في المنطقة الَّتي تسمَّى الآن يهودا. كما تُظهِر النُّصوص أنَّ علاقات القوَّة بين هذه السُّلالات قد تغيَّرت خلال الزَّمن. في خطبة الوداع لأبنائه يقول يعقوب أنَّ رأوبين، الإبن الأكبر، لم يعد هو المقَّدم على أخوته، وإنَّما يهوذا: “لا يزول قضيب من يهوذا” (التَّكوين. 49: 26). لكنَّ الإبن الحبيب ليعقوب هو يوسف، وبركات الرَّبّ سوف تتدفَّق “على رأس يوسف وعلى قمَّة نذير إخوته” (التَّكوين. 49: 26).
في السّفر الرَّابع من التَّوراة يقوم موسى بتسجيل الإسرائيليين المؤهَّلين للخدمة في الجيش. فتُكوِّن سلالة يهوذا أكبر نسبة على الإطلاق (74600 رجل)، يليها في الحجم سلالة دان (62700 رجل). وفي هذا التَّسجيل لا نرى وجودًا لسلالة يوسف حيث إنَّها قسمت بين ولديه إفرايم ومنسّى. وبذلك زاد عدد السُّلالات إلى ثلاثة عشر، لكن مع ذلك فإنَّ اثنتي عشرة سلالة هي الَّتي كانت لديها أماكنها المخصَّصة في بلاد كنعان. فما كان لسلالة ليفي أن تمتلك منطقتها الخاصَّة وذلك لأنَّ الليفيين كانوا كهَّانًا وخدَّام هياكل، وحقوقهم وواجباتهم ستصفها فيما بعد أجزاء عديدة من العهد القديم، من بين ذلك أن تدفع بقيَّة السُّلالات نسبة العُشر لإعالة الليفيين.
إنَّ النُّصوص الَّتي تتحدَّث عن انتشار السُّلالات الإسرائيليَّة في كنعان إنَّما تعرض وضعًا تاريخيًّا– سياسيًّا كان موجودًا في زمن سابق، يعود حتَّى الماضي الأسطوريّ للآباء الأوائل، كما تعطي إشارة إلى الزَّمن الَّذي جرى فيه هذا العرض. فلابدَّ أنَّ هذا العرض قد جرى في الوقت الَّذي شكَّل فيه الإسرائيليون أنفسَهم في مقاطعتين قبليتين: يهودا والسَّامرة واللَّتين ستصبحان في نهاية القرن العاشر قبل الميلاد مملكة يهودا في الشَّرق ومملكة إسرائيل في الشَّمال. لكن المؤكَّد أنَّ النُّصوص الَّتي تبرز المركز الخاصَّ لليفيين هي أقرب من ذلك بخمسمائة سنة، فهي تعود في الأصل إلى الزَّمن الَّذي صار فيه كهنة أورشليم وخدَّام هياكلها في موضع القوَّة بحيث صار بمقدورهم أن يكتبوا تأريخ الإسرائيليين من منظورهم الخاصّ بما في ذلك قيامهم بضمّ موسى وهارون، بطلي الهجرة اليهوديَّة، الى سلالة ليفي. إنَّ المكانة الخاصَّة لليفي يجري إبرازها أكثر في نصوص أقرب عهدًا عثر عليها بين لفائف كهوف قمران، ففيها يظهر ليفي بوصفه الأب الرَّابع، إبن يعقوب، وحفيد إسحاق، وإبن حفيد إبراهيم.
متى كتبت التَّوراة؟
طوال أكثر من ألفي سنة كان الكتاب المقدَّس العبريّ مترجمًا إلى اليونانيَّة ومتاحًا سواء لدراسات نقد النَّصّ أو لدراسات نقد المصادر، ولكن حتَّى الآن لم يتَّفق باحثو الكتاب المقدَّس حول زمن كتابة التَّوراة (أسفار موسى الخمسة) ولا حول جدارتها بالثّقة كمصدر تأريخيّ. في خاتمة السّفر الخامس نقرأ أنَّ موسى هو الَّذي كتب كلّ شيء، وهو أمر يكاد يكون غير منطقيّ فهو يعني أنَّه وصف حتَّى عمليَّة دفنه! كما إنَّ التَّحليلات الفطنة الَّتي أجراها الباحثون اللُّغويون على نصوص الكتاب المقدَّس تظهر أنَّ حالات التّكرار الكثيرة والاختلافات الأسلوبيَّة الكثيرة تدلّل على أنَّ التوراة بشكل عامّ لا يمكن أن يكون كاتبها شخصًا واحدًا. الأصحُّ هو إنَّ التوراة مجموعة قصص من أزمان مختلفة، حيث يحتمل أن تكون قد وجدت نواة لأساطير قبَلية شفاهيَّة قديمة جُمعت وحُرّرت من أجل خلق ملحمة قوميَّة مستمرَّة. أمَّا متى حصل ذلك فأمر لا نعلمه على وجه اليقين، لكن الباحثين يشيرون إلى ثلاثة مواقف مختلفة خلال العصور القديمة إحتاج فيها الشَّعب اليهوديُّ إلى التَّوحّثد قوميًّا ودينيًّا.
المرَّة الأولى كانت تحت حكم الملك يوشيا الَّذي أنجز خلال فترة حكمه (639- 609 ق.م) سلسلة من الإصلاحات هدفت إلى جعل عبادة ربّ اليهود (يهوه) في مكان مركزيّ هو هيكل أورشليم. ففي أثناء أعمال التَّرميم على الهيكل سنة 622 ق. م عثر رئيس الكهنة حلقيا على مخطوطة قديمة وسلَّمها إلى الملك، الَّذي قرأها باهتمام ورعب معًا. فقد اتَّضح له أنَّ النَّاس في أورشليم لم يعودوا يتَّبعون عقدهم مع الله وتعاليم العبادة المنصوص عليها في تلك المخطوطة. وتلك كانت نقطة البدء لإصلاحات الملك يوشيا. إنَّ كثيرًا من الباحثين يعتبرون أنَّ المخطوطة الَّتي “عثر عليها” حلقيا هي في الحقيقة قد كتبت في حينها، وأنَّها على وجه الدّقة السّفر الخامس من التوراة، سفر التثنية.
الاحتمال الثَّاني هو “السبي البابلي” (586-539 ق.م) حين أحرق الملك البابليُّ نبوخذنصر مدينة أورشليم وهيكل يهوه ونفى كلَّ رجال البلاط الملكيّ وكبار موظفي الدَّولة إلى بابل؛ وربَّما بلغ عدد المنفيين 10 آلاف شخص. استمرَّ المنفى نصف قرن، وأتيح لكثير من هؤلاء الأسرى أن يندمجوا في مجتمع بابل، وقسم كبير منهم اختاروا البقاء في بابل حتَّى بعد نيلهم الحريَّة. فليس من المستحيل والحالة هذه أن تكون الأسفار الأربعة الأولى من التوراة قد كتبت على يد المنفيين اليهود في بابل. هذه الفرضيَّة تسندها حقيقة أنَّ كتَّاب التوراة امتلكوا معرفة جيّدة بالبيئة الثَّقافيَّة في بابل: فالأسفار تورد الكثير من الأماكن في وادي الرَّافدين كما أنَّ قصص الخلق والطُّوفان في العهد القديم نجد لها قصصًا شبيهة، سابقةً عليها، في الأساطير البابليَّة.
الاحتمال الثَّالث يمكن أن يكون الموقف الَّذي نشأ عند استيلاء الملك الفارسيّ “قورش الكبير” على بابل سنة 539 ق.م وسماحه لليهود الأسرى بالعودة إلى أورشليم ومساعدته لهم في إعادة بناء هيكلهم. وعنى هذا لكهنة الهيكل أن يوحّدوا ما بين اليهود الَّذين كانوا قد بقوا في يهودا وأولئك العائدين من بابل، أن يعيدوا - بعد نصف قرن من الافتراق - خلق هويَّتهم الدّينيَّة والقوميَّة، لكن هذه المرَّة كإقليم في المملكة الفارسيَّة وبدون إستقلال سياسيّ. فحكَّام أورشليم لم يكونوا هذه المرَّة من سلالة الملك داود، وإنَّما هم كبار الكهنة، حيث أنَّ أسرة داود الحاكمة كانت قد انطفأت.
الهامش:
(*) فصل من كتاب “الكتاب المقدَّس وعلماء الآثار”، الصادر في ستوكهولم عام 2011.
Bibeln och Arkeologerna
إضافة تعليق جديد