تحدّي المرأة للفكر العربيّ والإسلاميّ
إنّ أوّل ما سيقال ونحن نطرح قضيّة المرأة بهذا الشّكل الصَّريح والجريء انسجاما مع كانط في دعوته إلى الجرأة والشّجاعة كآلية معرفيّة وسياسيّة في عيش الحياة الإنسانيّة كقيم اجتماعيّة وثقافيّة والانتصار لها ضدّ الموت في أشكاله القهريّة والإقصائيّة والاستعباديّة أي في ممارسة الصّراع المجتمعيّ في تفاوتاته البنيويّة والتّطوريّة: الاقتصاديَّة والإيديولوجيّة والسّياسيّة، هو أن لغتنا فيها الكثير من التّهجم والمزايدة وقد يقال أيضا لقطع الطريق أمام عقل القارئ الشّكَّاك الحائر أنّ لغتنا فيها الكثير من التشيطن والكفر والخيانة والمؤامرة ضدّ الهويّة والأصالة والوطن.
أغلب ما كتب في الفكر العربيّ والإسلاميّ قديما وحديثا وفي ثقافتهما على العموم المكتوبة والشّفويّة حول قضيّة المرأة عبارة عن أكذوبة كبيرة لا تقلّ بشاعة عن أي جريمة في حقّ الإنسانيّة. عندما يصل هذا الفكر في هواجسه وأسئلته وإشكالياته المزعومة إلى قضيّة المرأة ينهار أيّ حسّ أو ارتباط له بالمنطق العقلانيّ العلميّ والمعرفيّ ويستنجد بكلّ أنواع الخرافات والمكر والتّحايل والتّعتيم إلى درجة الكذب والنّفاق المعرفيّ والأخلاقيّ أي يصير مستعدّا لقول وفعل كلّ ما يمكن أن يدفن حقيقة النّوع الإنسانيّ للمرأة. والأمر لا يتعلّق فقط بالفكر الدّينيّ بمختلف أقنعته الاجراميّة في التّنكيل بالإنسان عموما والمرأة خصوصا بل أيضا الفكر العلمانيّ التَّنويريّ والنَّقديّ على العموم.
لماذا يخاف العربيّ والمسلم من المرأة إلى هذا الحدّ؟ ولماذا يخشى قول الحقيقة فيقاتل رمزيّا وماديّا على أرض الواقع لطمس بشاعة تصوّراته ومعتقداته وأفكاره وإيمانه الدّيني الحقيقي بقضيّة المرأة؟ لماذا يسكنه الرّعب والإرهاب فينهار من خشية انكشاف حقيقة وجوده لذلك تراه ممعنا في السّتر والحجاب في صراع مميت لوأد حقيقة النّوع الإنسانيّ؟ أليس مصدر خوفه نابع من سيكولوجيّة الانفصال الّتي تمزّقه حين حسمت السّماء علاقتها بالأرض أو بتعبير أدقّ عندما أرادت سطوة الأرض في تشكلها الإيديولوجيّ كسلطة سياسيّة الاستئثار بالسَّماء واحتكار التّحكم في المتعالي " لانبيّ بعدي " "اليوم أكملت لكم دينكم "؟
كان من الممكن للعربيّ والمسلم أن يعيش قلق الهجر بالمعنى الدّنيوي الأفقي الإبداعي الخلاّق لكن منطلقات وآليات النّص الدّيني جعلته عاجزا عن المشي على قدميه والاستقلال بنفسه لأنّه أينما ولى وجهه فثمّة وجه الله يحصي حركاته وسكناته ويراقب أنفاسه وهو يدعوه في كلّ لحظة تحت ضغط الوسواس القهري أن يكفّر نفسه باستمرار أي أن يكفر بالحياة الدنيا في جميع تفاصيلها الصَّغيرة والكبيرة في العمران والمال والبنون والفرح واللَّعب والتَّرفيه عن النَّفس باعتبارها لهو ورجس من عمل الشَّيطان. فهو ليس مؤمنا إلاَّ لأنَّه كافر يكفر نفسه الَّتي ترزح تحت عبء الكفّارة في الأكل والشرب والنّظرة والنَّوم والسَّفر... فلا ذريعة للإغفال عن ذكر الله في كلّ شيء. عبء يجعل منه مجرَّد آلة عبوديّة في الخنوع والخضوع والاستغفار والتَّعبّد في دوَّامة عنف نفسي لا ترحم ممّا يغرقه في ازدواجيّة الشَّخصيَّة والانشطار النَّفسي والوجداني. ولكي يخفّف قليلا من عذاب تكفير نفسه باستمرار عليه أن يسقط كفره على الآخرين فهو في أمسّ الحاجة النَّفسيَّة إلى آليّة التَّكفير من خلال الاختلاف الدّينيّ أو الاختلاف المذهبيّ من دينه نفسه. هكذا نلاحظ بأنّ خوفه نفسيّ معرفيّ وجوديّ أكثر منه جبن أخلاقيّ أو نعت قدحي. ليس سهلا عليه أن يفكّر حياته الدّنيويّة الَّتي ابتلعتها سطوة الدّينيّ وأيّ تفكير في دينه الّذي ليس أكثر من توسّط معرفيّ ثقافيّ اجتماعيّ لبناء وحدة نسيجه الاجتماعيّ السّياسيّ كسلطة متعالية تقدّم خدمات مقدَّسة مقابل الخنوع والخضوع والعبوديّة والطَّاعة يؤدّي هذا إلى حالة من الخوف والفزع الرَّهيب من تمزيق وحدته وإطاره المشترك أي فيما يعتقد هويّته الثَّابتة الأزليّة الَّتي لا تتغيّر ولا يأتيها الباطل وأيّ ابتعاد عنها في الزّمن التَّاريخيّ الاجتماعيّ هو مجرَّد فساد وكفر. إنّه يدرك أنّ أفق سؤال التّفكير يضعه وجها لوجه أمام حقيقة أن يسقط المعبد عليه بعد أن تظهر حقيقة ما يخفيه
يمكن للقارئ أن يتصفح ثقافة الحس المشترك من خلال تنشئته الاجتماعيّة والثقافيّة من الأسرة ووصولا إلى الجامعة ويتصفح أيضا الكتب التكريسيّة وحتّى النقديّة سيجد الكثير من الكلام المتبجّح بالموقف الرّائع للإسلام أوّلا من الإنسان عموما في التّكريم والخلق في أحسن الصور وثانيا ما تحظى به المرأة من مكانة مرموقة وحقوق مضمونة ومصانة. وإلى حدود اليوم كان آخر مقالة قراتها هي حول صورة الإنسان في القرآن ويمكن للقارئ أن يجد على الشبكة العنكبوتية الآلاف من الكتابات النّمطيّة في التّستر على الحقيقة. لكن لماذا لا تقول الكتابات العربيّة والإسلاميّة شيئا يخص تكريم سبي النّساء والإماء والجواري؟ ما الّذي يجعل من حقي شرعا أن أمتلك إنسانا في صورة حيوان يباع ويشترى يغتصب ويستغل ويذل؟ ويمكن اذخاره ليوم الكبيرة أو عند انتهاك المحرّمات وخرق المقدّس وذلك لتحسين العلاقة مع الله من خلال فكّ رقبة. هل اطلعنا في أمّهات مصادرنا الدّينيّة والتَّاريخيّة على العدد الهائل من النّساء اللَّواتي وجدن أنفسهنّ في وضعية الإماء والجواري بسبب حروب غنائم الغزو عنوة لنشر كلمة الله؟ لماذا العربي والمسلم يخاف من طرح الأسئلة ؟ ليس لأنّه لا يشكّ ولا يتساءل ولكن لسبب بسيط ومعقّد فهو يخاف أن يبقى في العراء وحيدا بدون معتقد إيماني يتوسّط وجوده في الحياة. إنّه خائف إلى أبعد الحدود من فقدان الذَّاكرة ومن ارتداد عدوانيته لتفتّك بأحشائه الّتي لا تكف عن الغليان العصابي فيما لو تساءل بجديّة حول صورة سبي النّساء و الإماء والجواري؟ هل لأنّ ذلك سيجره إلى القول المكبوت في النّفس حول حقيقة ومصداقيّة الله الّذي يطلب منه نشر الدّين الحقّ على حساب كرامة الإنسان بل والأخطر من ذلك على إنقاض روح الإنسان أي استباحة دمه؟ وبالتَّالي سيتساءل كيف يمكن أن يطلب مني الاله قتل النّفس الّتي حرّم قتلها وأية نفس يقصد؟ هل هناك خصوصيّة في مفهوم النّفس والإنسان الَّتي يطرحها الإسلام؟ وهكذا تتناسل أسئلة الايمان الحقيقيّة بالشَّكّ في اليقين اللاَّإنساني المدمّر لقيمة الإنسان وحرمته البشريّة ومن ثمَّة البحث عن الحقيقة؟ لكن نادرا ما ينزاح قليلا إيمان كفر اليقين الوثوقي عن إرهابه في وجه سيرورة إيمان البحث عن الحقيقة الَّتي لايمكن أن تكون واحدة ناجزة ونهائيّة وإنّما تكون وتصير كلّ يوم متعددة ومختلفة ومتفاوتة الأهميّة والعمق المعرفيّ والإنسانيّ وهي ليست مقدَّسة إلاّ في اتّجاه التّجاوز والتّغيير والنّماء والاثراء.
ونحن هنا لا نتحدث عن تلك المجتمعات من الغرب الإسلامي إلى الشرق الإسلامي الّتي رغم أنّها أعلنت إسلامها كانت تساق بناتها ظلما وعدوانا إلى قصر الخليفة والولاة بل نتحدث عن الامتلاك الشرعي الّذي يباركه الإله بنص قطعي الدلالة. ألا علاقة لهؤلاء النّساء بالإنسان الّذي كرمه الله؟ فلماذا نضخم من حقيقة الورث رغم وقاحتها التمييزية وننسى الاسترقاق الشّرعي الديني للإنسان في انتهاك قيمة وكرامة المرأة المسبية والجارية والأمة؟
هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة النقديّة الّتي تبحث بصدق نقدي وأخلاقي إنساني عن موقف الإسلام من الإنسان عموما والمرأة بشكل خاص ليست صعبة أو ليست في متناول أي إنسان عربي ومسلم لكن الخوف من فقدان أمل الخلاص الديني هو الَّذي يعمل على تكريس قيم اجتماعيّة وثقافيّة كانت سائدة بمعنى كانت مقبولة أخلاقيًّا في مرحلة تاريخيّة محدّدة أي أنّه من الصعب أن نتحدث عن الحريّة و الفرد والعدالة والمساواة بين الأفراد والفئات الاجتماعيّة أو بين النّساء والرّجال أو داخل كل نوع إنساني على حدة أو بين الحرّة والأمة والجواري. لهذا نحن لا نستغرب عدم وجود نص ديني يحرم الإماء والجواري والعبوديّة وحقّ سبي النّساء وقتل الإنسان بدعوى نشر الدّين الجديد. وبتركيزنا على القيمة المركزيّة الشّاملة لكرامة الإنسان فإنّنا لا نقلل من قيمة ما طرحه النبي من أفكار جديدة ولذلك اتّهم بالسّحر والجنون لكنّه لم يذهب بعيدا في الرفض الجذري لكلّ ما هو سائد بل تحرك ضمن الإطار المعرفيّ الاجتماعيّ التّاريخي السّائد في زمنه أي عمل على تكريس صور المراتب المجتمعيّة الموجودة بين الجماعات وداخل كلّ جماعة كفئات متفاوتة في التّقدير والاعتبار والمكانة والشّرف والوجاهة الاجتماعيّة. وحتّى لا يذهب بعيدا في سحره وجنونه كما اتّهم بذلك كان عليه أن يؤسلم الكثير من القيم والتّصورات والمعتقدات والممارسات الجاهليّة. وفي هذا سرّ نجاح دعوته لأنّه لو دخل في تناقض تام مع كلّ الأساس السّائد في الواقع والفكر لنجح الخصوم في وصمه بالسّحر والجنون أو بلغة الإرهاب اليوم لتمّ وصمه بالتكفير وما يرافقه من هدر الدم واستباحة القتل.
والفكرة الّتي نطرحها هنا واضحة كلّ الوضوح أن النبي ما كان له أن يطرح القيم الإنسانيّة بالمعاني المتداولة اليوم كحقّ الحياة وحريّة المعتقد والمساواة المجتمعيّة واحترام إنسانيّة الإنسان ومن ضمن ذلك إنسانيّة المرأة بتحريم سبيها وامتلاكها. لأنّه لو فعل ذلك لكانت ستعتبر أفكاره فضيحة أخلاقيّة وثقافيّة واجتماعيّة وخرقا لوحدة القيم المشتركة بين النّاس وسط قبائل كانت ترى في تلك المراتب والتّفاوتات وفي قيمها الثَّقافيّة وعلاقاتها الاجتماعيّة في الغزو والاسترقاق وامتلاك الجواري حقّا طبيعيًّا أقرب إلى المسلمات الإيمانيّة الَّذي يضمن وحدتها الاجتماعيّة وإعادة إنتاج علاقاتها الماديّة والرَّمزيَّة الثَّقافيّة كممارسات اجتماعيّة لا تخلو من صيرورة التّغيير والتحولات في إطار ما يسمح به البناء الاجتماعيّ المشترك لوحدة القبيلة أو الجماعات من آفاق في بلورة الجديد الّذي يوافق السَّيرورة التّاريخيّة لتلك الجماعات كقبيلة أو تحالفات قبليّة.
إنّ عدم مناقشة قضيّة المرأة من هذه الزَّاوية هو الخوف من التّاريخ والنّقد التّاريخي الَّذي يبيّن الأشياء على حقيقتها أي أنّها غير صالحة لكلّ زمان ومكان. ليس للتَّقليل من قيمتها برغبة ذاتيّة إيديولوجيّة في رفضها والتّهجم عليها بسبب كونها قيما دينيّة بل لكشف حدودها ومحدوديتها كتجربة خصوصيّة في التّاريخ. ونقصد بالخصوصيّة هنا ارتباطها بإطار معرفيّ اجتماعيّ محدود برؤية ذلك المجتمع لنفسه والآخر والعالم. وأنّ الإنسان المقصود في الإسلام خصوصي في التّاريخ أي لايشمل الإنسان بالمعنى العام الإنساني ليس فقط على مستوى العالم بل بالدّرجة الأولى داخل الجماعات القبليّة الّتي ظهر فيها الإسلام. وفي هذا السّياق يفهم كلّ ما قيل عن موقف الإسلام من المرأة.
إذن كان طبيعيّا أن تستمرّ دينيّا شرعيّة السَّبي والجواري والإماء و واللاّمساواة أي المحافظة على كلّ التّفاوتات التّمييزيَّة والاجتماعيَّة بين السَّادة والعبيد بين الأشراف والموالي بين الحرَّة والأَمة بين الرّجال والنّساء...
وانطلاقا من هذا الفهم ندرك الخطأ الجسيم الّذي ارتكبته الكتب الدّينيّة ومن ضمنها كتب التّفسير حول الدَّلالة المعرفيّة الثَّقافيّة والاجتماعيّة التّاريخيّة للكثير من الأفكار المتضمنة في النّص الدّينيّ ومن ضمنها اتّهام النّبي بالسّحر والجنون بمعنى الرّفض المعرفيّ والأخلاقيّ الاجتماعي لزلزلة الإطار المشترك للجماعات والقبائل ليس على مستوى التَّديُّن كمعتقدات وتصوّرات فقط بل بالدَّرجة الأولى على مستوى الممارسات المجتمعيّة كواقع طبيعيّ أو قل بتعبير أدقّ يأخذ المظهر الطبيعيّ في حركيته التّاريخيّة تسمح له باختفاء أساسه الاجتماعي كعلاقات اجتماعيّة يحدّدها مستوى تطور الشّرط البشري في بنياته المجتمعيّة الماديّة والمعرفيّة الثَّقافيّة. إذن لم يكن بإمكان النّص الدّيني أن يشتط في الخيال العبقريّ الجنونيّ وهذه المعاناة في قراءة الواقع حاضرة بقوّة في النّص الدينيّ وهي تحاول التغيير ليس من زاوية جنون القطيعة وهي طريق فاشل لمشروع النُّبوَّة لذلك تمَّت عملية تأسيس الجديد من خلال معادوة الانتاج لنفس العلاقات الاجتماعيّة بفتح آفاق محدودة في البنيات المعرفيّة والثَّقافيّة والاجتماعيّة التَّاريخيَّة قد تكون ثوريّة في لحظتها لكنَّها ليست مثالية ونموذجيَّة للمجتمعات الإسلاميّة اليوم بل هي بعيدة اليوم عن القيم الإنسانيّة ليس فقط في علاقتها بالمرأة وإنّما كذلك في علاقتها بالإنسان عموما بما في ذلك الجانب الرُّوحيّ الايمانيّ.
وأيّ خرق جذري لتغيير هذه السّياقات المعرفيّة الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة التَّاريخيَّة كليّا كان سيعتبر سحرا وجنونا أحمقا لأنّه يهدّد الإطار المشترك لذلك المجتمع وهذا ما لم تكن لتقبل به تلك القبائل إلّا في حدود الطبيعي السَّائد أو بتعبير أدقّ في حدود سقف ما كان يعتبر طبيعيّا. من هنا نفهم سرّ جدل الاستمراريّة والقطيعة في الإسلام أو جدل الأسلمة والجاهليّة في الإسلام بمعنى أنّه لايمكن أن تكون مسلما إلّا لأنّك جاهلي في أعماقك ونظرتك ورؤيتك وفي علاقاتك الاجتماعية أي أن تهدم الأصنام خارجك لتحملها داخلك في نوع من الاجتياف الخطير لوثنية العلاقة بالسّماء على مستوى النّفس والفكر وهذا ما يستعصي على التَّفكير أو القبول بالردّة والتّغيير في عيش التّاريخ البشري وهو يعبّر عن أعنف قوانينه في تطوّر السَّيرورة التَّاريخيّة للمجتمعات. إنّ خوف العربي والمسلم من طرح كلّ المشاكل من هذه الزّاوية التّاريخيّة نابع إمّا من جهله أوّلا بالمنهجيات الحديثة في التَّحليل النّقدي أو اعتقادا منه بإمكانيّة الإصلاح الدّينيّ من داخل النّصوص الدّينيّة أو من خلال الاشتغال النّقدي عليها. وإمّا خوفا من رؤية المسلم للجاهلي القابع في أعماقه وهو يغزو ويقتل ويسبي ويسترق ويمتلك الجواري... وغالبا ما يخشى ما هو بشري في إيمانه حين يكتشف حدود سقف قيمه الإنسانية فيفرّ مذعورا من حقيقة رؤية صورة تكريم الإنسان في النّص الدّيني في حقيقتها التّاريخيّة كتجربة خصوصيّة في التّاريخ أي مرتبطة بسياقات معرفيّة ثقافيّة اجتماعيّة تاريخيّة محدودة ومحدّدة كان من المستحيل الحديث فيها عن حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها اليوم.
إنَّ طرح قضية المرأة اليوم من زاوية السبي والاماء والجواري وفي التّناقض الثّانوي مع المرأة الحرّة انطلاقا من محدوديّة السياقات الدّينيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة الّتي تشرعن دونية المرأة وامتلاك الإنسان وتقديس الجماعة ونبذ الفرد والمساواة...هذا الطَّرح هو الّذي بإمكانه وضع التَّجربة الخصوصيّة للإسلام في سياقها التّاريخي بنوع من النّقد العلمي المترفّع عن التّهجم القدحي للدّين والمبتعد أيضا عن التَّقديس للمغالطات التَّاريخيّة في تخيّل وإسقاط ما لم يكن قد تحقّق تاريخيّا في التّجربة الإسلاميّة نصًّا أو على مستوى الواقع التّاريخي. والأخطر من هذا كلّه أنّه لايمكن للقيم الإنسانيّة خاصَّة لعلاقة المرأة بالإسلام أن تتأسَّس انطلاقا من هذه التّجربة الخصوصيّة في التَّاريخيَّة. لأنّها تجربة لا تفتح أفقا لمثل هذه القيم الإنسانيّة وليس في هذا تهجّما على الدّين بقدر ما أنّ الأمر يتعلّق بمناقشة الدّنيوي في الدّين أي الحركة التّاريخيّة لسيرورة المجتمعات في بنياتها السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيَّة والَّتي لم يعد الدّين قادرا على تأطيرها أو تقديم إجابات موضوعيّة لتناقضاتها وتحوّلاتها وتطوّرها ولمآزقها المعقّدة والّتي تتطلّب فكرا من طبيعتها الإنسانيّة بعيدا عن أقنعة المقدَّس المتعالي.
بناء على عدم إمكانيّة هذا الأفق في تجربة الإسلام ننتقد الكتابات النَّقديّة التنويريّة الَّتي مارست اجتهادها وهي تحاول نقل الإسلام من التّجربة الخصوصية في التاريخ إلى الكونيّة الإنسانية. هناك الكثير من الكتابات الّتي انتصرت لحدود ومحدودية النّص الدينيّ كما انتصرت للممارسات التَّدينيّة في الإسلام بمختلف فرقها العقلية والنّقليَّة والصوفيّة الهامشيّة والمركزيّة. محاولة خلق أمل جديد في النّص الدّيني والواقع العربيّ الإسلاميّ من خلال توسيع الآفاق المحدودة لتجربة خصوصيّة في التّاريخ بنوع من القراءة التأويليّة الّتي تتنكّر للتّاريخ وسيرورته كما تتجاهل تطوّر صيرورة الوضع البشريّ في حركة مستوياته البنيويّة والتّطوريّة بكلّ تفاوتاتها وتناقضاتها اقتصاديّا وإيديولوجيًّا وسياسيًّا. بمعنى أنّ هذه الكتابات كانت تمارس سحرها وجنونها من خلال إعادة إنتاج التّجربة النّبويّة "الأصيلة" في التّغيير من خلال جدل الاستمراريّة والقطيعة. أنّها حاولت تقديم تنازلات وترضيات قصد تنوير الإسلام كما لو أنّ على إنسان التّنوير أو الحداثي ان يكون مسلما بشكل او باخر سيرا على المنهج النبوي في أسلمة الجاهلية او كما تمارس اليوم الأسلمة ضدّ كل شيء. وهذا هو الفخ الكبير لكل من تنازل عن ادواته التَّفكيكيّة والتّحليليّة النَّقديَّة أمام الدُّنيوي المسيج إلهيّا بالمقدَّس البشري. وبعبارة أخرى إنّ التَّخلي عن المنهجيات النَّقديَّة العلميَّة الحديثة خاصَّة النَّقد التَّاريخي والاعتراف الضّمني والصَّريح بإمكانيّة البحث في الاطار المعرفي الثقافي والاجتماعي التاريخي المتعلق بالوضع البشري الخاص بالتجربة الإسلامية عن نقط ارتكاز مضيئة لإصلاح او تغيير مجتمعاتنا اليوم أنتج إسلاما معكوسا نكوصيًّا في وقت كان الحلم فيه هو التَّنوير.
لقد كافحت طويلا وبصورة رائعة فاطمة المرنيسي من أجل فضح الأساس الاعتقاديّ الدّينيّ كوجه بشريّ ذكوريّ تقنع بالمقدَّس من أجل هدر إنسانيّة المرأة وإقصائها من دائرة النّوع الإنسانيّ وبيّنت كيف كانت القيم القبليّة البدويّة تعيق جنون سحر السّماء في تنزيل لغة ومعاني ودلالات قيم ثقافيّة اجتماعيَّة جديدة. بل تقاسمت القوى الاجتماعيّة سرّ النُّبوَّة في صراع حاد حول وحي التَّنزيل بين النَّبيّ والصَّحابة خاصَّة مع عمر الَّذي دافع باستماتة وفق ما يمليه عليه إطاره المعرفيّ الثّقافيّ الاجتماعيّ من تصوّرات ومعتقدات. هكذا تمَّت معاودة الانتاج المجتمعيّ من خلال شكل إيديولوجيّ أكثر قداسة في الاستجابة لإكراهات حاجات المتخيّل النَّفسيّ الاجتماعيّ للنَّاس بواسطة فاعلين إجتماعيين جدد يتكاملون في الأهليّة والقدرة الكليذة لتصريف الخدمات الرَّمزيَّة المقدَّسة الَّتي تشرعن وجودهم كسلطة جديدة.
هذا ما طرحته فاطمة المرنيسي في كتابها الحريم السّياسي وهي تعود إلى سيرورة هذه الصّراعات الاجتماعيَّة الَّتي نشأ وتشكّل في سياقها التَّوسط الإيديولوجي للدّين الإسلامي. وتركز بشكل خاصذ على مفهوم المجال باعتباره الأرضية الاساس الّتي أنتجت الهندسة الجنسيذة الاجتماعيّة. وفي محاولتها هذه تحاول انطلاقا من تجربة النَّبيّ تأصيل مفهوم المجال الدّينيّ المرحّب بالنّساء في المسجد وأيضا في المجال العام الاجتماعيّ بعيدا عن أي نظرة تمييزيّة إحتقاريّة في حقّ النّساء كما ترفع من قيمة الافكار الجديدة الَّتي أتى بها النَّبيُّ بل تبيّن أنّه ذهب بعيدا في تعظيم شأن النّساء حيث لولا تدخّلات المجتمع الذُّكوريّ في شخص عمر لتحرّرت النّساء من الكثير من الموانع الَّتي تعبّر عنها القيم البدويّة. لقد بذلت جهدا كبيرا لتبيّن الفرق الهائل بين شخصيّة النّبيّ النَّفسيَّة العاطفيَّة والفكريَّة الاجتماعيَّة وعلى مستوى الممارسة الإنسانيَّة في علاقاته بالرّجال والنّساء على حدّ سواء. بالإضافة إلى أنّها قامت بجهد عظيم في كشف المهمَّش والمسكوت عنه في التَّاريخ العربيّ والإسلاميّ خاصَّة على مستوى الدَّور المتميّز الَّذي أنجزته الكثير من النّساء في الفقه والفكر والسّياسة حيث لهنّ تاريخ مشرّف في تجربة الحكم العربيّ والإسلاميّ. إلّا أنّ ثقافة الجهل المقدَّس للانحطاط العربيّ الإسلاميّ غيبت وهمّشت تاريخ النّساء المشرق وطمست كلّ ما له علاقة ببروز النّساء في المجال الفكريّ الثَّقافيّ والاجتماعيّ السّياسيّ. هذه الافكار ناقشتها المرنيسي بشكل علميّ دقيق و مفصل في كتابها سلطانيات منسيات.
هكذا حاولت أن تؤصّل المفاهيم الحديثة كالحريّة والمساواة والدّيمقراطيّة خاصّة على مستوى حقوق وكرامة النّساء في إطار مواطنة كاملة داخل الفضاء العام بعيدا عن أي وصاية أو احتكار ذكوريّ لمفهوم المجال العام وتقسيماته الاجتماعيّة.
وفي الكثير من دراساتها السّوسيولوجيَّة مثل بحثها الميداني "نساء الغرب" درست مختلف أشكال حضور النّساء اجتماعيّا واقتصاديّا ومدى تعرضهنّ لمختلف أشكال العنف الرّمزيّ والماديّ الاجتماعيّ والطَّبقي. وبالإضافة إلى مختلف أنواع العنف الجسديّ والأخلاقيّ. والمرنيسي تريد من وراء هذا كلّه أن تثبت حقيقة تاريخيّة مبصومة كممارسات مجتمعيّة نسائيّة كان لها وزن كبير في الفعل الاجتماعيّ لتطوّر حركة السّيرورة التّاريخيّة للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة وهي لا مبرّر شرعيّ دينيّ أو اجتماعيّ سياسيّ تاريخيّ لاستعباد وقهر النّساء.
رائعة وجميلة كلّ الأفكار الّتي طرحتها المرنيسي إلّا أنّنا لا نعتقد بتأصيلها انطلاقا من النّص الدّيني ولا من واقع التّجربة العربيّة الإسلاميّة من فجر الإسلام إلى سبات العقل في الإسلام. فالتّعامل الانتقائيّ مع النّصوص الدّينيّة والوقائع التّاريخيَّة يؤدّي إلى التّلبيس والتّدليس والتّلفيق ممّا يخلق ذهنيّة فكريّة ثقافيّة اجتماعيّة أشبه بعقليّة المهرب الّذي يشتغل في السّوق السَّوداء للمضاربات الماليّة والسّياسيّة والدّينيَّة...
وفي قراءتنا أيضا لكتاب دوائر الخوف لناصر حامد أبوزيد نلمس الرّؤية نفسها. فرغم التَّحليل النَّقدي الَّذي يتميّز به أبوزيد خاصة وهو ينبّه كثيرا إلى خطورة مناقشة الفكر الدّينيّ في جميع القضايا بما في ذلك قضيّة النّساء إنطلاقا من الدّين حيث دعا إلى الابتعاد عن السُّقوط في فخّ النُّصوص الدّينيَّة لأنّ في ذلك يكمن الخطأ الفكريّ والمنهجيّ والسّياسيّ للقبول الضّمني بالاشتغال في إطار إيديولوجيّة الخصم الَّتي تقوم باحتواء الخطاب النّقدي وجعله تابعا هامشيًّا وهذا ما حصل لابن رشد مع الغزالي ولا يزال يحصل إلى اليوم مع أغلب المفكّرين التَّنويريين ومن بينهم ناصر حامد أبو زيد الَّذي يحكي تجربته في كتابه الخطاب والتَّأويل مع خطاب الفكر الدّيني إذ وجد نفسه فجأة غارقا في منطلقات وآليات الخطاب الدّيني.
ورغم كلّ هذا الحذر المنهجيّ والوعي المعرفيّ الإيديولوجيّ لممارسة الصّراع الفكريّ والسّياسيّ فإنّ مقاربة أبو زيد لقضيّة المرأة في كتابه " دوائر الخوف " تبقى مجرّد احتفاء بأسطورة الموقف الرّائع للإسلام من المرأة غافلا عن مقاربة القضيّة من زاوية الموقف السَّلبي واللاَّإنساني للنَّص الدّيني من الإنسان عموما ومن المرأة بشكل خاص. فرغم نقده العلميّ لمنطلقات وآليات الفكر الدّينيّ في لغته العنصريّة الطَّائفيّة وفي شكل ومضمون أفكاره الرَّجعيَّة المتخلّفة والبعيدة كلّ البعد عن القيم الإنسانيّة فإنّ نقده يبقى خجولا محتشما بالمعنى الإيديولوجي وليس الأخلاقي أي أنّه يمارسه الوجه الآخر للخطاب الدّيني أي التّلاعب الإيديولوجي السّياسي بالدّين لتحقيق النّهضة والتنوير وفي ذلك نوع من تديين الفكر النّقدي بمعنى القبول بالقناع الدّيني كاستراتيجيّة في الكتابة النّقديَّة للخطاب الدّيني. وهذا يدلّ على أن نصرحامد أبو زيد متورّط في دوائر الخوف المعرفيّ والاجتماعيّ السّياسي أكثر من ممارسة نقد الدّين والفكر الدّينيّ ليس بأسلوب التَّهجُّم الانفعاليّ بل من زاوية إطاره المعرفيّ الثَّقافيّ وشرطه الاجتماعيّ التَّاريخيّ.
وهذا ما سنعمل على توضيحه فالمسلم إزاء حقيقة واضحة كلّ الوضوح أنّ جميع ما يبدو أنّه تناقضات في النّص الدّيني بين الرَّحمة والقتل الكراهية والمحبّة التّسامح وحريّة الاعتقاد والتَّكفير والإكراه في الدّين ... فالتَّحليل الَّذي اعتمدناه سابقا يبيّن أنّ ما يبدو لنا تناقضات هو ليس كذلك بالنسبة لتلك المجتمعات بل هي في انسجام مع إطارها المعرفيّ الثَّقافيّ والاجتماعيّ التَّاريخيّ فكلّ تلك التَّناقضات كانت تحظى بالقبول والرّضا كأمر واقع طبيعيّ يستحيل في إطاره التّفكير في الحريَّة الفكريّة والدّينيَّة والمساواة الاجتماعيَّة والعدالة والفرديَّة... إنّها تعبّر عن حياة النَّاس أي عن الدّنيوي في النَّص الدّينيّ أو بتعبير أدقّ عن العلمانيّة بمنطلقات وآليات دينيّة أي من زاوية القدرة الخارقة للفاعل الاجتماعيّ كنبيّ وصحابة على تقديم خدمات معرفيّة ثقافيّة رمزيّة مقدّسة في معاودة إنتاج الإطار المشترك للوحدة الاجتماعيّة في تطوّرها التّاريخي من القبيلة إلى التَّحالف القبائلي.
وهذه التّناقضات لا تطرح تساؤلات حول شكّ التَّحريف الَّذي يمكن قد طال النّص الدّيني أو في اجتهاد الكثرة من التّأويلات لقول شيء قريب من هذا المعنى لحماية النّص الدّيني من تناقضات عدم انسجامه وتماسكه كنصّ متعالي. إلى غير ذلك من الاجتهادات الَّتي يؤسّسها الغياب التّام للتّمكن العلميّ من المقاربات والمنهجيات الحديثة حيث تترجم عجزها بمنطلقات وآليات إعجاز الحكمة الربَّانيّة والمعجزة عاملة على تكريس سبات العقل في الإسلام
اننا ازاء افكار ومقولات ايمانية ابعد عن الايمان واقرب الى التصلب الذهني و الفكري والنفسي الثقافي حيث تعتمد مقولات الثوابت والهوية الناجزة والمطلقة النهائية ومفاهيم خاطئة حول التطور والصيرورة والتراكم والسيرورة التاريخية...
إنّ ما كان فضحية معرفيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة صار اليوم ضرورة إنسانيّة ومعرفيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة محليّا وكونيّا. وما كان صالحا لذلك الزّمان والمكان صار اليوم مدمّرا ومخرّبا لمجتمعاتنا ولمجتمعات غيرنا وللعالم. فهي تجربة علمانيّة محدودة كتدبير ديني للدّنيويّ انتهت صلاحيتها على كلّ المستويات وصارت اليوم جنونا إرهابيّا تخريبيّا لأنّ الفاعلين الاجتماعيين اليوم لا يمكن أن يعرضوا خدماتهم الَّتي توافق الإطار المعرفيّ الثّقافيّ والاجتماعيّ التَّاريخيّ إلاَّ من خلال أسس وآليات الدَّولة الحديثة ووفق معايير القيم الإنسانيّة المتعارف عليها دوليًّا.
نزيه كوثراني
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد