بيئة الفتاوى المعاصرة ... القضايا والاشكاليات
تزايدت على نحو واضح في السنوات الأخيرة ظاهرة الفتاوى السهلة، وصار بموجبها لأي كان ان يقوم بإصدار فتوى في موضوع ما وضد شخص ما، أو جماعة، وذهبت بعض الفتاوى باتجاه التكفير وهدر الدماء، وذهبت الأقل خطورة منها إلى الفصل بين الزوجين، وبعضها إلى تشريع مخالفة منطقية لمحتوى الدين الإسلامي. ولم يقتصر إصدار الفتاوى السهلة على أشخاص عاديين، ارتدى بعضهم لباس العلم والإفتاء، بل إن بعضاً من أشخاص لهم مكانة دينية علمية ولجوا هذا الطريق، ومشت في جنباته مرجعيات دينية سياسية روجت لمواقفها السياسية من خلال إصدار فتاوى تخدمها من طراز فتوى تجعل المشاركة في الانتخابات بمثابة واجب ديني، فيما حرمت فتاوى أخرى المشاركة في مثل تلك الانتخابات.
لقد أوقعت الفتاوى السهلة جمهور المؤمنين في التباس شديد، وجعلت كثيرين حيارى في الموقف من محتويات الفتاوى ومن تناقضها، ولا سيما في موضوعات تتعلق بقضايا مهمة، يتصل بعضها بحياة الناس وعلاقاتهم مع الآخرين، وأدت تلك الالتباسات إلى زيادة معاناة الناس الذين تطفح حياتهم بالمعاناة أصلاً.
وعلى رغم أهمية إثارة موضوع الفتاوى السهلة، والسعي إلى مواجهتها بصورة جدية وعملية من جانب هيئات ومرجعيات دينية علمية متخصصة، فإن من المهم الكشف عن البيئة العامة التي تحيط بتلك الفتاوى، وتوفر لها أرضية الاستمرار والتمدد، والتي تمكن ملاحظتها في نقاط أساسية.
النقطة الأولى في بيئة الفتاوى السهلة، هي وجود نظام سياسي غير ديموقراطي، يفتقد الأسس الأولى لحق المواطنين في التعبير عن وجودهم الثقافي والسياسي والاجتماعي، ومنعهم من التعبير عن أنفسهم ومواقفهم، الأمر الذي يدفع نحو البحث عن سند له مرجعية – وأبرزها المرجعية الدينية – للاستعانة به في التعبير عن مواقفهم وآرائهم، وتشكل الفتوى أحد أبسط هذه الأشكال وأشدها قوة وتأثيراً.
النقطة الثانية: تزايد التعصب الديني والمذهبي وهو سلوك يعزز اللجوء إلى الموروث في الثقافة الدينية الطائفية بحثاً عما يعزز التعصب بإضفاء المزايا على الذات وتمجيد عقائدها من جهة، والإقلال من قيمة الآخرين، وإدانة عقائدهم وسلوكياتهم، وتمثل العودة إلى موروث الثقافة الدينية الطائفية أساساً لإصدار الفتاوى السهلة.
والنقطة الثالثة: يمثلها انغلاق المجتمع وضعف ثقافته، وهي حالة تمكن ملاحظتها في مستويين، أولهما علاقة المجتمع مع الخارج، والثاني علاقته مع الداخل. ففي المستوى الأول، يتخذ المجتمع موقفاً حاداً من المجتمعات الأخرى، فيغلق نفسه عليها ولا سيما على الصعيدين الحضاري والثقافي مانعاً تطوير قنوات الحوار والتفاعل الإيجابي مع المجتمعات الأخرى، ويكون من نتائج الانغلاق تحول المجتمع نحو الداخل بحثاً عما يقويه في مواجهة الآخر، وغالباً ما يتم اللجوء إلى إرث الماضي في مواجهة تحديات الراهن والمستقبل، مما يفتح الباب أمام أنصار الماضي.
ان البيئة السائدة في الواقع العربي والإسلامي توفر أساساً للفتاوى السهلة، وهو ما يجعل هذه الفتاوى تتكاثر وتتزايد، وتزيد أعباء الناس ولا سيما المؤمنين منهم. ولا شك في ان هذه البيئة هي ناتج طبيعي للسياسات والممارسات التي اتبعت طوال عقود في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، مما يعني ان تغيير هذه البيئة والخروج من إطار الفتاوى السهلة إنما يرتبطان في شكل حاسم بتغيير السياسات والممارسات المتبعة، وخلق بدائل موضوعية وعقلانية منها تقوم على مبادئ خلق نظام عادل وديموقراطي من جهة، ونبذ سياسة التعصب الديني والمذهبي التي يعارضها جوهر الإسلام، ثم إشاعة الانفتاح في المجتمعات العربية – الإسلامية بما يضمن علاقات حوار وتفاعل وتعاون مع المجتمعات الأخرى، وعلاقات مماثلة داخل المجتمع تدفعه قدماً نحو النهوض والتقدم.
فايزة سارة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد