القيادات العربية وآفاق الإصلاح الاقتصادي
هل ينوي السيد جمال مبارك ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية في مصر؟ هذا السر المكتوم هو الأكثر شيوعاً وتداولاً في مصر. ولا تأتي أهمية السؤال هنا من الجوانب السياسية، بل من الجانب الاقتصادي المتعلق باستمرار السياسة الاقتصادية الحالية في مصر. وقد أثرت هذا السؤال في شكل غير مباشر في ملتقى القاهرة الاقتصادي عندما حضر السيد جمال مبارك احد اجتماعات الملتقى ليحاضر بصفته الأمين العام المساعد وأمين السياسات في الحزب الوطني الحاكم، ولأنه كما يشاع هو الذي رشح اقطاب الوزارة الاقتصاديين في الحكومة المصرية الحالية.
انني معجب بشخص السيد جمال مبارك علماً انني من الذين يتفهمون وجهة النظر الأخرى المعارضة لمنح ابن رئيس الجمهورية فرصة ليكون خليفة والده. ولكن اعجابي به ناجم عن شعوري ان كون هذا الرجل ابناً لرئيس جمهورية يظلمه كثيراً لأن لديه مميزات. التقيت به للمرة الاولى في القاهرة في الملتقى المتوسطي الرابع عام 2003، وترأست الجلسة التي كان هو احد المشاركين فيها. وجاءتني مديرة مكتبه قبل الجلسة لتسألني عن اسلوبي في ادارة الجلسة، وعن ترتيب السيد مبارك في الحديث من بين المتحدثين، والوقت الذي سأسمح له فيه بالتحدث. ولما بدأنا الجلسة نظر الي وسأل: «هل أستطيع ان اتجاوز فترة الدقائق العشر المخصصة لي؟». فقلت له بصراحة في غير محلها: «لا... يجب ان تتقيدوا سيادتكم بالوقت». وتقيد بالوقت تماماً، وقدم بحثاً مدروساً ومتواصلاً ومفهوماً وقوياً، من دون مقدمات ومؤخرات لا فائدة منها.
والتقيت به ثانية قبل ايام حين وقفت لأسأله السؤال المرتجل التالي بعد حديثه في ملتقى القاهرة للاستثمار الاثنين الماضي: «لقد تحدثتم في كلمتكم عن المرحلية في النمو... فهل تعتقدون ان مصر تمر الآن من حيث الاقتصاد في مرحلة انتقالية ومتى بدأت تلك المرحلة، ومتى تنتهي، والى أين ستؤدي؟ هلا وصفتم لنا بخيالكم ورؤيتكم البراقة صورة المستقبل؟».
وبدأ الهمس واللمس في القاعة يعلو على اصوات الهواتف الخليوية التي لا تنقطع. وقال الناس من حولي ان السؤال كان ملغوماً. فأجاب السيد جمال مبارك انه سيتناول الاجابة من ثلاثة جوانب: الجانب الاقتصادي اذ ان هناك خطة مستمرة لتعزيز الانتاجية في القطاع العام، والتسيير في المعاملات، وتحسين القوانين الاقتصادية، ومعالجة الخلل في القوانين والمحاكمات واجراءات تنفيذ قرارات المحاكم، ولتسهيل الاستثمار الخارجي والداخلي في مصر.
وأما الجانب الثاني الاجتماعي، فستقوم السياسات بوضع خطط متكاملة لمواجهة الفقر والبطالة في مصر، وتحسين مستوى المعيشة، وبناء اقتصاد قوي مستمر يحقق لمعظم الفئات مستقبلاً اكثر وعداً.
وأما الجانب الثالث فهو جانب الاصلاح السياسي. وعندما قال ذلك توقفت الأنفاس توقعاً لقنبلة. قال: «نعم اما الجانب السياسي المكمل فنحن نريد مزيداً من الحريات والانفتاح والمشاركة، وسنعدل المادة 76 من الدستور». وقال: «ان للرئيس مبارك رؤية سياسية متكاملة طرحها امام مجلس الشعب، وهي التي نتمسك بها، ونسعى لانجازها».
ومضى مؤكداً «ان هذه الامور لا تتحقق بيسر وسهولة، ونحن لا نملك التعويذة السحرية لحل المشكلات بين يوم وليلة. ولكننا ماضون في التحسين حتى نحقق لمصر ما تصبو اليه وما تستحقه».
لقد اكتشفت في الرجل حكمة ورؤية واضحة. وذكرني بالجيل الجديد من المسؤولين العرب الذين يتبوأون مواقع القيادة في بلدانهم. كالذي قاله السيد مبارك هو الذي سمعته مرات من العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني الذي سار على خطى والده، ولكنه كان اقل رسمية في مقاربته، وأكثر متابعة للتفاصيل الاقتصادية والادارية. وقد شخص الملك عبدالله المشكلتين الاساسيتين في بلاده بالفقر والبطالة، داعياً الى تحسين الاداء الحكومي، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، وفتح باب الاستثمار على مصراعيه، وتعزيز الاختلاط والتفاعل مع العالم بأدنى القيود، وتجاوز البيروقراطية بقدر الإمكان، وتفعيل دور الشباب.
ونسمع كلاماً مشابهاً من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، ومن ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، ورئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، وبالطبع من رئيس دولة الامارات الشيخ خليفة بن زايد وأخيه الشيخ محمد، ومن رئيس الوزراء حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد. هذه اللغة الجديدة التي بدأت تضرب شواطئ سورية، وتحدد التوجه المقبل في العراق وفلسطين عقب استقرارهما، لغة تفتح فرصاً للتكامل العربي، لأن المواقف المتشابهة على مستوى القيادة هي التي تفتح باب التشابه في الانظمة والسياسات والمقاربات، ولعل هذا يفتح فرصة افضل للمستقبل العربي.
اما بالنسبة الى السيد جمال مبارك، فهو لم يؤكد عزمه ترشيح نفسه للرئاسة، ولكنه لم ينف ذلك. وهذه تبقى قضية مصرية بحتة. ولكن الاهم هو استمرار السياسات الحالية مع امكان تعديلها حتى تؤتي اكلها وتحقق أهدافها.
جواد العناني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد