الفضائيات و العلاقات الاجتماعية
رغم ندرة الدراسات والأبحاث والإحصاءات، خصوصاً في العالم العربي، التي يمكن من خلالها معرفة التأثيرات التي تركتها الفضائيات على مجمل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية... إلا أن المرء لا يحتاج كثيراً إلى تحليلات الباحثين والمهتمين ليكتشف تلك التأثيرات والتغييرات الطارئة التي واكبت ظهور الفضائيات وانتشارها على نحو متزايد في السنوات الأخيرة.
ولعل أكثر الجوانب التي تعرضت للتغيير، هو الجانب الاجتماعي. فالفضائيات أسهمت في شكل فاعل في تغيير طبيعة العلاقات الاجتماعية، وأحدثت انقلاباً في المفاهيم والقيم والتقاليد التي كانت تتحكم في أسلوب التواصل بين الجيران في الحي، وضمن العائلة أو الأسرة الواحدة. فالطفل الذي كان يغفو في حضن جدته مستمعاً إلى حكايات وقصص تحلق بذاكرته الغضة نحو فضاءات متخيلة حالمة، بات ينام أمام «الصندوق السحري» الذي يحدد له نوع الحكاية ووجهتها وشخصياتها، ففقد الطفل الألفة والدفء كما حرم من نعمة الخيال، وأخذت علاقات الصداقة تختزل في أحاديث «الموبايل»، و»التشات»، ومتابعة النجوم عبر الفضائيات وتقليدهم. والسهرات التي كانت تجمع الأهل والأقارب، وتتيح مساحات للأنس والبوح وقراءة الفنجان وممارسة ألعاب مسلية كادت أن تقتصر على مشاهدة ما يبث عبر جهاز التلفزيون. هذا الجهاز الذي غزا، فضلاً عن البيوت، المكاتب والمقاهي والمحلات التجارية، وصولاً إلى الساحات العامة ووسائل النقل، فأنى التفت تجد هذا الجهاز وقد غدا أشبه بديكور ثابت.
أكثر من ذلك، ولو أتيح لبعض الأفراد فسحة هادئة للحديث بعيداً من التلفزيون فإن هذا الجهاز يكون حاضراً هنا أيضاً، لأن ما يبث من أخبار وأفلام وبرامج تفرض نفسها على فحوى الأحاديث الدائرة. ولا بد من الإشارة الى ان هذا التغيير الذي أحدثه التلفزيون لم يتح للفنون والأجهزة الأخرى، فالسينما أحدثت تغييراً طفيفاً وكذلك الراديو كان دوره محدوداً، وحتى قبل سنوات عندما كان البث التلفزيوني محلياً وفترة البث قصيرة، لم يكن لهذا الجهاز السطوة التي يملكها اليوم.
وثمة إحصاءات كثيرة تنشر في الغرب تشير إلى الفترات الطويلة التي يقضيها الفرد أمام هذا الجهاز. وإذا كان من العبث المطالبة بإجراءات تقلل من هذا الحضور الدائم للتلفزيون، فإن ما يمكن المطالبة به هو ضرورة الاهتمام بما يبث عبر هذه الشاشة الخطيرة، والاعتناء بمستوى المادة الإعلامية التي تصل إلى ملايين المشاهدين، والابتعاد عن الرداءة، والشعور بمسؤولية تجاه الأطفال والأسر والعائلات التي باتت تفتقد إلى حميمية الماضي. ومهما قيل عن طبيعة العصر، والمجتمع الرقمي، وثقافة الصورة وسواها من المصطلحات التي دخلت قواميس هذه المرحلة، فإن ثمة نزعة خفية لدى البشر تدفعهم إلى الترابط والتواصل، كما أن ثمة حاجة دائمة إلى «بدائية فطرية» تهدئ أرواحهم الغارقة في الضجيج والصخب. التلفزيون عاجز عن تلبية هذه الميول، لكن إدراك هذه الحقيقة سيدفع القائمين عليه إلى مراعاة جملة من المعايير والضوابط التي قد تقلل من الشرخ الاجتماعي الواسع الناجم بعضه عن هيمنة البث الفضائي.
إبراهيم حاج عبدي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد