الصورة التي هزمت “بروباغندا” !
كان غازي يشكّل في مخيلتنا كأطفال نموذجاً للشرير، فمجرد ذكر اسمه مرفقاً مع كلمة “قادم” كان يعني أن علينا الركض بأقصى ما نملك، والاختباء في أقرب ركن مخفي.
غازي هذا لم يكن سوى زوج خالتي التي أنجبت منه ثلاث بنات قبل أن تهجره وتعود إلى بيت أهلها بسبب “سكره الدائم وقسوته عليها وعلى بناته” كما قيل، لكنه لم يرضخ لهذه النتيجة، ولا لمحاولات أهل خالتي بإبعاده عن بناته، فكان يقوم في فترات متقاربة بما يشبه “الغزوات” مستخدماً “تراكتور” زراعي للوصول من قريته التي تبعد أكثر من ثلاثين كيلومتراً عن قريتنا في محاولة يائسة لرؤيتهن.
في هذه “الغزوات”، كان علينا جميعاً كأطفال: بناته الثلاث وكل بنات وأبناء الخالات الأخرى – بحكم وجودنا الدائم في بيت ستي – أن نختبئ من “الشرير” الذي يمتطي جرّاراً مخيفاً ولديه مخطط وهدف واحد لا غير؛ ويتمثل بالانتقام من خالتي وأهلها عبر “خطف بناته أو أي طفل آخر تقع عليه عينيه” كما صار راسخاً في مخيلاتنا الصغيرة.
هذه السمعة السيئة لغازي كانت كافية لتشكيل رأي عام شامل في الضيعة مفاده أن غازي “شر مطلق” وأنه ممنوع على الجميع وخاصةً بناته ذكر اسمه إلا من باب شتمه، وبالفعل بات شتم بناته بأبيهن ديدن الجميع بدءاً منا نحن أبناء الخالات الأخرى ولاحقاً من أبناء الجيران في الحارة وتالياً من كل الأطفال في المدرسة، فكانت عبارة ” يلعن أبوكي” لازمة دائمة في مخاطبة بناته إن كان الموقف جدّاً أو لعباً، ولم تكن تلك الشتيمة تستوجب أي رد فعل منهن، بل قهقهة واستخفاف مفادها أن “شتيمتك هذه غير ذات قيمة” فالجميع متفق على أن غازي يستحق الشتم في كل الأوقات ودون أسباب أحياناً.
“غادة” الابنة الصغرى لخالتي وغازي والتي كانت رفيقتي المفضلة في صغري بحكم العمر، كانت الاستثناء في هذه “البروباغندا” التي نُسجت عاماً بعد آخر عن أبيها “الشرير”، فلم تكن تقاسمنا الموقف نفسه من أبيها رغم أنها لا تعرفه ما قبل “الانفصال” ولا تتذكر شيئاً عن حياتها في كنفه سوى “بقايا صورة”!.
رفضت غادة القبول بشتم أبيها بكل ما لديها من كبرياء، وبما نسجته هي في مخيلتها الخاصة عنه بعيداً عما تم زرعه في مخيلاتنا الجمعية عنه طيلة سنوات، وردت الصاع صاعين لمن كان يهينها من أقرانها، ومن غير أقرانها لاحقاً، وكان ذلك مثار تعجب واستهجان من الجميع؛ فلماذا تدافع غادة عن الرجل الذي اتفق الجميع على أنه “الشرير المطلق”، إنها بلا شك مجنونة لتخرج عن هذا الإجماع وتضرب بهذه المسلّمات عرض الحائط! هكذا أجمعوا، وهو ما استوجب “تأديبها” وخاصةً من قبل خالتي التي وجدت على عكس البقية في موقف ابنتها الصغرى بذرةً لتمرد يمكن أن يوصل لاحقاً إلى نتائج لا تُحمد عقباها.
وبالفعل، كانت مخاوف خالتي في محلها، وإن بعد سنوات؛ فغادة التي استمرت على موقفها من أبيها رغم استخدام كل أنواع “التأديب” معها، قررت بعد أن نزلت إلى المدينة لإكمال دراستها الثانوية، كسر كل “المحرمات” والوصول إلى العتبة العليا من التمرد، إذ توجهت إلى منزل أبيها بعد أن تعرفت على العنوان عن طريق عمها الذي التقته في مدرستها صدفةً.
كان غازي قد استسلم لقدره باستحالة رؤيته لبناته، تزوج من أخرى وأنجب منها ثلاث فتيات أيضاً. ذهبت غادة لمقابلته وهي تعلم ذلك، لكن عندما دخلت إلى المنزل وجدت ما هو أكثر، عاشت شعوراً غريباً افتقدته طيلة 15 عاماً، تم الاحتفاء بها من الجميع؛ أبيها وعمها وأخواتها غير الشقيقات؛ وحتى من قبل زوجة أبيها.
لكن ما جعلها تنفجر باكيةً هو الصورة المعلقة على أحد جدران الصالون؛ صورتها مع أبيها حين لم يكن عمرها يتجاوز السنتين.
عرفت نفسها في الصورة لأنها توأم الصورة التي عثرت عليها في درج أمها المقفل وقد تم قصها بشكل غير متقن، تم تكبير الصورة هنا ووضعها ضمن “برواظ” خشبي جميل.
كانت هذه الصورة هي الجواب الكافي والوافي بالنسبة لها.
لم تخبر غادة أحداً بمهمتها السرية تلك، إلا أنها أسرّت لي بعد ذلك ببعض تفاصيل زيارتها تلك، لكن الأهم كان انعكاس ذلك عليها، كل شيء بدا مختلفاً في شخصيتها، بريق عينيها، حديثها ونبرة صوتها، ثقتها بنفسها، نظرتها للآخرين وللحياة ككل.
ظن الجميع أن غادة واقعة في الحب لا محالة، ولم يكونوا يعلمون أنها وجدت ما هو أثمن من الحب بكثير؛ عثرت على الحقيقة، حقيقتها وجوهرها بعيداً عما تم تلقينها إياه وفرضه عليها.
اكتشفت غادة أنها وشقيقاتها – وربما أمها – كانوا ضحية “بروباغندا” عمرها بعمر غادة، وأن أي “بروباغندا” هي بالضرورة مرادف للكذب ودافعها الخوف من الحقيقة؛ وإخفائها لغاية وهدف لا يمكن أن يكون نبيلاً مهما ادعى صانعوها عكس ذلك.
أيقنت غادة أنه مهما تم تضخيم الأكاذيب وتحصينها وتزيينها على أنها “قضية” وإجبار الناس على اعتناقها – بالترغيب أو بالترهيب – فإن مصيرها الانكشاف والانهيار، وقد تكون بذرة انهيارها صورة مقصوصة ومهمَلة لا أكثر!
الأيام - علي حسون
إضافة تعليق جديد