الزواج وتكوين الأسرة في التراث الإسلامي
في كتابه الذي نشره صندوق الأمم المتحدة للسكان في عام 1994 تحت عنوان «تنظيم الأسرة في التراث الإسلامي» حاول الدكتور عبدالرحيم عمران الذي يعتبر حجة عالمية في علم السكان والصحة والحضارة الإسلامية جمع وجهات نظر أئمة فقهاء الإسلام وعلمائه حول تكوين الأسرة وتنظيمها. فيشير الباحث في الباب الاول من الكتاب الى دور الأسرة في الإسلام، حيث يتميز الدين الإسلامي بعراقة محافظته على الهيكل الاجتماعي، وعلى اعتبار أن الأسرة هي اللبنة الجوهرية في المجتمع الإسلامي، ويجنح الإسلام الى أن الأسرة فيها الخير كله، ففي الأسرة يتقن المسلمون دينهم وتتطور أخلاقهم وبها تتم الروابط الاجتماعية الوثيقة وتترسخ قواعد الولاء للأسرة والمجتمع والأمة، ويميز عمران بين نمطين للأسرة، الأولى هي الأسرة النووية التي تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما، ونمط الأسرة الممتدة وهي التي تضم كذلك أقارب الزوج أو الزوجة، والأجداد، أي انها تحتوي على اكثر من جيل. ويؤكد الباحث بان العلاقة الزوجية في القرآن تتميز بصفتين جوهريتين: المودة (الحب، الصداقة، والصحبة)، والرحمة (التفاهم، المصلحة، العفو، الاحتمال)، كل ذلك تحت إطار الهدف العام والسكينة والطمأنينة. انظر مثلاً ما جاء في سورة الروم: «ومن آيته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة...» (صدق الله العظيم).
هذا ولا يوجد تعبير أفضل من المودة والرحمة لتوضيح العلاقة بين اثنين يعيشان معاً في ظل رابطة الزواج المباركة، ولتأكيد هذا المعنى هناك آية أخرى وفيها تذكير المسلمين وبطريقة مماثلة بأول عائلة بشرية: حيث جاء في صورة الأعراف قوله تعالى: «هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها...» (صدق الله العظيم).
ومن الواضح أن الآيتين لم تشيرا الى الأطفال ولا الى عملية الإنجاب، ومن هذا المنطلق يتضح أن السكينة هي الغرض العام من الزواج ويعبر ذلك من باب العدل، حيث يمكن لكل الأزواج الوصول الى السكينة، ومما لا شك فيه ان الإنجاب مهم أيضاً للحفاظ على الجنس البشري، وعلى هذا جاء ذكر الإنجاب في آيات أخرى، حيث جاء في صورة النحل قوله تعالى: «والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة...» (صدق الله العظيم).
وبالنسبة الى تنظيم الأسرة، فقد اعتمد الباحث على مصادر التشريع الإسلامي لاتخاذ القرار، ويقول: «ان هناك مصدران رئيسان للشريعة: القرآن الكريم والسنّة. ويتبعهما مصدران آخران هما: إجماع الفقهاء والقياس. وتتبع هذه المصادر الأربعة مصادر إضافية في إطار وحدود الشريعة وروح الكتاب والسنّة، وقد أكد الباحث على ظهور تياران من العلماء: الأول يجيز العزل بين الزوجين للحد من الإنجاب، والثاني رفض تلك الوسائل، ويعتمد الأفراد من الفريقين في تأييد فكرة العزل او رفضها بناء على البحث في القرآن الكريم، ويتوسع البعض في معنى بعض الآيات حتى تبدي مظهراً لتدعيم مواقفهم، لكن الطريقة الأسلم تكمن في البدء بالقرآن وتفاسيره فقضايا الإنجاب والرزق والقدر والتوكل على الله هي قضايا أتت على ذكرها آيات قرآنية. ويتضح مما تقدم أن الباحث عبدالرحيم عمران ناقش في البابين الأول والثاني من كتابه قضية الزواج في الإسلام والواجبات العديدة للأبناء والآباء على حد سواء، كما سلط الضوء على مكانة المرآة في المجتمع الإسلامي، وتطبيق ما جاء في القرآن والسنّة النبوية الشريفة حول قضية تنظيم الأسرة التي باتت الشغل الشاغل لمؤسسات دولية وأفراد وعلماء الديموغرافيا والصحة الإنجابية. أما موقف الفقه الإسلامي من قضية تنظيم الأسرة، فقد أوضحه الباحث من خلال سرده لكتابات علماء الدين حول تنظيم الأسرة في الشريعة الإسلامية من القرن السابع وحتى القرن التاسع عشر، وتمحص الفصول المختلفة في الباب الثالث في آراء الكتَّاب في كل مذهب من المذاهب الرئيسة التسعة، بحيث تم التعريف بكل مذهب، تلا ذلك مسح ورصد للآراء حول تنظيم الأسرة في كل مذهب، وذلك باقتباسات من العلماء البارزين في المذهب، وقد توضح خلال الفصول المختلفة من الباب الثالث بأن خلاف المذاهب في تنظيم الأسرة وفي كثير من القضايا الأخرى إنما هو خلاف في التفصيل وليس في الجوهر. وأظهر الباب الرابع من الكتاب التحديات الكثيرة التي تواجه قضية تنظيم الأسرة، مثل القضايا السكانية وآثار التزايد السكاني على المجتمع، فضلاً عن الآثار الصحية لتنظيم الأسرة، وقد تم سرد نتائج وتوصيات المؤتمرات المختلفة حول تلك المشكلات وآثارها، كما تم نشر وجهات نظر العلماء البارزين في القرن العشرين حول تنظيم الأسرة، وما تشكله تلك القضية على نحو متزايد من ضغوط سكانية وتحضر سريع ومعايير جديدة للرعاية الصحية.
ويقصد الباحث عبدالرحيم عمران بقضية تنظيم الأسرة أنها: التجاء الزوجين عن تراض واتفاق بينهما الى استعمال وسيلة مشروعة ومأمونة من وسائل منع الحمل، وذلك لتنظيم خصوبتهما درءاً للمخاطر الصحية وغيرها، لتمكينهما من القيام بواجب تنشئة الأطفال كمواطنين صالحين ومنتجين.
قد يكون الكتاب الذي عرضنا أهم محتوياته من أهم المراجع للمهتمين بمواقف الدين الإسلامي من قضايا المجتمع المختلفة، فضلاً عن ذلك يمكن الاستفادة الى حد كبير من محتويات الكتاب راهناً في مجال التخطيط الإنمائي الذي يربط قضايا السكان بالتنمية المجتمعية عموماً، والتعليمية والصحية خصوصاً.
نبيل محمود السهلي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد