الخرافة بصفتها انحرافاً في العقل الايماني الغيبي
قلّما وجدت مفهوماً ملتبساً كمفهوم "الخرافة". وكذلك لم أجد ما يناظره ضمن الحيثيات الشائكة، والمتداخلة، والمتنوعة المنطلقات والنوازع، الموجود في ما سمي "العقل الخرافي". وهي التسمية التي يحلو للبعض اطلاقها على النزعة الانحرافية في الشخصية الفردية وفي الاجتماع. لعل المدقق في اللحاظات الكثيرة على هذه الكلمة سوف يجد انها تعمّ المجالات التاريخية، والانتروبولوجية، والدينية، والثقافية، والنفسية، والاجتماعية، والمعرفية، وحتى السياسية. وسيتبيّن له ان لكل من هذه الأبعاد اسهاماته الواسعة في تكوين دلالاتها وتفاعل معناها. على ان هذه الدقة البالغة في ظروف التكوين والانطلاق، واسباب وجود المعتقدات الموصوفة بالخرافة، هي التي كوّنت تراكماً هائلاً من الالتباس في حدود الدلالة العائدة اليها، مما يفرض على الباحث أخذ الحذر الشديد في دراسة الموضوع، واجتناب اصدار حكم ما، الا بعد تأنِ وتعمّق.
غير ان الالتباس المشار اليه، أمر حاصل بفعل جريان النسبية، وامتناع الاطلاق في مفهوم الخرافة، وهو ما يسبب تحولاً كبيراً في الدلالة، ويجعل امكان الاتفاق بين جميع المدارس الفكرية أمراً متعذراً.
ليس الرفض الشرعي لحكم الكهنة او المنجّمين، وتحريم الصلة بهم يعود مثلاً الى استحالة وقوع ما يقولون، أو تحقق ما يدّعون بالضرورة، وانما كما أشرنا، قد يعود السبب الى خطورة هذه المسالك في تكوين الانطباع الخاطئ لدى الانسان وقصوره عن معرفة الأسباب الحقيقة. في ذلك يقول ابن خلدون: "تبعث (هذه الصناعة) – ويقصد الخرافة – في عقائد العوام من الفساد اذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الاحايين اتفاقاً لا يرجع؛ الى تعليل ولا تحقيق، فيلهج بذلك مَن لا معرفة له، ويظنّ اطّراد الصدق مع سائر أحكامها، وليس كذلك، فيقع في ردّ الاشياء الى غير خالقها". (المقدمة – ص1220).
وعليه يمكن الكلام على عمل المنجمّين في كونه عملاً غير صادر عن علم صحيح يُرجِعُ الناس الى الحقيقة، وإنما هو توقعات فاسدة قد يتفق منها شيء على الواقع بالمصادفة. ومن أثر مثل هذا الاتفاق ان ينتهي بالعقل الساذج الى الاشتباه في فهم الاسباب الحقيقية. فيقع في رد الأمور الى غير الله، فيكون بذلك سبباً في اضعاف العقل التوحيدي والايماني بصورة تدريجية. ثم لينتهي الى التصرف كما لو كان يؤمن بأكثر من مصدر الهي للكون. وعلى هذا النحو فإن المشكلة الكبرى في الخرافات انها تغذّي الاستعداد النفسي للوقوع في ظلمات الشرك، وغياهب الوهم.
ان الانشداد الانساني نحو الله، والكمال المطلق، والتوق العارم بفطرته نحو الخروج من ضيق الأطر المادية، والتأكد اللامتناهي من ان الطبيعة وحدها لا تعالج طموحاته، ولا تحقق آماله، وان سعادته الحقيقية، لا تكون بالاكتفاء بما تحسّه ظاهر القدرات الادراكية الانسانية.. لذا فان كل ذلك يفترض البحث عن سبل فضلى لخروج الانسان مما هو فيه من هذه المآزق.
تتصل العقائد الخرافية في جذورها، بحاجة الانسان للتحرر من طوق وحصار الطبيعة المادية البحتة. بل هي تشير بقوة ووضوح الى الاستعداد الانساني الفطري لخرق الاطر المادية ورغبته العارمة في الايمان بالماورائيات، لو صح لنا استخدام مثل هذا التعبير. والمشكلة اننا في الغالب لا نلتفت الى الظواهر السلبية من هذه الزاوية الايجابية. بل كثيراً ما نغفل عن حقيقة ان المعضلة الكبرى في الخرافات لا تكمن في الاستحالة العقلية في امكان وقوع ما يتصوره، أو يتخيله، او يتكهنه او يراه الانسان في هذه الحالات، بقدر ما تكمن في الطبيعة الانحرافية هذه الطرق؛ فضلاً عن الاخطاء الفادحة التي تقع في اثناء تحليل هذه الاحداث، وطريقة وقوعها، وسلسلة العلل، والأسباب المنطقية والعقلية، في تكوينها.
لقد رافقت الخرافة بما هي ظاهرة اجتماعية منتشرة، حركة المجتمع الانساني منذ البدء، وهي وإن تعددت وتنوعت في أشكالها، واختلفت في جذورها وأسبابها، الا انها كانت ولا تزال تشغل حيزاً واسعاً في حياة الانسان، وتتفاعل بقوة خارقة مع العقل، والنفس، والشخصية البشرية، سلباً وايجاباً.
أما ما يتعلق بالبحث عن مفهوم دقيق للخرافة، وتقديم تعريف حدّي لها، فلا مناص من القول انها أمر في غاية التعقيد، والاشتباه المفهومي. فقد اطلقت، وعلى نطاق واسعة جداً، سيلاً هائلاً من المعتقدات التي تستعصي على التقبّل العقلي للوهلة الأولى. والحقيقة التي يجب ان تقال، هي ان الخرافة الشديدة الالتباس تحوّلت على مر التأريخ الى سيف حاد حُمل على معظم المدارس والمذاهب والتوجهات الفكرية والايديولوجية، وحتى الفلسفية والعقلية؛ ولا سيما بعد ان اتهمت هذه المدارس بعضها بعضاً بالبطلان والانحراف. وعليه فإن الخطاب التحريفي واصدار الحكم على الرأي الآخر بالخرافة، والاسطورة، والانحراف، سوف يُحكم السيطرة على العلاقات، والمناظرات، ما جعل عملية الحسم او البت في مصاديقها قضية في غاية الصعوبة.
على ان صعوبة التأطير المعنوي، والتحديد المفهومي للخرافة عائدة في جوانب اساسية، الى الاستغلال الكبير الذي بات يشكل الاساس في تفعيل استخدام لغة "التخريف" والاقصاء في التعامل بين التيارات والتوجهات الفكرية المختلفة. ومما يثير الدهشة ان مذاهب تنتمي الى دين واحد راحت تتبادل هذا الخطاب ايضاً، وترمي كل منها نظيرتها بالخرافة والاسطورة. هذا ما يحصل بالفعل بين الاتجاهات الدينية التي هي من جنس قريب جداً. اما المدارس المادية، والليبرالية، والعلمانية، فقد ذهبت في اتجاه معاكس. فسنجدها ترى الى الخروج من حدود المادة، والاعتقاد بما وراء الطبيعة، بوصفهما خرافة صافية. في حين ان الأديان والرسالات السماوية، وما فيها من عقائد تخص الله والملائكة والجن والمبدأ والمعاد – ستتحول كلها بحسب هذه الاحكام – الى مجرّد مجموعة من الخرافات استولدها المخيال البشري لمآرب في النفس، أو لأهداف مادية سلطوية طبيعية أو غرائزية.
ولقد كان واضحاً ان اسقاط هذا المفهوم على الايمان الديني، والنظر الى المعتقدات الدينية كافة كمحاصيل خرافية يؤسسها وينشئها الفكر الضعيف، والعقل المريض، أو يكوّنها ويصوغها العقل السياسي، هو السمة الكبرى في الخطاب النقدي الماركسي والعلماني في سياق حملته على الفكر الديني، وكذلك في خلال مجادلاته الكبرى مع عدد من الباحثين والعلماء والمثقفين المسلمين المعاصرين.
لسنا في مجال الاصرار على الاستغلال الواسع للمصطلح كمنهج معتمد لدى التوجهات المادية وذلك من قبيل انكار وجود الخرافة او الاسطورة التي لا اساس عقلياً لها، وانما اردنا استثارة الذهن لكي يُتجنّب الوقوع في الشرك المادي نفسه. وايضا لأجل تحقيق التوازن والاعتدال، لئلا تصل الاحكام ضد خلع صفة الخرافة على كل ما لا يدركه العقل في النظرة الاولى. ان هدفنا الاساسي هو تأكيد حقيقة ان هناك التباسا كبيراً في دلالة اللفظ، وان اي توجه فكري، وأية نزعة فلسفية او دينية، تصف الآخر بالخرافي، ومعتقداته بالخرافات انما يتأتى حصرا من منطلق تفسيرها الخاص بها، للانسان، والكون، والمبدأ، والمعاد، كما يتأتى من وجهة نظرها الحصرية حول العقل والادراك الانساني، وكذلك من منظار تعريفها للحقيقة وللمادة الطبيعية، ولما وراء ذلك.
ومن المؤكد ان اطلاق هذا المفهوم على الوحي والمعجزة، او على الكرامات، والكائنات غير المادية، هو اكثر ما يندرج في مخاطبات النزعة المادية. ناهيك عما يصوره الاتجاه العلماني الذي اعتاد على "تخريف" كل ما يعجز عن فهم دلالاته من المعتقدات الغيبية. ولعل الوجه الاشد خطورة من كل ذلك هو ما، يتمثل في تغلغل هذا التوجه "التخريفي" الى عمق النخب الدينية. ما جعل الكثيرين منهم يبثون الشك، والتردد في معتقدات المتدينين على اعتبار انها خرافات لا تنسجم وسلالة العقل.
في اعتقادنا ان لغة التخريف والتعويل عليها بوصفها مركزا للنقد في المدارس الوضعية، هي امر طبيعي ومفهوم، ذلك لأن من طبيعة هذه المدارس وصف كل ما يتجاوز حدود المادة بالامر الخرافي. بيد ان مأزقية المجتمع الديني المعاصر هي انه لا يعاني من الخرافة والفكر الاسطوري، بقدر ما يعاني من المادية والابتعاد من الايمانيات والمعتقدات. الامر الذي يفرض على النخب الدينية، ادراك خطورة اضعاف روح، واستعداد الانسان، باتجاه الارتباط بالغيب، والايمان بما يوجبه الغيب. ونستطيع القول ان على هذه النخب واجب معرفة ان التأكيد غير المبرر لمقولة الخرافات داخل العقل الديني سوف يخلط الامور، ويولد الاضطراب ويجعل "الشر الخرافي" حاضرا ضمن مسار واحد مع "الخير الغيبي".
ان الدين والايمان في الاساس هما امر معنوي، وروحي، وغيبي واحد. امر يعطي الانسان ابعادا وجودية لا متناهية. بها يعيش في عالم الشهود مستعينا بالعقل، والمعرفة، والمنطق، وبها ايضا يمكنه ان يبسط الخلافة الالهية على الارض. على حين ان التعامل مع كل ما هو ابعد من مدى الإدراك المادي، على انه خرافة وباطل، سينقلنا الى الفوضى. ولسنا نظن ان "الايمان بالغيب" يمكن ان يتحقق في مثل هذا المناخ، وان روح الادعاء والاستعانة بالله يمكن تحل في الانسان، وان الاهداف السامية والغايات الكبرى من التشريع الديني يمكن كذلك ان تتبلور في المناخ اياه. ذلك لأن كل هذا يقبل التحقق اذا ما نشأ الانسان وتربى على خط الايمان بالغيب، وخصوصا اذا ما تنبهت نخب الدين والمجتمع الى عدم تعريض الاستعداد الانساني الفطري للايمان لخطر كهذا.
لكن تبدو الاشارة ضرورية الى امر هام، وهو ان البعض قد يرد الخرافات المنتشرة الى الايمان الزائد والمفرط بالغيب. وهذه مغالطة خطيرة بقدر ما تنطوي على تشخيص خاطىء. وزعمنا أن العكس هو الصحيح، وان الانسان بطبعه، كائن مستعد لخرق الطبيعة والاتصال بمديات ابعد بكثير من حدودها المتناهية، وان ابعاده من الغيب الحقيقي الصحيح سيدفع به الى احد الشرين، المادي الالحادي (الخرافة العظمى) او التدين غير المؤيد بالعقل.
ولا ريب في ان التأسيس لمفارقة هذه المعضلة لا يكمن في ادانة الجانب "الماورائي" في الخرافات التي تأكد لنا انها خرافات، وانما في ادراك واقع ما تنطوي عليه من صور مشوهة، وغير منسجمة مع عالم الغيب، ومع الوجه الحقيقي الغيبي للانسان.
نجف علي ميرازئي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد