التجربة الصوفية ومعضلة الاشتباك السياسي
تمثل التجربة الصوفية أحد مرتكزات الفكر الإسلامي في بواكير تكوينه، والتي عُني أصحابها بالحياة الروحية، وقد اكتسب هذا النموذج أهميته عبر التاريخ نتيجة ما أصاب الأمة الإسلامية من احتقانات سياسية ولَّدت شعوراً بالاغتراب عن مرحلة التأسيس الأولى، وهو ما جعل النموذج الصوفي ملاذاً يترفع عن الصراعات السياسية بين المتنازعين على السلطة.
وقد استمرت فاعلية التجربة الصوفية على مدار تاريخ الفكر الإسلامي، حتى أن دعوات الإصلاح الديني في العصر الحديث لم تغفل أهمية التجربة الوجدانية في الإصلاح، وهو ما أطلق عليه الإمام الشيخ محمد عبده (نظرية الهدايات الأربع) لتجديد الخطاب الديني، التي تعتمد على تزامل وتكامل (العقل والنقل والتجربة والوجدان).
وتتسع التجربة الصوفية لتشمل تياراً عريضاً يجمع عدة طرق ومدارس تتمايز في أدبياتها وتتنوع بدرجات بين العزلة والانخراط في الشأن العام.
وقد شهدت التجربة الصوفية المعاصرة حالات من الاشتباك مع الشأن السياسي، ففي الحالة التركية قد اتخذت مساراً سياسياً للممارسة السياسية، وذلك عبر تكوين أحزاب سياسية، فقد أسهمت الطريقة النقشبندية في تأسيس حزب سياسي من طريق تشجيع أحد مريديها النجباء هو نجم الدين أربكان على تأسيس حزب (النظام الوطني) العام 1970، والذي تولى منصب رئاسة الوزراء العام 1996 كأول صوفي يعتلي هذا المنصب منذ تأسيس الجمهورية التركية، وقد شهدت العلاقة بين التجربة الإسلامية والدولة في تركيا حالة من الصدام والمراوحة والمراوغة لا تزال مستمرة حتى الآن.
أما في الحالة الصوفية المصرية المعاصرة، فقد سيطر على توجهها السياسي في الأغلب الوئام مع السلطة الحاكمة، فإذا كانت التجربة الصوفية التركية قد اختارت أن يكون لها وجودها السياسي المعبر عن رؤيتها، فقد اكتف التجربة المصرية في غالب الأمر بأن تكون على هامش السلطة أو أن تنأى بنفسها عن الاشتباك السياسي، فقد ناصرت الطرق الصوفية النظام المصري في صدامه مع جماعة «الإخوان المسلمين» العام 1965.
والتجربة الصوفية تتمثل في شكل طرق تجسد نسقاً اجتماعياً له أدبيات دينية يفرضها على أتباعه وهذه الأنساق الاجتماعية يميزها عن غيرها بأن لها صفة إلزامية تجبر الأفراد على طاعتها، لأن التصورات الجمعية هي أعظم شكل للحياة النفسية للأفراد.
ويمثل الشيخ في النسق الصوفي رأس السلطة وهي سلطة لا تستمد من قوة مادية بل على تقدير ذاتي وعلاقة سيكولوجية بين الشيخ والمريد تنبع من اقتناعات دينية تمنح الشيخ سلطة وجدانية تجاه أتباعه ترتكز على ما يتمتع به الشيخ من تجربة روحية تجعله ملهماً لأتباعه، فالشيخ أحد بل من أهم مرتكزات التجربة الصوفية، فمن خلاله تبدأ الرحلة الروحية ويستمر دوره في مسارها، إلا أنه في بعض الطرق والتجارب يتضخم دور الشيخ بأن ينظر إليه بأنه ملهم اجتماعي وسياسي أيضاً، هذا النمط من الممارسة يضعف من قيمة حرية الإرادة وينمي إرجاء التصرف بطريقة لا شعورية على الآخر، خصوصاً إذا كان الآخر هو من يعرف مسارات التزكية الروحية، فمن باب أولى أن يكون قادراً على معرفة طرق النجاة في الممارسات الدنيوية.
وهنا تكمن إشكالية التجربة الصوفية في حال تزاوج التربية الدينية بالتوجه السياسي، فكون الفرد ملهماً في التوجيه الديني لا يعني بالضرورة أن يكون صاحب رؤية سياسية رصينة تناسب متطلبات الواقع، فبتعبير ابن خلدون في كون العلماء عموماً أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها (هم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أموراً كلية).
فالنظرة الكلية التي تهيمن على رؤية الشيخ للكون تنشئ عالمين، عالم حقيقي يجسد قيم الخير وعالم زائف. وهذا وإن كان مناسباً في التعاطي النظري لبعض العلوم ذات الطابع القيمي، فإن انسحاب هذه الرؤية الكلية على الواقع دون الوعي بحقيقة هذا الواقع وتفاعلاته، كما أن الانتقال السريع من عالم القيم إلى عالم الوقائع وطبيعته المركبة يولد نظرة ثنائية سطحية له تختزل كثيراً من العوامل الحاكمة في الواقع السياسي، وهو ما يؤدي إلى تفسيرات غير معبرة، إما أن تدفع للانسحاب منه انتصاراً للعالم الخاص أو الاشتباك مع الواقع بإنتاج مقولات تكرسه خوفاً من المجازفة غير المضمونة من تغييره والتي من الممكن أن تنتج أسوأ مما هو قائم بالفعل.
وثمة مسألة أخرى لها بعد نفسي لدى بعض الطرق الصوفية في تعاطيها مع الحركات الإسلامية الأخرى، وهي أنها تطرح نفسها على مريدها أنها البديل الأفضل لتمثيل الإسلام في الواقع، بيد أن صعود مشروع إسلامي له توجه سياسي يسبب حرجاً قد يراه البعض هزيمة لمشروعه وهي رؤية تعود إلى مصطلحات تربوية لدى بعض المتصوفة تولد الشعور باحتكار الفضيلة الدينية وازدراء الآخر حتى وإن كان يعمل لخدمة المشروع ذاته، إلا أنه له معين آخر، فالتسامي بالإيمان الذي يتولد من خلال الانتظام في النسق الديني يغذي شعور الاستعلاء إذا لم تواكبه قيم التسامح والتواضع والحب، ويغذي الاغتراب الاجتماعي لدى الأفراد المنتمين لتنظيمات دينية.
حسن محمد شافعي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد