البابا يثير سجالاً في فرنسا: العلمانية.. إيجابياتها وأصوليتها!
فرنسا العلمانية غاضبة. الرئيس نيكولا ساركوزي يقود الفرنسيين إلى جدال غير متوقع عن الإيمان، ومكانة الدين في المجتمع.
زيارة البابا بندكت السادس عشر إلى فرنسا انتهت، لكن السجال في ركابها لا يزال في بدايته. قداسته، واظب ثلاثة أيام بعدها، على الطَّرْق على العلمانية الفرنسية والتذكير بتاريخ ما قبلها: الجذور المسيحية لفرنسا.
في الإليزيه، وفي قداس الهواء الطلق، في ساحة الأنفاليد، وعند مندلف مغارة الظهور في مدينة لورد، إحياءً للمئة والخمسين لظهور العذراء على الراعية برناديت سوبيرو، استغل نعت ساركوزي للعلمانية، التي يدعو إليها بـ»الإيجابية«، مفترضاً ما مضى منها سلبياً، كي يقتحم أبواب النقاش المغلقة بين الكنيسة والدولة، حول العلمانية التي أزاحت الدين من الحيز العام بقانون منذ قرن.
بندكت السادس عشر، »البروفسور«، لقبه المحبب لدى المؤمنين، تفضيلاً للمثقف فيه المساجل، على هالة خلافته للقديس بطرس في روما، رمى بقنابله السجالية ومضى تاركاً وسائل الإعلام، والأحزاب والمثقفين، والماسونيين في خلاف: »الكنيسة لا تريد أن تأخذ مكان الدولة، والفاتيكان يحترم خصوصية فرنسا«، لكن ذلك ليس سوى المقدمة الحذرة، ليتابع في ما يثير: »يجب أن نبرز الجذور المسيحية لفرنسا، وأن نعثر على سبيل جديد، لكي نترجم في الواقع، ونحيي يومياً، القيم الأساسية، التي قامت عليها هوية الأمة«، وتزلق متفجرته الأخيرة: »مع رئيسكم تحدثنا عن تلك الإمكانية«.
بندكت انتقى من كلام ساركوزي، ما قاله قبل عام تقريباً في روما، وتجاهل عمداً، ما استجد في الإليزيه عندما غرس الرئيس الفرنسي، إلى جانب الجذور المسيحية لفرنسا، إرث الأنوار والعقل، في حقل تكوّن الأمة.
وفضل ما سمعه منه في روما عندما كانت العلمانية في خطابه آنذاك »عاجزة عن قطع فرنسا عن جذورها المسيحية، أتمنى أن تأتي علمانية إيجابية، في سهرها على حرية التعبير والإيمان أو عدم الإيمان، لا تعتبر الدين خطراً بل ميزة«.
ورغم التباين الذي أنشأه الرئيس بين خطابين على العلمانية، إلا أن نعته العلمانية بـ»الإيجابية« كان كافياً لإطلاق السجال. محترفو القتال ضد الكنيسة في الصف الأول، الحركات الماسونية، والتي يحيط بعض أعضائها بدوائره الاستشارية، قالوا للرئيس في بيانهم »العلمانية لا تحتاج إلى نعت، إلا إذا كانت الغاية منه تغيير طبيعتها، وليس لها أن تكون لا إيجابية، ولا منفتحة، وهي مكتفية بنفسها«.
فرانسوا بايرو، الكاثوليكي المؤمن، كان في عداد من حضروا قداس لورد البابوي، لم يفهم مع ذلك »لماذا كان على الرئيس أن يستقبل البابا في الإليزيه، كما أن نعت العلمانية بالإيجابية لتغيير طبيعتها، العلمانية وهي رفض الخلط بين طبائع مختلفة«.
ولساركوزي الفرد، عند الأمين العام للحزب الاشتراكي المعارض فرانسوا هولاند، أن يؤمن بما شاء »لكنه كرئيس للجمهورية لا يحق له أن يستعرض إيمانه« ليساجل في السياسة أولاً مع ساركوزي، »إن اليمين الفرنسي يسعى بهذه التسميات، إلى استعادة القاعدة المسيحية المحافظة، وخطب ود مسلمي فرنسا، ولا جدال في رغبتهم بالاعتراف بالهوية الدينية«.. ولا جدال أن استذكار الرئيس المتكرر لمسيحية فرنسا الرئيس، رسالة تتجاوز دلالاتها الفلسفية والظرفية، والجدال بين مثقفين، إلى السياسة المباشرة.
فاستدعاء الجذور المسيحية لفرنسا، والمخاطرة بإحياء الحرب بين العلمانية والكنيسة التي سكنت القرن التاسع عشر ومطالع العشرين، يكسب الرئيس وحزبه، معركة اجتذاب ما تبقى لجان ماري لوبن المسيحي القومي، ما تبقى من قاعدته الانتخابية، كما أنها تدغدغ الكاثوليك المحافظين، الذين يجدون في خيارات الرئيس الشخصية، منبراً لآرائهم.
وقوله الذي يترجم بأن مجتمعاتنا الحديثة عاجزة عن توفير الأمل للأفراد ومعنى الحياة لأفرادها، حمل إليه رداً من هولاند: »إن ذلك يعني أن مجتمعاتنا من دون الله، مهدّدة بالانحطاط، بالمادية والقدر الذي لا مردّ له، إن إيثار الغير على الذات، وتسامي الأفراد، ليس حكراً على الأديان«.
وفي غياب مثقفين كاثوليك، وصمت الرئيس بعدما أدلى بدلوه، يتولى مؤرخون ونواب ووزراء المساجلة، دفاعاً وهجوماً: جان لوك مالنشون، يسار الاشتراكي، وجد إيجابية العلمانية الرئاسية »بدعة من البابا«. ماكس غالو، اشتراكي سابق، إلا أنه منظر التحول الساركوزي اليوم قال »ولا غرو أن لفرنسا جذوراً مسيحية، والعقل قاعدة مجتمعنا إلا أن يصطدم بحدود، ويجب أن تحاور مع الإيمان، إلا إذا اعتقدنا بعبثية الحياة البشرية«.
جان لوك للوفيغر، المتحدث باسم حزب الرئيس وجد أن »الصورة التي يعطيها هولاند ومالنشون، لا تسامح فيها، وتشكل إهانة لكل المسيحيين المؤمنين في فرنسا«. وزيرة البيئة ناتالي كوزيسكو موريزيه أعادت ردها على هجوم الاشتراكيين والمعارضة، إلى خوف فرنسي من كل تطرف، فالذين وصموا علمانية الرئيس الإيجابية بالبدعة »سلفيون متطرفون في علمانيتهم، ففي العلمانية أصوليون، كما في الدين«.
محمد بلوط
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد