إيران تنتخب اليوم والمنطقة تترقب
يذهب اليوم ملايين الإيرانيين للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية الحادية عشرة لاختيار مرشح بين ستة مرشحين، ليصبح رئيس إيران خلال السنوات الأربع المقبلة.
وتشير الشواهد واستطلاعات الرأي إلى أن إيران لا تعرف جواً استقطابياً اليوم مثل الذي عرفته قبل أربع سنوات، ولكنها تشهد سباقاً انتخابياً ساخناً بسبب احتدام التنافس بين المرشحين متقاربي الرؤوس في السباق، ما سيجعل من جولة إعادة تعقد يوم الجمعة المقبل، أمراً مرجحاً.
ووفقاً لمؤشرات وأجواء العاصمة طهران، يتقدم محمد باقر قاليباف السباق مع منافسة قوية من حسن روحاني وسعيد جليلي، ويأتي بعدهم علي أكبر ولايتي. ولكن العاصمة ليست مؤشراً بالضرورة على اتجاهات المدن والأرياف الإيرانية كلها، كما أن نسبة كبيرة من الكتلة الإيرانية الناخبة لم تحسم خياراتها بعد، ما يجعل باب الاحتمالات مفتوحاً على مصراعيه.
ويتنافس المرشحون برؤى مختلفة في الاقتصاد، الذي يأتي في مقدمة أولويات الناخب الإيراني، ويهتم النظام الإيراني بالوصول إلى «نسبة مشاركة عالية في الانتخابات بغض النظر عن النتيجة، كدليل على شعبية النظام الإسلامي و«لإحباط الأعداء» كما قال مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي. صحيح أن ولاء المرشحين الستة لنظام جمهورية إيران الإسلامية وأسسها العقائدية يبقى فوق الشك، إلا أن المعركة الانتخابية وبرامج المرشحين المختلفة أظهرت تمايزات في رؤية المرشحين لدور بلادهم ونظرتها في التعامل مع القوى الكبرى والإقليمية، ما سيعني بالتالي أن نتيجة انتخابات الرئاسة ستكون فارقة في كل الأحوال.
لا تصنع السياسة الخارجية الإيرانية مؤسسة الرئاسة وحدها، فصلاحيات مرشد الجمهورية مثبتة في الدستور وتفوق صلاحيات الرئيس، إلا أن صلاحيات الرئيس تلعب مع ذلك دوراً مهماً في رسم السياسة الإيرانية. عرفت إيران مرشداً واحداً في الفترة الواقعة منذ العام 1989 وحتى الآن (السيد علي خامنئي)، تناوب على مؤسسة الرئاسة خلالها ثلاثة رؤساء هم بالترتيب: علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد.
وعند استعراض سياسات إيران الداخلية والإقليمية في الفترات الرئاسية الثلاث سيتضح مباشرة فارق كبير في سياسات إيران بالفترات الرئاسية المختلفة، ما يؤكد دور الرئيس ولمساته الخاصة في صنعها. يختار الإيرانيون اليوم رئيساً لبلادهم في مناسبة إيرانية بامتياز، إلا أن المنطقة تترقب نتيجتها مع ذلك لتعرف هوية الرئيس الإيراني المقبل، الذي سيتعامل مع الملفات الإقليمية الشائكة والمعقّدة التي تنخرط فيها إيران وتمسك بكثير من مفاتيحها. بهذا المعنى سيساهم الإيرانيون اليوم إلى حد كبير في تشكيل التوازنات السياسية المقبلة في الشرق الأوسط.
الاقتصاد يحدد السلوك التصويتي للإيرانيين
ينشغل الناخب الإيراني بمستويات متعددة من الهموم، وإن كان الاقتصاد وجهها البارز؛ لذلك يلعب الوضع الاقتصادي دوراً كبيراً لدى غالبية الإيرانيين في تحديد مرشحهم المفضل في الانتخابات الرئاسية الحالية. يسيطر الموضوع الاقتصادي على المناقشات المتعلقة بالانتخابات، بحيث يتصدر الآن مخيلة الناخبين الإيرانيين، وتتردد على ألسنة الإيرانيين الآن الأسئلة التالية في حواراتهم العامة والخاصة: كيف يمكن مكافحة التضخم؟، كيف يمكن إخراج الاقتصاد الإيراني من حالة الركود الراهنة؟، وهو ما تلاحظه في آراء من تتحدث معهم في الفندق أو سيارة الأجرة أو في المطاعم أو لدى المعارف والأصدقاء.
أظهرت الحملات الانتخابية والمناظرات المتلفزة الثلاث للمرشحين الستة عن تصوراتهم الاقتصادية الخاصة، ووفقاً لمتابعتها يتبين أن المرشح سعيد جليلي هو الأقرب إلى سياسات نجاد الاقتصادية، حتى وإن تجنب جليلي الدفاع عنها أو مدحها خلال الحملة الانتخابية أو المناظرات التلفزيونية الثلاث. لذا يعتبر كثيرون في طهران أن جليلي هو مرشح نجاد المفضل، حتى ولو لم يصرّح الأخير بذلك علناً. في المقابل يرى مؤيدو المرشح الوسطي حسن روحاني أنه يرتدي عباءتين: عباءة خاتمي الإصلاحية في الاقتصاد، وعباءة رفسنجاني القريبة من عالم الـ«بيزنس» والأعمال. ولكن روحاني، مثله مثل مير حسين موسوي المرشح الإصلاحي في العام 2009، لم يقدم برنامجاً اقتصادياً محدداً للناخبين. وهنا يستعيض المؤيدون التقليديون للتيار الإصلاحي والوسطي عن برنامجه بما رسخ في أذهانهم عن فترتي رئاسة كل من هاشمي رفسنجاني (1989-1997)، وفترتي رئاسة خاتمي (1997-2005)، بمعنى أن روحاني يحظى بالوكالة بتأييد قطاع كبير من سكان المدن الإيرانية الكبرى والطبقة الوسطى وما فوقها، فضلاً عن رجال الأعمال التوّاقين للتفاعل التجاري مع الغرب.
وفي طريق مغاير يسير الانطباع عن محمد باقر قاليباف، حيث أظهر قاليباف كفاءات إدارية واضحة في مهمته كمحافظ لمدينة طهران طيلة السنوات الثماني الماضية، وهو ما يعزز الانطباع بكفاءات اقتصادية بالتوازي مع الإدارية. ويبدو لافتاً في هذا السياق كمية الملصقات الدعائية لقاليباف في أحد المجمعات التجارية الشهيرة في العاصمة طهران، أو عندما تتجول بك سيارة الأجرة في بازار طهران الواقع إلى الجنوب من العاصمة الإيرانية. تقف في ميدان فلسطين في العاصمة طهران مع الحشود المؤيدة لقاليباف، يطل قاليباف على جمهوره في قالب جهادي وشبابي محاولا رسم دور رجل الدولة لشخصيته. يتطرق قاليباف الى الموضوعات المختلفة بسلاسة وبراعة ويتوقف كثيرا عند الاقتصاد، وساعتها تلاحظ أصوات الحشد المؤيد وهي تقاطعه استحساناً: «فقط قاليباف!».
ربما يتنافس قاليباف في الملف الاقتصادي مع روحاني على دعم ذات الشرائح الاجتماعية (الطبقة الوسطى وما فوقها)، التي تتوقع خيراً من توجهاتهما الاقتصادية وإن زاد عليه بدعم التجار الصغار.
من ناحيته، انتقد علي أكبر ولايتي الأداء الاقتصادي الضعيف لحكومة نجاد ولكن من المدخل الذي يناسب قدراته العالية، أي من مدخل الملف النووي والعلاقات الدولية، على اعتبار أن التدهور الاقتصادي ناتج عن الأداء الضعيف في مجال العلاقات الدولية. وبالتالي أفلح ولايتي الحاذق في الخروج من مصيدة البرنامج الاقتصادي وضرورة تقديمه للناخب، وهو أمر صعب وحساس في الحالة الإيرانية. على كل حال لا يغيب عن الأذهان أن ولايتي يحظى بدعم جمعية «مؤتلفة»؛ وهي جمعية ذات توجه سياسي محافظ واقتصادي يؤمن مصالح التجار الكبار في البازار، ولها نفوذ تقليدي كبير في إيران.
قبل ثماني سنوات كان الاقتصاد أيضاً أحد محددات الاختيار لدى الناخبين الإيرانيين، ووقتها نجحت حملة نجاد الانتخابية لعدة أسباب، يتقدمها ذلك الوعد البراق الذي قدمه لمواطنيه: «سأضع أموال النفط على مائدة الإيرانيين». وكان أحد الارتكابات التي اقترفتها إدارته أنها قامت بتحويل الدعم العيني الذي تقدمه الدولة الإيرانية على بعض السلع الرئيسية، إلى دعم نقدي للشرائح الإيرانية الفقيرة. وكان من نتيجة تلك «السياسة الشعبوية» ـ على حد وصف أحد أساتذة الاقتصاد الإيرانيين ـ أن انهار سعر صرف العملة الوطنية الإيرانية «الريال»، وأن قفزت نسبة التضخم لتؤشر إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الإسلامية. باختصار أصبح الاقتصاد الإيراني بعد ثماني سنوات من حكم الرئيس المنتهية ولايته محمود أحمدي نجاد، في وضع أسوأ عما كان عليه إبان انتخابه للمرة الأولى في العام 2005، ما يضفي أهمية إضافية على أهمية الاقتصاد في تحديد السلوك التصويتي للإيرانيين. يقول منطق الأمور إن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، والدليل الأبرز على الترابط بين الاستقرار السياسي والاقتصاد يظهر في ارتفاع مؤشر بورصة طهران أمس وأول من أمس، قبل الانتخابات مباشرة. وذلك بسبب المعنى الإيجابي الذي تقدمه الانتخابات باعتبارها عاكسة لاستقرار النظام السياسي الإيراني. ومن الأمور اللافتة أنه يمكنك تفسير أحداث سياسية كبرى في إيران على خلفية الاقتصاد، فمثلاً يمكن تفسير الأجواء السلبية التي أحاطت بقرار مجلس صيانة الدستور القاضي بحجب الرئيس الإيراني الأسبق رفسنجاني عن الترشح في السباق الرئاسي، بخيبة أمل بعض الإيرانيين في تحسن الحالة الاقتصادية إذا ترشح رفسنجاني وفاز بالانتخابات، كما يعتقد أردشير رجل الأعمال الطهراني، وذلك لما يتمتع به من سمعة كاقتصادي كفوء، يستطيع اجتراح نجاحات اقتصادية كبيرة. وعلاوة على ذلك تأخذ الأمور مساراً أكثر تفصيلاً في الحالة الإيرانية: حالة الاقتصاد تعني العقوبات الدولية، والاخيرة تصب مباشرة في علاقات إيران الدولية. لكي نفهم محورية الاقتصاد في الوضع الإيراني الراهن علينا أن نتذكر أن الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها إيران تتأثر إلى حد كبير بالعقوبات المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي الذي تتفاوض حوله مع الدول الست الكبرى منذ عشر سنوات، والتفاوض هو جزء لا يتجزأ من علاقات إيران الدولية. وبالتالي فعندما تتحدث في إيران عن حالة الاقتصاد الإيراني، سيعرج بك الحديث مباشرة إلى الملف النووي، وستصل بالتأكيد إلى علاقات إيران الدولية.
لا تقتصر مركزية الاقتصاد على الناخبين الإيرانيين أو حتى على المرشحين الستة التوّاقين للفوز بالانتخابات، بل تتعدى ذلك إلى واحدة من أهم مراكز الثقل السياسي والاقتصادي في إيران، أي مؤسسة الحرس الثوري. نجحت مؤسسة الحرس الثوري على مدار السنوات العشر الماضية في تقوية مركزها في الاقتصاد الإيراني، ما جعلها أيضاً رقماً صعباً في المعادلة السياسية الإيرانية. تقدر نسبة أعضاء البرلمان الإيراني الحالي من المحاربين القدامى للمؤسسة بنسبة تتراوح بين 15 في المئة و20 في المئة من إجمالي المقاعد.
وبالعكس تسيطر مؤسسة الحرس الثوري بخلاف نفوذها السياسي ـ ربما بفضله أو بسببه أو كلاهما معاً ـ، على نسبة مهمة من الناتج المحلي الإجمالي في إيران. وتنتج مؤسسة الحرس الثوري بضائع متنوعة وتستورد سلسلة طويلة من البضائع المهمة والاستهلاكية، وبالتالي فهي رقم أساسي في المعادلتين الاقتصادية والسياسية في إيران. ومع ذلك فمن الصعب توقع أن العوامل الأيديولوجية وحدها ستدفع أفراد هذه المؤسسة الهامة إلى التصويت اليوم لمرشح واحد بعينه على خلفية أفكاره السياسية فقط، لأن تردي الاقتصاد الإيراني في الأعوام الماضية ترك أثره السلبي على القدرة الشرائية لكثير من الإيرانيين. ومن المعلوم أن تراجع القدرة الشرائية سيؤثر على تراجع الطلب على السلع والخدمات، وبالتالي على التسبب بالركود، وهو الأمر الذي لا يناسب مصالح مؤسسة الحرس الثوري. ربما تكون تلك البديهة مؤشرة إلى نتيجة سياسية مفادها، أن أصوات هذه المؤسسة المهمة في موازين القوى السياسية الإيرانية ليست محسومة كلها بالضرورة لمصلحة جليلي كما يشاع، بسبب اعتقاد شريحة لا يستهان بها من الإيرانيين بتقارب تصورات جليلي الاقتصادية مع تلك لدى نجاد.
مصطفى اللباد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد