دستور الإخوان: ولاية الفقيه السنية
دخلت مصر معركة الاستفتاء على مسـودة الدستـور، التي أعـدتها جماعة «الإخوان المسلمين» وأصرت على تمـريرها باستـفتاء رغـم المعارضة الشعبية لهذه المسودة، وذلك على الرغم من مقاطعة القضاة للإشراف على الاستفتاء، ورغم ضيق الوقت المتاح أمام المصريين لمناقشة مواد الدستور واستعراض جوانبه المختلفة. ولأن مثالب المسودة كثيرة وفادحة سواء على جانب الحريات الفردية أو المساواة بين المصريين دونما نظر إلى الدين والجنس، أو على جانب تغييب العدالة الاجتماعية كلياً في مسودة الدستور الجديد، بالضد من كونها شعاراً وهدفاً مؤسساً للانتفاضة الشعبية المصرية. وإذ اجتهدت أقلام مصرية معتبرة ومقدرة في تعرية الجوانب السابقة، إلا أن هناك قضية على جانب كبير من الأهمية لم يتم تناولها بأي شكل حتى الآن وهي أن مسودة الدستور التي يستفتي عليها المصريون الآن تؤسس لولاية فقيه سنية في مصر تحت حكم «الإخوان المسلمين»!
«مبادئ الشريعة» والقيم الثلاث الكبرى
لم تكن مصر يوماً دولة علـمانية بالتعـريف العلـمي للكـلمة، إذ ظل الإسلام حاضـراً في المجتـمع وفي بنية التـشريع، كون مـبادئ الشـريعة هي أحـد مصـادر التـشريع الأساسـية. ولـم يعـترض أي تــيار أو جـماعة سياسية طيلة العـقود الماضـية على اعتـبار مـبادئ الشـريعة الإسلامية أحد مصادر التـشريع الرئيسـية، لأن التيارات السـياسية المصـرية على اخـتلاف ألـوان طيـفها الأيديولوجـية لم تتـصادم مـع الدين، أو تعتبر نفسها حتى في خصـومة معه. ويضـاف إلى ذلـك أن المفهوم العام لجمـلة «مبادئ الـشريعة الإسلامـية» كان مجـسداً على الدوام في قيم ثلاث كبرى: الحرية والمساواة والعدل. وهنا يستطيع المرء أن يلاحظ التقاء القـيم المؤسـسة للأديان عـموماً في هذه القـيم الثلاث الكـبرى؛ وبالتالي فعندما تصطدم أية تآويلات للنصوص الدستورية والقانونية (المنقولة في الأغـلب عن القـوانين الفرنسيـة في إطار عــقلاني يراعي خصوصية المصريين ومعـتقداتهم) بالقـيم الكـبرى الـثلاث المجـسدة لمبادئ الشريعة، فقد كانت تخرج تلقائياً من ساحة البحث والتطبيق. انطبق ذلك على دستور 1923 الليـبرالي، ودستور مصر الناصرية عام 1956، ودستور الجـمهورية العربية المتحدة (1958-1961)، ودستور 1964 بعد انفراط الوحـدة مع سـوريا. ومـع تولي الرئيس الراحل أنور السادات مقاليد الحكم، ورغبته في انتهاج سياسات مغايرة عن سلفه وتوكيد ميوله الدينـية باعتباره «الرئيس المؤمن» - اللقب الذي فضله لنفسه على غيره - فقد عمد إلى إضافة لام التعريف فأصبحت «مبادئ الشريعة الرئيسية المصدر الرئـيسي للتشـريع»، ولـيس أحد المصـادر إلى جانب أخـرى. وبالرغم من لام الـتعـريف المذكورة، فلم تشـهد البنـية التشـريعية المـصرية تغـييراً يذكر، في حين أفتت جماعات جهادية بقـتل الرئيـس الراحـل أنور الـسادات ـ رغم لام تعريفه - كونه «لم يحكم بما أنزل الله». واستمر الرئيــس المخـلوع مبـارك على نهـج سلـفه في اعتـبار «مبـادئ الـشريعة» المصدر الأساسي للتشريع في التعديلات الدسـتورية التي جرت عام 2005، وفرّق الحقوقيون المصريون دوماً «مبادئ الشريعة» عن «الشريعة»، كون التعبير الأول يحوي مبادئ عـامة غير مختلف عليها وقابلة بكثير من اليسر لتأويلها في إطار مدني، وهو ما مثل علامة واضحة من التعايش المصري بين التراث والحداثة أو الأصالة والمعاصرة.
العمود الأول لولاية الفقيه السنية
حاولت مسودة الدستور الجديد التغرير بالمصريين، فأبقت في مادتها الثانية نص المادة الثانية في صيغة لا تبتعد كثيراً عن مثيلتها في دستور 1971، إلا أنها اخترعت مادة تفسيرية للمادة الثانية هي المادة 219، حتى تقدم تفسيراً مغايراً بالكلية لما جرى عليه العرف الدستوري المصري بإسناد مبادئ الشريعة إلى القيم الثلاث الكبرى، فأحالتها هذه المرة إلى نص جديد. يقضي منطوق المادة 219 (لا مبرر هنا للترتيب المتأخر للمادة سوى التغرير وعدم الرغبة في وضع نص مادتها إلى جوار المادة الثانية) بالتالي: «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذهب أهل السنة والجماعة». أخرجت العقلية الإخوانية حلاً شكلياً في نص المادة 219 لا يرضى بالحذف النصي لكلمة «مبادئ» المنصوص عليها في المادة الثانية، لكنه يثبت هذا الحذف ويكرسه بمضمون وروحية النص الدستوري الجديد. ويقود تقليب النظر في نص المادة 219 إلى أن هذا النص يحيّد في الواقع كلمة مبادئ؛ بعد أن يحولها عملياً إلى «الشريعة الإسلامية»، فاتحاً بذلك الباب على مصراعيه أمام تأويلات للشريعة مغرقة في تشددها ويسند البنية الدستورية والحقوقية بكاملها بالتالي إلى الشريعة. وإذ اكتفى محللون بإرجاع الغرض السياسي لهذه المادة إلى محاولة جماعة «الإخوان المسلمين» إرضاء واستمالة حليفها التيار السلفي، الذي تصلب في فترة مناقشة المسودة وطالب بحذف كلمة مبادئ من الفقرة الثانية، إلا أن الأمر يتعدى مجرد الإرضاء والاستمالة. ويعود السبب في ذلك إلى أن مواد الدستور المطروح للاستفتاء عليه تكرس هوية دستورية جديدة للمصريين، تختلف عن تلك السائدة في دساتير مصر منذ القرن العشرين بغرض تثبيت العمود الأول لولاية الفقيه السنية؛ التي تريد جماعة «الإخوان المسلمين» تمريرها عبر الاستفتاء على مسودة الدستور.
العمود الثاني لولاية الفقيه السنية
يتمثل العمود الثاني لولاية الفقيه التي تريدها جماعة «الإخوان المسلمين» في هيمنة جهة غير منتخبة من الشعب تحمل الصفة الدينية ولها حق فحص ونظر وإلغاء القوانين التي تطرحها السلطة التشريعية المنتخبة من الشعب (هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف). ومثلما يختص مجلس «مراقبة الدستور - شوراي نكهبان» الإيرانية بالموافقة أو رد القوانين بعد تحويلها إليها من البرلمان الإيراني، يناط ذلك الآن حسب منطوق المادة الرابعة بهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في مصر. ومع أن أعضاء المجلس الإيراني أثنى عشر نصفهم من الفقهاء يعينهم المرشد، والنصف الآخر من الحقوقيين ينتخبهم البرلمان نفسه، تقضي المادة الرابعة من مسودة الدستور الإخواني بأن يكونوا كلهم من الفقهاء دون تحديد للعدد في نص المادة، لفتح الطريق أمام الجماعة للنفاذ إلى هذه الهيئة والتأثير على تركيبتها في المرحلة المقبلة. يقول منطوق المادة الرابعة من مسودة الدستور التالي: «الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة، يختص دون غيره بالقيام على كل شؤونه، ويتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. ويؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية. وتكفل الدولة الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، يحدد القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء. وكل ذلك على النحو الذي ينظمه القانون». وتزداد النية وضوحاً مع إحالة تفاصيل المادة الرابعة من صلاحيات لهيئة كبار العلماء إلى قانون، أي إحالة التفاصيل إلى الرئاسة التي يتولاها الآن محمد مرسي.
ولايتا الفقيه الشيعية والسنية
فات على جماعة «الإخوان المسلمين» أنهم لم يقودوا الثورة في مـصر، مـثلما فعل الإمام الراحل الخميني في إيران بالتحالف مع مروحـة واسعة من الطيف السياسي، مثلما غاب عنهم أن السيـد الخـميني رفض كل الحلول الوسط إبان معمعة الثورة، فأصر بوضـوح على إسقاط الشاه الراحل ورفض إصلاحات حكومة شهبور بختيار قبيل انتصار الثورة الإيرانية، بينما تفاوضت جماعة «الإخوان المسلمين» ونسقـت في الانتـخابات التشريعية طيلة السنوات الماضية مع نظام حسني مبارك، وكان أخرها يومي 2 و10 شباط 2011 أي قبل سقوطه بيـوم واحد (شـهادات موثقة في كتابات وأحاديث من قياديين كبار سابقين في جماعة «الإخوان المسلمين» من محمد حبيب إلى عبد المنعم أبو الفتوح). وإذ قدمت تيارات إيران السياسية وبضمنها التيار الإسلامي الشهداء تلو الشهداء إبان ثورتهم، فلم يعرف عن جماعة «الإخوان المسلمين» تقديم أي شهيد من الشهداء الثمانمئة الذين سقطوا في أيام الانتفاضة المصرية المجيدة الواقعة بين 25 يناير/كانون الثاني وحتى 11 فبراير/شباط 2011. وفي حين حيد الإمام الخميني الجيش الإيراني منذ البداية، فقد تفاوض «الإخوان المسلمون» مع الجيش في مصر وتحالفوا معه طيلة الفترة الواقعة بين سقوط مبارك وانتخاب محمد مرسي. وما زال التحالف الإخواني - العسكري قائماً، بل تم تثبيته في مسودة الدستور الجديد عبر المواد 194 و195 و196، والتي تعطي المؤسسة العسكرية صلاحيات وامتيازات لم تعرفها أي من الدساتير المصرية السابقة. وفي النهاية لم تعرف الثورة الإيرانية إسناداً إقليمياً ودعماً دولياً لها، فلم تكن مدينة لأحد مادياً ومعنوياً وسياسياً، في حين أن الدعم الدولي والإقليمي للجماعة في مصر سيجعلها على الأرجح مدينة سياسياً لسنوات طويلة مقبلة. تمثل مسودة الدستور المطروحة للاستفتاء في مصر محاولة لكتابة التاريخ بأثر رجعي، بحيث تبتغي أن تقطف ثماراً لبذور لم تغرسها، ولم تدفع مقابل سلطاتها ثمناً ثورياً وسياسياً. لم نقبل ولاية الفقيه الشيعية، فمن باب أولى الآن أن نرفض ولاية الفقيه السنية التي تحاول جماعة «الإخوان المسلمين» فرضها خلسة على عموم المصريين.
مصطفى اللباد- رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة.
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد