ثلاثية استبداد السلطة وعجز الأغلبية وعنف الأقلية
لا شك في أن الوعي والإدراك والاقتناع تعد المقومات الأساسية التي تدفع أي جماعة إلى الحركة في اتجاه أي قضية من قضاياها، فإذا توفرت كل هذه المقومات لدى غالبية أفراد الجماعة ولم تنتج عن ذلك محاولات القيام بأفعال جماعية، فإن هذا على الأغلب يعني أن هناك عطلا في الحركة الذاتية لهذه الجماعة بسبب غياب روح الفعل الجماعي لدى غالبية أفرادها، وبالتالي فهي تعتمد فقط على العوامل والأطراف الخارجية لتحريك واقعها.
وفي تلك الحالة فإن واقع هذه الجماعة يتشكل حسب رغبة ومصالح تلك الأطراف التي صنعت ديناميكية الحركة، ولا يبقى أمام هذه الجماعة سوى السير في الاتجاه والمسارات التي تقررها تلك الأطراف بمعزل عن رغبة وطموحات الجماعة التي لا تصنع أفعالا جماعية يساهم زخمها في صنع الحركة أو في تعديل مساراتها.
إن تعطل الحركة السياسية للجماعة في اتجاه طموحاتها لا يعني الانعدام الكلي للحركة داخلها، فهناك دائما أقلية تملك روح الاستعداد للتضحية والمخاطرة، وذلك يدفعها إلى الفعل بصرف النظر عن طبيعة هذا الفعل وكيفيته في محاولة منها لإنابة نفسها عن الجماعة المستقيلة من دورها.
فالأقلية في المجتمعات العربية تعتبر نفسها مضطلعة بالدفاع عن جماعة تفتقد القدرة على الدفاع عن مطالبها ومصالحها في مواجهة السلطة والغرب معا.
إن السلطة العربية التي لا تستجيب لرغبة ومطالب أغلبية المجتمع، إلى جانب الهيمنة الأجنبية التي لا تتوقف عند السيطرة على المقدرات، بل تتعداها إلى الغزو والاحتلال والتدخل في مختلف التفاعلات داخل الجماعة، كل ذلك كان من الممكن أن يتولد عنه فعل جماعي من قبل الأغلبية، يؤدي على الأقل إلى توازن المصالح أي تنازلات من قبل السلطة والغرب، كما ينتج عنه تثبيت الحدود والخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها في اتجاه ما تعتبره الغالبية مقدسا ومحرما وحيويا.
ففي مثل هذه الحالة ما كان لعنف الأقلية أن يجد مناخا مواتيا وأسبابا وقضايا تنميه وتغذيه بل تجعله في أغلب الأحوال تعبيرا عن مشاعر الأغلبية المستكينة المكبوتة.
ولكن تحالف الكبت الداخلي مع الهيمنة والإذلال الأجنبي لم يتولد عنهما فعل جماعي، ومن هنا ظهر عنف الأقلية كردة فعل على هذا الفشل.
فكل القضايا والمسائل التي تحوز شبه إجماع من قبل الجماعة باعتبارها حيوية تتعلق بمصيرها وهويتها ووجودها، جرى النيل منها، وعدم الاكتراث بها من قبل السلطة لتدجين الجماعة كي تقبل بعدم وجود ما تعتبره مصيريا أو حيويا أو ما تراه محرما أو مقدسا لا ينبغي المساس به.
ومن ضمن هذه القضايا العلاقة مع الغرب التي حازت دائما أكبر حيز من الاهتمام السياسي والفكري لدى الجماعة العربية، إذ الغرب لا تكاد تحتفظ له الذاكرة الجماعية بغير صورة المستعمر المسيطر الذي يعتبر طموحات الأمة إلى التحرر والوحدة والقوة بمثابة النفي والنقيض لمصالحه السياسية والإستراتيجية في المنطقة.
ولذا فإن التعامل معه على أنه محرر وحام أو حليف لعرب ضد عرب آخرين، أو حمل السلاح إلى جانبه كيف ما كانت الدعاوى، كل ذلك يصدم ويستفز الوعي الجمعي للجماعة العاجزة ويعد نوعا من العنف السلبي الذي تمارسه السلطة ضد الجماعة التي تحس إزاءه بالعجز والإذلال والتحدي لوعيها وإدراكها، مما يؤدي إلى تراكم الشعور بالقهر في الوعي الجمعي والفردي على حد سواء.
ونظرا لغياب ردة فعل من الأغلبية التي يفتقد أفرادها روح الفعل الجماعي فإن الأقلية هي التي تقوم بردة الفعل معتبرة نفسها نائبة عن الجماعة في التعبير عن المطالب والقضايا التي تكاد تجمع حولها الأغلبية الصامتة والعاجزة.
ومن هنا فإن هذه الأقلية لا تعتبر نفسها أقلية من حيث اعتقادها ورؤيتها للمصالح والمطالب والطموحات التي تتبناها، بل هي أقلية فقط من حيث عدد الأفراد القادرين على القيام بردة الفعل للدفاع عن قضايا تقاسمهم الأغلبية العظمى من الجماعة الإيمان بها، وبالتالي فإن هذا الاتفاق في النظرة بينها وبين الأغلبية حيال تلك القضايا تعتبره بمثابة تفويض ضمني.
لكن هذه الأقلية التي أنابت نفسها عن الأغلبية تجد نفسها أمام ضرورة الإجابة عن سؤال جوهري يتعلق بطبيعة وحجم الفعل الذي ينبغي أن تقوم به للتعويض عن غياب فعل الجماعة الذي كان من المفترض أن تقوم به الأغلبية بكل ما تمثله من قوة التكتل والحجم والزخم والتواصل.
فأفعال الأغلبية تعتبر مؤثرة كيف ما كانت، لأن المظاهرات الحاشدة المتحدية لعنف السلطة أو الإضرابات المنظمة والاعتصامات، كلها يمكن أن تغني عن العنف المادي لتحقيق القدر الأكبر من المطالب إذا ما قامت بها أغلبية الجماعة وأصرت عليها.
أما إذا قامت بها الأقلية فإنها لن يكون لها أثر فعال لا على القضايا والمطالب ولا في مواجهة السلطة، ما دامت الأغلبية لا يزيد موقفها عن الفرجة والتعاطف والإعجاب، لأنه في مثل هذه الحالة تستطيع السلطة دون عناء ودون حرج أن تنزل العقاب بهذه الأقلية وتمثل بها من أجل حماية واستقرار المجتمع الذي –حسب رأيها– ينأى بنفسه عن المشاركة في أعمال حفنة من المغرر بهم ومن مثيري الشغب والقلاقل، والخارجين عن القانون والنظام العام.
بعد أن تقوم الأقلية بإنابة نفسها عن الأغلبية المستقيلة من دورها تقوم بتحديد نوع وطبيعة الفعل الذي تعتقد أنه يسد الفراغ الذي تركه غياب فعل الأغلبية في بعده السياسي والاجتماعي.
وفي ظل ظروف كهذه، فإن الفعل الذي ينهض بهذه المهمة سيكون في نظر هؤلاء هو الفعل العنيف باعتباره يرقى إلى نفس مستوى الفعل الذي تمارسه السلطة ويستجيب لثقافة الثأر الثاوية في الوعي العربي، إلى جانب أنه يمثل صدمة عنيفة للواقع قد تحرر الأغلبية من عجزها وترددها.
فمن يقومون بمثل هذه الأفعال في فترات صعبة من حياة جماعة تعاني قهرا وإذلالا، يصبحون في نظر الأغلبية أبطالا مما قد يدفع بالكثيرين إلى محاولة محاكاتهم، وتلك هي عين البداية في نظر هؤلاء على طريق تحرير الفرد والجماعة من عقدة الخوف المزمنة.
في ظل عجز الأغلبية واستبداد السلطة وانسداد الأفق أمام وسائل التعبير, تقوم الأقلية بردة فعل تعويضيه عن غياب الفعل الجماعي فيخرج تصرفها عما هو معتاد في حجمه وطريقة تنفيذه ووسائله وتتطاير نتائجه في كل اتجاه.
صالح السنوسي
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد