الشورى في الإسلام ليست الديموقراطية
توهم الانتصارات الكاسحة للاسلاميين في ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي» بالتلازم بين صعود الحركات الاسلامية في العالم العربي وبين التحول الى الديموقراطية. إلا ان ما يبدو من تلازم في الظاهر لا يعبر عن حقيقة العلاقة المأزومة بين الاسلام والديموقراطية تاريخياً واجتماعياً وايديولوجياً، كونهما بنيتين مختلفتين وتعذر المقارنة بينهما من الناحية المنهجية. الاسلام دين ورسالة تتضمن مبادئ تنظيم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم، والديموقراطية نظام للحكم وآلية للمشاركة وعنوان كبير تثوي وراءه رؤية فلسفية للانسان والمجتمع، لا تتلاءم مع الرؤية الدينية التراثية. للاسلام مشروعه الحضاري الخاص، والديموقراطية مشروع حضاري طارئ على العالم العربي من حيث هو فكرة ومن حيث هو ممارسة، ولم يكن الافق الفلسفي للحضارة العربية الاسلامية ليسمح بانبثاق سؤال الحرية بمعناه الحداثي المحمَّل بدلالات ليبرالية مستجدة وغير مسبوقة. لقد عجزت الحركات الاسلامية حتى الآن عن ان تتمثل الديموقراطية من دون ان تفقد هويتها، ولم يكن ممكناً تحقق المشروع الاسلامي من دون إقصاء غير المتفقين معه والمخالفين لشمولية نظرته الى العالم.
وفي حين يكاد يجمع الاسلاميون على تناقض المضامين الليبرالية للديموقراطية مع تعاليم الاسلام وفلسفته، جهد البعض لتجسيد العلاقة بين الاسلام والديموقراطية بالعودة الى مقولة الشورى الاسلامية، بينما رأى آخرون ان الصلة مفقودة بين المصطلحين. فكيف تمكن المقارنة بين مفهوم سياسي يفيد مجمله تقرير سلطة الانسان في نظام اجتماعي معين، وبين مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير خضوع الانسان الى سلطة الله؟
من هنا رأى بعض الاسلاميين انه من المتعذر أو المستحيل التوفيق بين المفهومين، ففي رأي يوسف القرضاوي على سبيل المثال، لا يستحق شرف الانتساب الى الاسلام ما لم يكن مصدره الاسلام الخالص، وليس أي مذهب آخر أو أية فلسفة اخرى، ذلك ان الحل الاسلامي هو الذي يطوّع كل الانظمة لأحكام الاسلام وليس العكس.
ولم يؤد التسليم بمبدأ الشورى الى حل الاشكال الايديولوجي بين الديموقراطية والاسلام، نظراً لالتباس مفهوم الشورى وماهيتها وعناصرها ومقوماتها وتجلياتها الواقعية. هل هي ملزمة للحاكم ام انها لا تتعدى النصح؟ وما هو مجال عملها؟ ومن هم أهل الشورى وكيف يحدّد هؤلاء ومن يختارهم؟ هل هم أهل الحل والعقد أو أهل الاختيار أو أصل الاجتهاد وأولي الامر؟ هل تجوز المقابلة بين هؤلاء ونواب الامة في المجالس التمثيلية الحديثة؟ وهل تستوعب الشورى مبدأ فصل السلطات الذي هو اساس الحكم الديموقراطي الحديث؟
اسئلة تبقى معلقة ومؤجلة لأن اعتبار الامة مصدر السلطات في الديموقراطية يفترض تحررها من اية وصاية خارجة عنها، بينما هي في الاسلام مقيدة بالشريعة. وان أقر بعض الاسلاميين بحق الناس في اختيار حكامهم، الا انهم لم يحددوا ما يقصدونه بـ«الناس» وما اذا كان هذا المصطلح يشمل كل البشرمن دون استثناء، او اذا كان من حق هؤلاء اختيار القوانين ايضاً ـ لا الحكام فقط ـ ومحاسبة حكامهم على أساسها؟ الامر الذي يقود حكماً الى اشكالية حقوق الانسان بين الاسلام والديموقراطية، وفي ما اذا كان الانسان هو المرجعية الاولى والاخيرة في ما يخص وجوده السياسي والاجتماعي.
إزاء هذه النقطة بالذات لا بد للديموقراطية من التصادم مع بعض عناصر العقيدة الاسلامية، اذ من الخطأ الحديث عن حقوق الانسان بالمعنى الحديث في الفكر الاسلامي. فالقانون المدعو بالاسلامي، في رأي محمد أركون، أبقى المرأة داخل مكانة قانونية أدنى من الرجال، وهو لا يعطي المكانة الكاملة للشخص إلا للمسلم، الذكر، الحر (اي المضاد للعبد) المؤهل قانونياً لأن يحترم حقوق الله وحقوق الانسان. اما الطفل والعبد وغير المسلم، فهم مؤهلون احتمالاً للتوصل الى هذه المكانة، شرط ان يصبح الطفل بالغاً والعبد حراً وغير المسلم مسلماً.
واذا كانت المساواة، الشرط الاساسي للديموقراطية، مرفوضة من المنظور الاسلامي، فالتعددية الايديولوجية والحزبية مرفوضة كذلك، بل هي موضع اتهام وادانة، اذ في حرية العقل، في رأي بعض الاسلاميين، ما يتعارض مع الايمان والنصوص القطعية، كما ان الديموقراطية تفتح الباب على مصراعيه للردة والزندقة والاباحية تحت شعار حماية الحرية الشخصية. من هنا قول احدهم: «لا ديموقراطية في الاسلام، كما لا حريات في الاسلام، بل نظام كامل من لدن عزيز حكيم». ولا يعوَّل كذلك على مبدأ الاكثرية، لأن السيادة للشرع لا للشعب الذي مناط الحكم الديموقراطي الحديث في الاحتكام الى اكثريته. فالفكر الاسلامي كان دائماً معنياً بوحدة الامة وتماسكها وتجنّب الفتنة وحفظ الشريعة، ولو أدى ذلك الى التضحية بحرية الفرد. اذ للاسلام رؤية لوضعية الفرد مختلفة تماماً عما هي عليه في الديموقراطية الحداثية، حيث الفرد هو الوحدة المرجعية الاساسية سواء بالنسبة الى الذات او بالنسبة الى المجتمع. ان الاصل في النظام الاسلامي تأكيد العدالة التي لا تعني الحرية او الديموقراطية، وإلا لما ذهب بعض اسلاميي عصر النهضة الى القول بالمستبد العادل.
تجنباً لهذا الاشكال الايديولوجي التاريخي عرف الفكر الاسلامي منذ القرن التاسع عشر الى الآن محاولات تأصيلية توفيقية متكررة لم يقيض لها النجاح، ولا أعتقد ان اسلاميي اليوم سيوفقون في ما لم يوفق فيه اسلافهم. فمن العسف المماهاة بين التنظيمات والمؤسسات المستقلة عن الدولة في التاريخ العربي الاسلامي وبين المجتمع المدني الديموقراطي، او اعتبار دستور المدينة عقداً اجتماعياً بالمعنى الحديث. ومن العسف كذلك الحديث عن تقدم مفهوم حقوق الانسان في النظام الاسلامي على النظام الديموقراطي، اذ ان المنطلقات مختلفة بين منظومة حقوقية اساسها الشرع، وتعتبر هذه الحقوق منحة من الله، واخرى منطلقها الحق الطبيعي المرتبط بذاتية الانسان من الناحية الطبيعية.
ثمة اشكال كبير اذاً بين الاسلاميين والديموقراطية لا يمكن حله من دون الفصل بين المجالين الديني والسياسي، فهل الحركات الاسلامية الظافرة في وارد القبول بهذا الحل؟ ان تسميتها لنفسها بالاسلامية لا يؤهلها للسير في هذا الاتجاه، وقد اتخذت خيارها مسبقاً. ما يؤكد ان ثمة مخاضات عسيرة وطويلة في الطريق العربي الى الديموقراطية.
كرم الحلو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد