الإسلام الجديد والانتفاضات العربية

23-05-2011

الإسلام الجديد والانتفاضات العربية

رغم تعدد القراءات السياسية للحراك الثوري منذ صدمة الوعي التونسية، التي حولت العالم العربي الى ربيع حيوي لم يتوقعه الكثيرون، ثمة مؤشرات دالّة تكشف عن معطيات جديدة أتت من رحم الانتفاضات. وإذا كان الجيل الشبابي بكل أطيافه وطبقاته لم يرفع طوال المرحلة الماضية شعارات ايديولوجية باعتبار أن الحرية والديموقراطية والتنمية شكلت المدماك الأساسي لمطالبه، لكن يبدو أن تيارات الإسلام السياسي بدأت تتلمس هي الأخرى ارهاصات التحولات التاريخية، وتأتي مشاركتها في «الثورة العربية» إذا جاز التعبير تحديداً في الأنموذجين المصري والتونسي، والتي تبعها إعلان حركة الاخوان المسلمين في مصر عن تأسيس حزب الحرية والعدالة ذو الطابع المدني، لتبرهن عن انتقال تراكمي أو تحول في مزاج الإسلام الحركي، أي ذلك الإسلام الجديد الساعي للتدرج نحو الحداثة، عبر التماهي مع تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا.
في السابق، أغدق الاسلامويون علينا بمفاهيم ايديولوجية/ دينية تتمحور حول الحاكمية وجاهلية العالم ومحاربة الطاغوت. هذه الحقبة التي دخلت في ذروتها في سبعينات القرن الماضي وما بعدها، يبدو أنها بفعل التجربة المريرة لم تعد من أولويات الإسلام الحركي، تحديداً لدى فروع الاخوانية. وقبل انفجار ربيع العرب أجرى بعض منظري الحركات الإسلامية مراجعات قيل عنها الكثير، ولعل المراجعة التي قامت بها الجماعة الإسلامية في مصر منتصف التسعينات، تدل على تطور في الوعي الإسلاموي، لكن الأهم ما قامت به حركة الاخوان في بلاد الكنانة، فهل يعني ذلك أنها تتجه الى الأسلوب الواقعي؟ حين تطالب الاخوانية المصرية مع ثوار بالديمقراطية والحرية والعدالة، فإن هذا المعطى يؤشر الى عدة مفهومية مفارقة للخطاب السياسي القديم، دون أن يعني ذلك التخلي عن تطبيق الشريعة الإسلامية.
الإسلام الحركي العربي يحاول اليوم التماهي مع الإسلام التركي، بطرق مختلفة، ويأتي نجاح حزب العدالة والتنمية كعامل مساعد لدعم هذا التوجه، ولعل البراغماتية الاخوانية التي اكتسبتها بسبب صدامها مع السلطة، أعطتها دروساً عززته عوامل مختلفة أهمها: العنف لا ينتج إلاّ عنف السلطة، وأن الجمهور الإسلامي ما عادت تغريه كثيراً خلاصات الإسلامويين، وهذا لا يدل على قطع الوعي المجتمعي مع الدين، وإنما يسعى هذا الوعي الى الأخذ من الحداثة ما يناسبه.
الحديث عن مآلات الإسلام الجديد يحتاج لفترات طويلة كي ينضج، غير أن فترة الانتظار لا تمنع محاولة إستقراء الشروط المولدة لهذا التحول. ثمة شرط جوهري لا يلحظه الباحثون، يتمثل في انفتاح المسلمين على عوالم مختلفة عن منظومتهم القيمية؛ تكنولوجيا المعلومات أحدثت صدمة تراكمية في الوعي أدت الى تلق تراكمي لسياقات الحداثة التي طالت البنى المادية، تحديداً في المجال الاقتصادي الذي يشهد انبعاثه في مدن عربية مختلفة؛ التحديث هذه المرة يُستمد من الاقتصاد والسوق الحر، وليس من المجال السياسي، الذي خيضت حوله حروب استنزاف طويلة. وفي هذا السياق خلص المفكر الفرنسي جاك أتالي الى نظرية مهمة قوامها «الانخراط في نظام السوق يؤدي الى ولادة الديموقراطية»، وبصرف النظر عمّا تمثله إمارة دُبي من مثال صارخ عن المدينة المفتوحة على العولمة، والتي سبق أن درسها الباحث الاميركي ذو الأصول الايرانية وليّ نصر في أطروحته العلمية «صعود قوى الثورة/ نهضة الطبقة الوسطى في العالم العربي وانعكاساتها على عالمنا»، لا بد من التدليل على أهمية الشروط المكتسبة من العولمة لجهة التطورات التي أحدثتها على مستوى الوعي العربي، في الاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات، بما يمثلان من عربة تعمل على نقل الأفكار وتداولها، وإن ببطء شديد، وذات مرة تأمل مفكر في القرن التاسع عشر القاطرة البخارية فقال: «هذه الألة ستهدم المجتمع القديم فهي أكبر ناقل للأفكار».
بالعودة الى ولي نصر صاحب «صحوة الشيعة» يمكن إيجاز فرضيته في الكتاب المشار اليه سابقاً على النحو الآتي: «العلاقة بين الطبقة الوسطى في العالم العربي والسوق الحر ستؤثر في الثقافة والدين، ما يعني أن انبعاث السوق الحر سيفتح الطريق لهزيمة التطرف وتحقيق التحرر المجتمعي». والحال أين هو الإسلام الجديد من العولمة والسوق الحر؟ يرى نصر أن التدين الشائع في أوساط الطبقة الوسطى ما هو إلاَّ أسلوب تسلكه المجتمعات الاسلامية لتحقيق الاندماج... وهذه المجتمعات تستهلك الإسلام بمقدار ما تمارسه، أي أنها تسعى لتقبل الحداثة بالشروط الإسلامية، وعلى هذه القاعدة يعمل نصر على دراسة أنموذج الإسلام التركي، وفقاً لمعايير ارتباط حزب العدالة والتنمية بالطبقة الوسطى، التي تبدي بعض التدين، إلاّ أن تدينها يدعم ارتباطاتها بالاقتصاد العالمي، وبالتالي الاسلام الجديد في تركيا هو نتاج للرأسمالية والعولمة والتجارة.
خلال انفجار الحراك الثوري طرحت سيناريوهات عن مستقبل العالم العربي، فريق رأى أننا قادمون على إسلام راديكالي، وآخر رأى أن الطبقة السياسية الجديدة ستحسم خيارها نحو الإسلام التركي المعدّل، وبين هذا وذاك يبدو أن الإسلام العربي ستتسع احتمالاته على التعددية، دون الخوض في تجارب العنف والعنف المضاد الذي اختبرته الحركات الإسلامية. ويبدو أيضاً أن الجيل الشبابي أو الفاعل الرقمي كما يسميه علي حرب ما عادت تؤثر فيه لوثة الايديولوجيا، وإذا كان العكس كيف تفسر مطالب هؤلاء الثوار الجدد؟ لا شك في أن مآلات الانتفاضات أو الثورات العربية تحتاج الى فترات زمنية لمعرفة نتائجها على المستوى السياسي والثقافي والمجتمعي، لكن ما يمكن الاشارة اليه أن العولمة بآلاتها ستمارس استراتيجة الحفر من زاوية البنى المادية، ما يساهم في النظرة الى الإسلام والثقافة والمجتمع من زاوية أشد انفتاحاً، بفعل السوق الحر.
ما يحدث في العالم العربي تطور جسيم في تاريخنا المعاصر، ولا يمكن الحسم بأفول الإسلام الراديكالي وإلاّ ما معنى الظهور الكثيف للحركات السلفية، التي من المرجح أنها ستتجه نحو تطبيق الشريعة والتخلي عن المشروع السياسي. الإسلام الجديد الناهض من الانتفاضات، إسلام متعدد، ونحن في انتظار ما ستؤول اليه الحركة الاخوانية المصرية، والأهم من كل ذلك أن المسلمين والعرب يعملون على بناء حداثة خاصة بهم ستأتي هذه المرة من العولمة وتكنولوجيا المعلومات.

ريتا فرج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...