إلتهاب الدماغ الحماية باللقاح
دب التعب في جسده، وبدأ يعاني من الحمى، والصداع، ومن آلام في المفاصل، ومن النعاس والخمول. ظن أن معاناته سببها الرشح أو داء الأنفلونزا، وهي حكماً سترحل في غضون أيام قليلة بعلاج أو من دون علاج.
ولم تمض ساعات قليلة حتى تدهورت حالته العامة، فصار يشكو من عوارض شتى: غثيان، تقيؤ، واضطرابات سلوكية وشخصية، واختلاجات، ورجفان، واختلاطات ذهنية، وهلوسة، وازدواج الرؤية، وعدم القدرة على التحكم في الحركات الإرادية، وضعف الإحساس في بعض مناطق الجسم، وعدم القدرة على النطق، وخوف من الضياء، وتدهور الوعي، وتيبس في الرقبة.
أمام هذه الصورة، نُقل المصاب على عجل إلى أقرب مستشفى، وبعد إجراء الفحوص الضرورية له، خصوصاً الشعاعية والمخبرية، اتضح أنه يعاني من التهاب في الدماغ.
التهاب الدماغ يمكن أن يحصل في كل الأعمار، إلا أن هوايته المفضلة ضرب فئات أكثر من غيرها، هي: الأطفال دون الثامنة من العمر، والكبار الذين تخطوا سن الخامسة والخمسين، ويمكن الالتهاب أن يكون فردياً أو وبائياً، أي يضرب أعداداً كبيرة من الأشخاص.
ويكون التهاب الدماغ إما أولياً، أي أن العامل المسبب يضرب المخ مباشرة، أو ثانوياً، أي أن العامل المتهم يهاجم عضواً في الجسم ليحط رحاله لاحقاً في الدماغ. والعامل المتهم في قضية التهاب الدماغ غالباً ما يكون من جماعة الفيروسات، غير أن في مقدور الجراثيم والطفيليات والفطريات أن تغزو دهاليز الدماغ ولكنها حالات نادرة نوعاً ما.
وفي الحالة الطبيعية يكون المخ محمياً من الهجمات الميكروبية لوجود حواجز دموية دماغية تصفّي الدم من العوامل الغريبة وتمنعها من الوصول إلى أنسجة المخ، ولكن في بعض الأحيان تستطيع الميكروبات، خصوصاً الفيروسات، اختراق تلك الحواجز لتصل إلى عقر دار المخ فتعمل في خلاياه هدماً وتخريباً في حال تركها تشتغل على هواها.
ويمكن طائفة من الفيروسات ان تسبب التهاب الدماغ، ومن أهم الفيروسات المسؤولة عن هذا الالتهاب: فيروس الهربس، وفيروس داء الكلب، وفيروس غرب النيل. ويمكن الفيروسات التي تسبب بعض أمراض الطفولة مثل الحصبة، والحصبة الالمانية، وداء الغدة النكافية (أبو كعيب) أن تسبب هي الأخرى التهاب الدماغ. ويمكن بعض الفيروسات الموجودة في دم الخيول والطيور أن تجد دربها إلى الإنسان من طريق قرص الحشرات مؤدية إلى الإصابة بالتهاب الدماغ. أيضاً يمكن فيروس الأيدز أن ينتهي بالتهاب الدماغ.
وفي شكل عام يطاول التهاب الدماغ قشرة المخ، والمادة البيضاء، والعقد القاعدية، وجذع المخ. ويتباين توزع الآفات بحسب الفيروس المسبب، فمثلاً في فيروس الهربس تتركز الإصابة الالتهابية في الفصين الصدغيين من المخ.
كيف يشخّص التهاب الدماغ؟
يجب تمييز التهاب الدماغ من التهاب السحايا والأمراض العصبية الأخرى لأن طرق العلاج تختلف. ومن أهم الفحوص التي تجرى للمريض من أجل التشخيص:
1- تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي والطبقي المحوري، وهذا الفحص يتم قبل إجراء فحص البزل لأخذ عينة من سائل النخاع الشوكي بهدف أي ارتفاع في الضغط داخل القحف، ففي حال وجود الأخير لا يجرى فحص البزل.
2- فحص السائل الدماغي الشوكي، ويهدف في الدرجة الأولى إلى كشف هوية نوع الفيروس المسبب، وهذا له فائدة كبيرة في توجيه العلاج الوجهة الصحيحة.
3- تخطيط الدماغ الكهربائي لتسجيل التبدلات في نشاط المخ، ويكون التخطيط شاذاً في المراحل الباكرة من التهاب الدماغ، خصوصاً في حال كان فيروس الهربس هو السبب.
4- فحص الدم.
5- فحص خزعة من الدماغ في حال فشل التحريات السابقة من أجل تحري هوية الفيروس فيها، خصوصاً فيروس الهربس.
كيف تتم معالجة التهاب الدماغ؟
في حال التهاب السحايا البسيط يعتمد العلاج على الراحة والحمية، وإعطاء العقاقير الخافضة للحرارة والمضادة للصداع.
أما في الحالات الشديدة، فلا بد للمريض من دخول المستشفى، وقد يلزم إعطاء مضادات للفيروس، وأدوية خاصة بالاختلاطات.
إن الغالبية العظمى من المصابين بالتهاب الدماغ الناتج من فيروس كاليفورنيا، وفيروس ابشتاين بار، والفيروس الخيلي الفنزويلي، يشفون تماماً من المرض من دون مضاعفات مهمة. في المقابل، فإن التهاب الدماغ الذي يسببه فيروس الهربس والفيروس الخيلي الشرقي قد يترك اصابات مستديمة.
وإذا ثارت شكوك بالتهاب الدماغ بفيروس الهربس، حتى قبل تأكيد وجوده مخبرياً، فيوصى بتناول مضاد الفيروس الأسيكلوفير بأقصى سرعة، من أجل منع تكاثر الفيروس والحد من انتشاره في خلايا الدماغ، ويتم وقفه في حال سلبية الاختبارات. أما إذا كانت النتائج إيجابية فيستمر في زرق العقار وريدياً لمدة 2 الى 3 أسابيع. إن نسبة الوفاة عالية في التهاب الدماغ الناتج من فيروس الهربس على رغم العلاج المثالي، كما أن هناك نسبة لا بأس بها قد تصاب بعقابيل تلازم أصحابها طوال حياتهم مثل داء الصرع، والتخلف العقلي.
وتوصف عادة الستيروئيدات القشرية من أجل التخفيف من تورم الدماغ ومن ارتفاع الضغط داخل القحف. وغالباً ما تكون المعالجة بمضادات الاختلاج ضرورية.
هل تمكن الوقاية من التهاب الدماغ؟
إن اللقاحات ضد مرض الحصبة والحصبة الألمانية، وداء الغدة النكفية تسمح بالحماية من التهاب الدماغ الناتج من الفيروسات المسببة له. أما التهاب الدماغ الياباني الناتج من لدغة البعوض، فهناك لقاح متوافر يحمي منه، وهو يطبّق على نطاق واسع في اليابان. أما فيروس غرب النيل فيوجد لقاح لتطعيم الخيول ولكنه غير صالح للبشر.
ويمكن بعض الإجراءات البسيطة الحماية من التهاب الدماغ الناجم عن عقص البعوض في الأمكنة الموبوءة، وتشمل:
> تفادي المناطق التي يكثر فيها البعوض.
> استعمال طاردات الحشرات التي توضع على اللباس والمواقع المكشوفة من الجلد، وطبعاً لا يجوز استعمالها عند الأطفال دون السنتين من العمر.
> استعمال الناموسية وإغلاق النوافذ والأبواب بإحكام لمنع دخول البعوض.
> ارتداء الألبسة التي تغطي أكبر مساحة من الجلد.
ختاماً، تبقى نقطتان، الأولى هي ضرورة تقديم العون الطبي الفوري لمن يشكو من التهاب الدماغ لأن مسيرته قد تفضي الى مضاعفات خطيرة للغاية مثل تلف الدماغ، وفقدان الذاكرة، وخلل في السلوك والشخصية، والشلل، وخلل في النطق، والاضطرابات السمعية البصرية وغيرها... ويزداد معدل وقوع هذه المضاعفات إذا كان المريض في حال الغيبوبة أو كان عمره فوق الستين.
والنقطة الثانية، أن العوارض والعلامات التي أشرنا إليها أعلاه لالتهاب الدماغ نشاهدها عند الأطفال الرضّع في شكل واضح، وفي شكل عام يمكن القول إن المظاهر الآتية يجب ان توجه الشك بقوة صوب وجود التهاب الدماغ:
> انتفاج اليوافيخ (فتحات في الجمجمة عند الوليد تنغلق لاحقاً).
> البكاء الشديد للرضيع بحيث تصعب تهدئته.
> صلابة النقرة وتصلب الجسم في شكل عام.
> التقيؤات.
د. أنور نعمة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد