منازل المستقبل... ذكية
قرب مدينة «سياتل» الأميركية، ثمة ضاحية يعرفها الأهلون جيداً: إنها «ريدموند»، حيث المقر الأساسي لشركة «مايكروسوفت». لا يدخل ذلك المجمع الضخم إلا العاملون فيه، أو من يملكون إذناً للزيارة. يُنظر إلى قسم «البحوث والتطوير» في الشركة باعتباره تجمعاً لأصحاب الأدمغة «المشتعلة» التي لا تطيق أن تفكر بالطرق التقليدية. وفي ذلك القسم، تصبح أشد الأفكار غرائبية شيئاً «مبتذلاً» وعادياً وشائعاً. لنقل إن أحداً خرج بفكرة «ضخمة» تقول إنه يمكن للكومبيوتر المحمول باليد أن يصبح قادراً على صنع المؤثرات البصرية والصوتية المتطورة للأفلام، مثل تحويل صورة لمنزل ريفي إلى شريط عن الحياة اليومية في الشتاء، مع المطر المتهاطل والتماع البرق ودويّ الرعد وتدفّق الجداول؛ فستبدو تلك الفكرة مبتذلة لأن مختبر «بيجينغ» الذي يرتبط بالإنترنت مع هذا القسم قد أنجزها قبل بضع سنوات! يحتوي قسم «البحوث والتطوير» في مجمع «ريدموند» على جناح لا يكفّ عن التبدّل ويقصده الكثير من الزوار: إنه «البيت الذكي». وثمة منزل يشبهه على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، في «سيول» (عاصمة كوريا الجنوبية) تُشرف عليه شركة «سامسونغ» للإلكترونيات. وهناك ما يشبه تلك الأشياء في قسم متخصص بما يشار إليه باسم «الحوسبة الشاملة» في «معهد ماساشوستس للتقنية» في الولايات المتحدة. وعبر تلك النماذج وغيرها، يقدّم خبراء التكنولوجيا الرقمية ما يفترض أن يكون صورة لما ستصير إليه منازلنا مستقبلاً، وغالباً من منظور شركات الكومبيوتر والإنترنت. وتشترك تلك «المنازل الذكية» في أشياء كثيرة.
رغم الحرص على أن يبدو أثاث «منازل المستقبل» مألوفاً، وأحياناً مع لمسة كلاسيكية، لكنْ لا شيء فيها تنطبق عليه صفة المألوف. أجهزة المطبخ تدار بالكومبيوتر، الأصح القول إن كلاً منها يحتوي على كومبيوتر صغير «مدفون» في ثناياه. على باب البرّاد شاشة للحاسوب الموصول إلى الإنترنت. ويلتقط ذلك الكومبيوتر معلومات عن محتويات البرّاد، بفضل أشرطة إلكترونية مُشفّرة مثبتة في أشيائها. تسمى تلك الأشرطة بـ«لوح الشيفرة» (Bar Code)، وهي علامات إلكترونية تبث أشعة راديو شديدة الضآلة. وتتميّز «ألواح الشيفرة» في البرّاد بأنها متقدمة عن تلك التي نعرفها في المتاجر الكبرى. فثمة أنواع منها «تقيس» الكمية التي تنقص من السلعة (مثل زجاجة المشروبات الغازية أو قطعة اللحم أو الخضر والفواكه)، فإذا شارفت على الانتهاء، يرسل «لوح الشيفرة» رسالة قصيرة إلى كومبيوتر البرّاد، الذي يُعلم صاحب الدار بحال مخزوناته. ويمكن برمجة ذلك الكومبيوتر عينه، بحيث يتصل بالسوبر ماركت (بعبارة أدق، يتصل بكومبيوتر آخر في السوبر ماركت) ويُعدّ طلبية بالمشتريات المطلوبة. هناك أنواع متطورة من تلك الألواح، بحيث يمكن الكتابة عليها أيضاً. فمثلاً، إذا اشتريت مقعداً «ذكياً»؛ يُرسل إليه جهاز متخصص معلومات عنك تتضمن اسمك وعنوانك ورقم هاتفك، لتُضاف إلى المعلومات التي يحتويها «اللوح الذكي» أصلاً مثل السعر ونوعية الخشب والمصنع والمصدر والمستورد وغيرها.
رغم مظهرها البريء، فإن كل محتويات «المنزل الذكي» تضم أنواعاً متنوعة من تلك الأشرطة الإلكترونية المُشفّرة. وتنام تلك الألواح التي يرى فيها البعض تحدياً ضخماً لخصوصية الأفراد ولحقهم في الحفاظ على الحرية الشخصية، في كل ركن أو آلة من المنزل.
وثمة أنواع من الحواسيب متخصصة في التقاط موجات الراديو الواهية التي تصدر من تلك الألواح، وبالتالي قراءة ما تحمله من معلومات وتفاصيل. لنفترض أن لصاً دخل المنزل، فسيرشده ذلك النوع من الكومبيوتر إلى «ما خف حمله وغلا ثمنه». كما يستطيع ضابط الشرطة أن يتعرف إلى محتويات المنزل كلها، مع تفاصيل تامة عنها تتضمن عمليات بيعها وشرائها ونقلها من مشتر إلى آخر، بمجرد دخوله إلى المنزل، وستتمكن سيارة الشرطة، في زمن لم يعد بعيداً، من التعرّف إلى محتويات المنازل بمجرد مرورها في الشارع. ويعني ذلك أن الدولة ترى أفرادها وتفاصيل حياتهم ودواخل بيوتهم، ومن دون إذن منهم، وعلى مدار الساعة. وبديهي القول إن ذلك يعطي أجهزة الدولة سلطات وسطوات أكثر هولاً مما تحوزه راهناً، ما يعني تضاؤلاً مستمراً للحريات الشخصية والفردية والعامة. إنها صورة أشد هولاً مما تخيّله الروائي الإنكليزي الراحل جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984»، حيث «الأخ الأكبر» يُطل على الناس عبر شاشات مثبتة في منازلهم ولا يجرؤون على إطفائها. إنه «الأخ الأكبر» وقد بات قادراً على مشاهدة ما يدور في دواخل البيوت وخلف الجدران وفي خبايا الخزانات وأسرّة النوم وحتى الملابس والمأكولات والأثاث.
غني عن القول إن «المنزل الذكي» يحتوي على كومبيوتر مركزي (مع أجهزة مُلحقة به) يديره، ويتخاطب مع الأجهزة الإلكترونية التي يضمها، بما فيها تلك التي تتولى أمر الترفيه.
غسان رزق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد