الثورة والفتنة في تجارب التاريخ العربي - الإسلامي

09-02-2008

الثورة والفتنة في تجارب التاريخ العربي - الإسلامي

لم يكد العنف يبارح السياسة في التاريخ العربي المعاصر، تلازما طويلاً حتى كادت السياسة لا تُعرف إلا به أو بما هي عنف. ومرد ذلك انها ما قامت في الحياة العربية المعاصرة على القواعد التي عليها تقوم في المجتمعات الحديثة، وما تأسست على أخلاقية تنافسية سلمية. عرفنا أنواع التسلط السياسي كافة في الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد العربية منذ الاستقلال، وعرفنا في مقابلها، وبموازاتها، أنواع حركات العنف السياسي كافة منذ عشرينات القرن الماضي. ولكنّنا ما عرفنا حياة سياسية مستقرة وخالية من العنف إلا لماماً!

الذين وصلوا الى السلطة، منذ نهاية الحقبة «الليبرالية» وصلوها بالعنف (الانقلاب العسكري). والذين احتفظوا بها، فعلوا ذلك بالعنف. أما الذين ناصبوهم العداء والاعتراض وتطلعوا الى إسقاطهم، فامتشقوا أفكار العنف وأحياناً أدواته.

تلك حقبة من الصراع قابلة للوصف والتحليل بمفردات السياسة حتى وإن كانت السياسة فيها ضامرة أو ملتبسة الملامح. أما اليوم، فنشهد فصولاً أخرى من الصراع تتحول فيها خريطة القوى والمعارك والمتاريس والمفردات. لم يعد الصراع صراعاً بين السلطة والمجتمع (أو من يدّعي النطق باسم المجتمع)، أو صراعاً داخل المجتمع السياسي بين قواه المختلفة، أصبح صراعاً داخل المجتمع الوطني برمته: بين الأهل والأهل. توسّعت ساحته فشملت الأحياء والحارات والنفوس! إنها الفتنة: الحرب التي لا تنتهي إلا بعد ان ينتهي ما بين الناس من روابط تجمعهم على هوية عليا تعلو على القرابة والحلف (بالمعنى القبلي القديم) والعصبية والجوار. الفتنة هي اليوم الاسم الحركي للسياسة بعد ان انحط معناها وانهار مبناها. ولها في ديار العرب والمسلمين تاريخ.

الفتنة مصطلح اسلامي نحته الفقهاء والأخباريون والمؤرخون لوصف حالة أو حالات تاريخية وقع فيها الانشقاق داخل جماعة المسلمين وتفاعلت وقائعه ومعطياته فقادت الى الاقتتال الداخلي. من المسلّم به ان المصطلح لم يكن مستحدثاً حين استُعمل لوصف ما جرى من وقائع، وإنما عرفه المسلمون طويلاً لوروده في غير آية من القرآن الكريم. غير ان استدعاءه في ظروف خاصة عاشتها الجماعة الإسلامية أعاد تضمينه بمعان مستحدثة هي من صميم تجربة الانقسام والانشقاق والاقتتال. فإذا كان معنى الفتنة القرآني عاماً، ولا يشير إلا الى سوابق أمم أخرى لم تُدرك (سوابقها) بالمعاينة وإنما بالخبر عنها (وهو ما يعني خلو وعي المسلمين من مثال واقعي يقاس عليه لفظ الفتنة)، فإن المسلمين ما لبثوا ان أطلقوا لفظ الفتنة توصيفاً لما وقع لهم من انقسام ومواجهات لمناسبة التمرد على سلطان الخليفة عثمان واغتياله. ومن ذلك الحين، اقترن معنى الفتنة بإسقاط وحدة الجماعة الداخلية وإشعال فتيل الحرب الداخلية فيها.

استُعملت بالموازاة مفردات أخرى لوصف ما جرى من استنفار في الأمصار ضد الخليفة، ومن حصار له في داره، ومن اقتحام ثم قتل، ومن تسيّب في المدينة قبل بيعة علي، من قبيل التمرد والثورة، ثم زيد عليها لفظ الخروج بعد التحكيم، عقب وقعة صفّين، وما نجم عنه من انشقاق في صفوف الإمام علي، وما لبث الفقه الإسلامي ان أدخل مفردات أخرى لتعيين أنماط من التمرد على سلطان الدولة والجماعة – كما تدلنا على ذلك أحكام البُغاة – غير ان اصطلاح الفتنة كان أبقى وأظهر في تآليف القدامى، وقام حوله تراث كبير من النصوص التعريفية والتأهيلية. والأهم ان معانيه تكرّست في الخيال الجمعي للمسلمين بوصفه رديفاً لما يُفقد الجماعة كيانها، أي وجودها كجماعة.

ما الذي فَرَضَ ان يكون مفهوم الفتنة أظهر في الاستعمال الإسلامي من مفاهيم أخرى تتقاطع معه في المعنى، حداً ما من التقاطع، مثل الثورة والعصيان والتمرد والخروج والمعصية وسوى ذلك من المتشابهات؟ هل هو اصطلاح ديني، سياسي؟

من النافل القول، إن البحث في هذه الأسئلة يقتضي مقاماً آخر غير هذا الذي نحن فيه. غير ان بعض التمييز بين تلك الاصطلاحات سيكون ضرورياً من اجل جلاء معنى الفتنة وحصره دون تداخله مع غيره مما قد يكون بينهما من شبهة اشتراك. وهو ضروري ايضاً لفهم الأسباب التي فرضت هيمنة هذا المفهوم في رؤية القدماء – والمحدثين – لحوادث وظواهر في تاريخ المجتمع الإسلامي، والأسباب التي قضت بأن يكتسب لفظ الفتنة في الأذهان تلك المعاني المختلفة التي تبعث على الشعور بالنفور والرفض لدى الجماعة أو لدى المؤمنين بفكرة الجماعة في تاريخ الإسلام: قديماً وحديثاً.

ربما تداخل معنى الفتنة مع معنى الثورة، أو مع معنى التمرد والعصيان من حيث هي جميعاً ترادف معنى نقض النظام والخروج عليه – وبالتالي – وضعه في حال تأزم.

غير ان الجامع بينها في الدلالة العامة ليس بهدر ما بينها من فروق وتمايزات. فقد تكون ثورة – أو تمرد – مبدأ فتنة والمقدمة التاريخية والسياسية لها. ولكن، ما كل ثورة فتنة، وما كل فتنة ثورة سياسية إلا متى عنت الثورة السياسية نقضاً لنظام الجماعة السياسية برمّته لا لصعيد السلطة فيه فحسب. حدث – مثلاً – أن الفتنة في تاريخ الإسلام المبكّر بدأت بثورة: الثورة على سلطان الخليفة عثمان بن عفان، على سياساته التي صنعت جمهوراً عريضاً من المعارضين يمتد من مصر الى المدينة مروراً بالكوفة والبصرة، غير أن هذه الثورة – وهي سياسية – كان يمكن أن تظل ثورة، أي أن تظل فعلاً سياسياً محصوراً في نطاق معالجة حال من الخلل في السلطة (= الخلافة) على ما بدا ذلك للثوار الزاحفين على مركز الدولة (= المدينة) من الأمصار. غير انها – بعد مقتل الخليفة مباشرة – خرجت عن نطاق كونها محض ثورة لتصير فتنة، أي لتوَلّد حالاً من الانشقاق الداخلي في صفوف الجماعة الإسلامية لا سابق لها منذ تكوّن هذه الجماعة كجماعة اعتقادية وكجماعة سياسية، ثم لكي تنتج تلك الحال من الانشقاق مسلسلاً متصلاً من الحروب الداخلية (الجمل، صفّين، النهروان، وصولاً الى مذبحة كربلاء).

يمكن للمرء أن يستشهد – على سبيل التمييز بين الفتنة والثورة او التمرد أو العصيان – بسوابق عدة في تاريخ الإسلام شهدنا فيها أشكالاً مختلفة من الانتفاض المسلح على السلطة (من مجموعات خارجة عليها) من دون أن يُفضي ذلك الى إشعال فتنة داخلية. ومن البَيّن أن السبب في عدم صيرورة تلك الثورات والتمردات الى فتن ليس فشلها في بلوغ ما رامَتْه من مقاصد وأهداف سياسية، أو نجاح السلطة في إخمادها أو في إجهاض أهدافها، وإنما في طبيعتها كفاعلية سياسية لا تحمل في جوفها بالضرورة إمكان تلك الصيرورة الى فتن. لا تتحول الثورة الى فتنة إلا متى فاضت عن نطاقها السياسي الحصري (= تغيير السلطة السياسية) فأحدثت استقطاباً اجتماعياً داخلياً تتفاعل معطياته وحوادثه الى حيث يترجم نفسه في صورة اقتتال أهلي: وهو عين ما حصل تاريخياً في تجارب الفتنة.

لا ينبغي أن يُفهَم من ذلك أن الثورة ظاهرة سياسية والفتنة ظاهرة دينية. وللدقة إذا كان يمكن حسبان الثورة ظاهرة سياسية – وإنها كذلك – فلا يجوز حسبان الفتنة حالة دينية لأن اعتبارها كذلك يرادف بينها وبين المعصية بما يتضمنه معناها من حمولة دينية. وقد يصح النظر الى الفتنة كمعصية لاشتراكهما في معنى الخروج عن التعاليم وعن المشهور من أحكام الدين الداعي الى التزام الطاعة لله ولـ «أولي الأمر»، لكنه تقاطع عارض ينتهي عند حدود الافتراق بين مجال الديني ومجال السياسي. وعليه، فالفتنة كالثورة والعصيان والتمرد – ظاهرة سياسية في المقام الأول، لكنها أشمل منها، لأنها لا تتعلق بالمجال الحصري للسياسة (أي الدولة والسلطة)، وإنما بمجال الاجتماع السياسي العام: مجال الأمة والجماعة (= الجماعة السياسية). الثورة حالة من حالات التمرد والخروج على النظام السياسي. وهي – لذلك – قد تجد من يناصرها بمقدار ما تجد مَنْ تحيّده تحييداً في معركتها. أما الفتنة، فخروج على وحدة الجماعة والأمة وتماسكها وإعمال للتقسيم في كيانها. وهي – لذلك السبب – لا تحيّد أحداً ولا توفّره في معركتها. في الثورة ثمة صراع سياسي او مسلح بين حاكمين ومحكومين. في الفتنة، يجري الصراع بين المحكومين أنفسهم. الثورة تمزق الدولة والسلطة، أما الفتنة، فتمزق الأمة والجماعة.

في لغة اليوم، لا يمكن ترجمة لفظ الفتنة إلا بلفظ الحرب الأهلية. ليس عملاً بسنَّة التقليد الاستشراقي في وصفها، وليس لأن منسوب الديني تراجع في حروب اليوم الداخلية، بل لأن الفتنة كانت بهذا المعنى منذ ابتدأت.

عبد الإله بلقزيز

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...