تقنية جديدة لرفع كفاءة بطاريات الليثيوم-كبريت
في الساحة الداخلية لجامعة "بافيا" الإيطالية، يقف بشموخ تمثال مهيب لرجل يبدو في أواخر عقده السابع، يُمسك بإحدى يديه جهازًا أسطواني الشكل، باسطًا يده الأخرى في تعبير عن التساؤل، فأما الرجل فهو العالم الشهير "أليساندرو فولتا"، وأما الجهاز فهو أحد ابتكاراته الشهيرة المُسماة بـ"مولد الكهرباء الساكنة" Electrophorus، وأما يده المبسوطة فتشير إلى تعبيره المفضل.. "ماذا بعد"؟
في المكان ذاته الذى ينتصب فيه التمثال المهيب، وقف "فولتا" بشحمه ولحمه في العام الأخير من القرن الثامن عشر، مُعلنًا ابتكاره أول بطارية كيميائية، عُرفت وقتها باسم الخلية الفولتية، تتكون من صفيحتين من معدنين مختلفين مغمورين في محلول كيميائي، كان ذلك الابتكار إيذانًا بعهد جديد يُستخدم فيه لأول مرة مصدر مستمر ومتكرر للتيار الكهربي.
ومنذ عام 1799 وحتى الآن، تعتمد البطاريات على المبدأ الأساسي ذاته الذي أقره "فولتا"، معدنين مختلفين وإلكتروليت فاصل بينهما، تتغير المعادن، ويتغير نوع السائل الفاصل، ويبقى المبدأ أساسًا لتطوير تلك الصناعة التي أصبحنا نعتمد عليها اعتمادًا كاملًا في حياتنا اليومية؛ إذ تُشكل البطاريات وسيلة إمداد هواتفنا المحمولة -على سبيل المثال- بالطاقة المطلوبة.
بطارية ذات سعة أكبر
لكن، ورغم وصول البطاريات إلى سعات كبيرة، تستلزم السرعات الهائلة والمعالجات الجبارة التى توضع في الأجهزة الالكترونية الحديثة بطاريات ذات سعات أكبر وأكبر، وذات قدرة أسرع على الشحن، مع عمر افتراضي أكبر، لذا يُحاول الباحثون يومًا بعد يوم تطوير أو استخدام مواد جديدة في صناعة البطاريات.
ومن ذلك، استقطاب بطاريات "الليثيوم- كبريت" لاهتمام العلماء في الآونة الأخيرة، بعد أن وصلت بطاريات "الليثيوم أيون" إلى السعة القصوى لها تقريبًا، وبعد أن غدت أسعارها في تزايد يومًا بعد يوم، وبعد أن أصبحت أيضًا مصدر خطر نتيجة احتمالية انفجارها في أى وقت.
اقترح الكيميائيون استخدام عنصر الكبريت في البطاريات كقطب كهربي لأول مرة في ستينيات القرن الماضي، لكونه رخيص الثمن، وذا وفرة عالية في الطبيعة، ومنخفضًا في بصمته البيئية.
ومن وقتها وإلى الآن، يُجاهد العلماء لحل المشكلات المتعلقة باستخدامه، فالكبريت في الأساس غير موصل للتيار الكهربي، كما أنه سريع التشتت داخل البطارية، بمعنى أنه ينتقل بسرعة من القطب الموجب عبر الغشاء المسامي المرن الفاصل بين الكاثود والأنود، متسربًا وصولًا لعنصر الليثيوم، وهو ما يُسبب تلف البطارية بعد وقت قليل جدًّا من تشغيلها.
تغلَّب العلماء بالفعل على المشكلة الأولى، عبر دمج مجموعة من المواد عالية التوصيلية الكهربائية، كأنابيب الكربون النانوية أو الجرافين مع عنصر الكبريت في أثناء تصنيعه، أما المشكلة الثانية، فقد تمكَّن فريق بحثي مصري- هندي مشترك من إيجاد طريقة قد تُسهم في التغلب عليها.
فوفق ورقة بحثية نُشرت في دورية "جورنال أوف ماتريال كيمستري إيه"، تمكَّن الباحثون من تطوير بعض المواد التى يُمكن استخدامها كحائل بين القطب الموجب والسالب، بحيث تمنع تشتُّت الكبريت وتحافظ على سلامة البطارية لمدة طويلة.
استخدم الباحثون مادة عضوية معدنية تُشكل هيكلاً مساميًّا للحيلولة دون مرور الكبريت ولمنع تشتُّته، تُعرف تلك المواد باسم Metal Organic framework، وهي مجموعة واسعة من المواد تتميز بأن لها مساحة سطح عالية جدًّا، وتتمتع بقابليتها لتغيُّر خواصها الفيزيائية، لكونها خليطًا من أيونات معدنية لعنصر فلزي، ومركب عضوي.
تكوِّن تلك المواد شبكة بلورية مُرتبة ثلاثية الأبعاد، ولها ثلاث زوائد أو أطراف، تقوم تلك الأطراف بالارتباط بالعنصر مانعةً مروره خلالها، وهو الأمر الذي يمنع تمامًا مرور الكبريت إلى القطب الموجب.
ووفق "محمد حسن" الباحث في الدراسة فإن تلك الشبكة أسهمت في منع فقد الطاقة ومنع تسرُّب الطاقة المخزنة ذاتيًّا، وتبعا لذلك زاد العمر الكلي لبطارية الليثيوم كبريت.
استخدم الباحثون عنصر "الزركونيوم Zr" الفلزي، أما المركب العضوي فهو خليط من السيليكا وحمض الأمينوتيريفيثاليك 2-aminoterephthalic acid ، ثم مزجوها مع نوع من أنواع البوليمرات وطلاء الغشاء المسامي بها، والانتظار لمدة ساعتين حتى الجفاف.
"كانت النتيجة مبهرة" يقول "حسن" في تصريحات خاصة لـ"للعلم"، مشيرًا إلى أن الغشاء الجديد "منع تشتت الكبريت بشكل كامل؛ إذ أصبحت البطارية قادرة على تخزين الطاقة بنسبة 98.5% لوقت يصل إلى 40 ساعة".
لماذا بطاريات الكبريت؟
في العام الماضي، تمكَّن باحثون من جامعة ستانفورد بالتعاون مع آخرين من جامعة ييل من تطوير غشاء فيلمي رقيق يُمكن استخدامه كحائل يمنع تشتت الكبريت، نشر الباحثون نتيجة عملهم في ورقة بحثية جاء فيها أن المادة المستخدمة مصنوعة من الجرافين بمتوسط سماكة تبلغ 90 نانومترًا، وقالوا إنها حسَّنت من أداء البطارية وأطالت عمر دوراتها، وحققت استقرارًا وتفريغًا منتظمًا للشحنة.
وتمكَّن فريق آخر قبل عدة أعوام من استخدام كتل من الكبريت محفوظة داخل أعمدة من أكسيد التيتانيوم لمنع التشتت. وقتها، تمكَّن ذلك الفريق البحثي من المحافظة على 70% من السعة التخزينية للبطارية بعد 1000 دورة شحن.
يقول "حسن" إن هناك العديد من الجهود التي تبذلها فرق متعددة حول العالم لحل مشكلة التشتت عبر إستراتيجيات مختلفة، وهي الخطوة التي من شأنها أن تجعل تلك البطاريات مُتاحة في المستقبل للاستخدام التجاري.
لكن.. ما الذي يدفعنا لاستخدام الكبريت في صناعة البطاريات؟ يقول "حسن" إن هناك عددًا من الأسباب، من ضمنها كثافة الطاقة؛ فقدرة الكبريت على تخزين الطاقة لكل وحدة "كبيرة"، وهذا يعني أن حجم البطارية سيكون صغيرًا مقارنة ببطارية مصنوعة من الليثيوم أيون لها الكفاءة نفسها.
"يُعد الكبريت من المنتجات الثانوية في صناعة البترول"، يؤكد "حسن"، الذي يشير إلى توافر المادة ورخص سعرها، وهو الأمر الذي سيحسِّن من اقتصاديات إنتاج البطارية ويقلل سعرها، مشددًا على أن هناك مشكلات تقنية في بطاريات الليثيوم- أيون التقليدية، من ضمنها وجود سائل داخلها يعمل بمنزلة الإلكتروليت، وهو ما قد يتسبب في انفجارها.
أما من الناحية البيئية، فتُعد بطاريات الليثيوم -كبريت صديقةً للبيئة، فبعد انتهاء عمرها الافتراضي يُمكن تفكيك البطارية إلى مكوناتها الأولية بنسبة 100%، وهو ما سيقلل من مشكلة عويصة تتعلق بالتخلص من البطاريات المصنعة من الليثيوم أيون.
يصف الباحث في قسم الكيمياء بجامعة كاليفورنيا "ماهر القاضي" –لم يُشارك في الدراسة- النتائج بـ"الجيدة"، مشيرًا إلى أن حل المشكلة المتعلقة بتشتت الكبريت "خطوة إلى الأمام في طريق الإنتاج التجاري لتلك البطاريات"، إلا أنه يعود ويؤكد أن خروج بطارية "الليثيوم-كبريت" إلى النور لا يزال أمامه الكثير والكثير من الوقت، مؤكدًا أن نتائج الورقة "تحتاج إلى المزيد من التقصي في المستقبل لإثباتها بشكل عملي".
إضافة تعليق جديد