«قصتها» ... نساء يصنعن مصيرهن
يقرّ البرنامج التلفزيوني البريطاني «قصتها» بحدوث تغيّر كبير في وضع المرأة خلال العقدين الأخيرين، إلى درجة يُوصف بـ «التاريخي»، لأنه لم يسبق لها أن تبوأت مراكز سياسية واقتصادية مهمة كما تشغلها اليوم وفي أكثر من مكان في العالم. ولأن دورها لا ينفصل عن التطور الموضوعي للمجتمعات فقد حاول معدو البرنامج في «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) رصد الموضوع من مستويات عدة؛ من وصول المرأة إلى أعلى مراكز اتخاذ القرار، كما في تجربتي الرئيستين الليتوانية داليا غرباوسكايتي والتشيلية ميشال باشليه.
فالأخيرة وقعت عليها مهمة إزالة الآثار التدميرية للانقلاب العسكري الفاشي، الذي شهدته البلاد أواسط سبعينات القرن العشرين، لقوة ارتباطها الشخصي به. فهي دخلت السياسة من بوابة العائلة، التي تكبدت وخسرت كثيراً بسبب معارضتها لحكم الجيش، فنُفيت خارج البلاد وحالما عادت من منفاها قررت إعادة رسم مسار جديد لتطورها، بعيداً من توجهات الأحزاب اليمينية، التي لم تقدم خلال عقود سوى الأزمات. ما واجهته وما حققته على أكثر من مستوى يعطي صورة عن قدرة المرأة اللاتينية على لعب دور مهم على رغم ما تواجهه من صعوبات وضغوطات إقليمية وخارجية وطبعاً قوى داخلية، اعتادت عسكرة البلاد وترفض بقوة القبول بتزعم امرأة، تنشد تغيير قواعد العمل بجرأة نادرة.
وليس بعيداً عن تجربتها تضع الرئيسة الليتوانية حداً لتاريخ طويل من السيطرة «السوفياتية»، ولأجلها يتوقف البرنامج طويلاً عند علاقتها بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكيف استطاعت بشجاعة فرض إرادتها عليه وإجباره على التعامل معها كسيدة تضع مصلحة بلادها وشعبها فوق كل المصالح.
على المستوى الأوروبي وقبل الانتقال إلى بقية القارات يقابل البرنامج وزيرة خارجية السويد ورئيسة صندوق النقد الدولي كريستن لاغارد. في تجربة ومواقف السويدية مارغوت فالستروم ما يشي بقوة حضور نسوي على مستوى السياسات الدولية ومحاولة تحسين مساراتها لمصلحة الشعوب والفئات الاجتماعية المحرومة من حقوقها وبخاصة المرأة.
أما على مستوى المواجهة والتحديات، فأخذ الوثائقي عينات تلخص تجارب منوعة لا يمكن رصدها كلها في برنامج واحد لهذا اكتفى بالمرور على بعضها سريعاً أو الإشارة إليها، لكنه اهتم في شكل خاص بالقصص الشديدة الالتصاق بما تعانيه مجتمعات آسيوية وأفريقية وتعيد إلى الذهن حقيقة أن ما يتحقق على المستوى السياسي لا يساويه على المستوى الاجتماعي، كما بينَّت تجربة النيجيرية بالكيسا تشايبو المعارضة لزواج الأطفال، انطلاقاً من تجربتها الشخصية القاسية، للعمل وبكل طاقتها على تصحيح النظرة الدونية للمرأة وانتهاك جسدها وكيانها بوسائل فعالة أهمها؛ التعليم والعمل.
في قصة صاحبة المشاريع الاقتصادية الهندية كرين مازومدار-شاو ما يستحق وفق تصور أصحاب البرنامج المعاينة. دراستها ونشأتها في بيت منفتح ساعدها على النجاح في الحقل التجاري، لتصبح اليوم واحدة من بين أهم الأسماء فيه، لكن مساهمتها الأهم تكمن كما تقول: «في البحث عن الإنساني في كل تجربة. فالنجاح المادي ليس كافياً لإرضاء الذات وقد برهنت تجربتي في تقديم المساعدات الطبية والعلاج المجاني للفقراء صواب تفكيري». وتبنت سيدة الأعمال الهندية مستوصفات ومستشفيات في عموم البلاد لكنها ركزت على تلك المختصة بعلاج السرطان، لعجز الفقراء عن تسديد تكاليفه وبخاصة النساء منهم، ولأن الأمراض عموماً تعيق تحرر ملايين الهنديات اقتصادياً.
ويقدم البرنامج أرقاماً على مؤشرات النمو في الدخل القومي وكيف لعبت النساء حين سمح لهن أكثر في دخول سوق العمل على رفعه إلى أكثر من 5 في المئة بالمقارنة بالفترة التي انحصر دورهن في البيوت أو الابتعاد عن العمل بسبب المرض.
على مستوى آخر تنبه البرازيلية الأصلية جونيا وابيخانا إلى الاضطهاد الذي يتعرض له الهنود الحمر وتحجيم دورهم في سوق العمل. فبعد تخرجها من كلية الحقوق، أصبحت أول هندية برازيلية تدافع عن مواطنيها في المحاكم، المقتصر العمل بها على غير الهنود! ويتوقف برنامج «قصتها» عند حدث مهم هز المجتمع البرازيلي حين هاجمت الشرطة مجمعات للسكان الأصليين عام 2008 وقتلت منهم المئات لخروجهم مطالبين بتحسين أوضاعهم الاقتصادية وحقهم في الحصول على فرص عمل مثل غيرهم. دفاعها عنهم، على رغم التهديدات وربحها القضية، جعل منها مثالاً للنساء المتعلمات الشجاعات، واللواتي حاولت مسرحية الممثلة والكاتبة الأميركية إيفا أنسلر تجسيدها. في مسرحيتها «مولوج فاجينا» حوارات داخلية مفعمة بالإيحاء بواقع المرأة في الولايات المتحدة ارتباطاً بالفوارق الطبقية والتمايز المجتمعي بين فئاته وهي جزء لا ينفصل منه، ما يشير، على رغم اختلاف درجة مستوى تطورها، إلى سوء حالها في بقية القارات وحاجتها إلى مزيد من العمل لتحسين أحوالها، على رغم ما حققته من نجاحات سجلها البرنامج في شكل لافت وموسع، لكن محصلته النهائية تقول؛ هناك آلاف من القصص المهمة عن دور المرأة وقدرتها على انتزاع حقوقها وترسيخ مواقعها جديرة بأن تروى.
قيس قاسم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد