فنّ الالتزام بالوقت في سويسرا
مع احتفاظ بعض البلدان بصورها النمطية، لا تزال تلك الصورة النمطية المتعلقة بسويسرا دقيقة تماما. فذلك الشعب الذي يسكن أبناؤه جبال الألب يتمتع بكفاءة عالية في أداء الأعمال، ويُعرف سكانه بالانضباط الشديد في المواعيد، كما أنهم يتميزون بالنظافة.
بالنسبة لأبناء سويسرا، لا تعد دقة المواعيد مجرد شيء جمالي، أو من كماليات الحياة، بل إنها مصدر للرضا لديهم. ويبدو أن السويسريين يطبقون تعريف الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور للسعادة على أنها «غياب البؤس» وهم يستمدون السعادة الحقيقية من فكرة مفادها أن الحياة تكشف عن حقيقتها في الوقت المناسب.
الحياة في سويسرا صارمة، فإذا قال لك أحدهم إنه سيقابلك في الساعة الثانية فإنه يصل في الساعة الثانية بالضبط، غير متقدم ولا متأخر، ولو بمقدار دقائق معدودة. فحضور السويسري في الوقت المحدد يعني أنه يقول لك: «أنا أقدر وقتك، وبالتالي أقدرك».
وليس من قبيل المصادفة أن السويسريين هم صانعو الساعات ذات الشهرة العالمية. لكن ما الذي جاء أولا، الالتزام الدقيق بالمواعيد، أم الساعات الدقيقة ذات الكفاءة العالية؟
من الصعب الإجابة، لكن النتيجة واحدة، فهذا شعب تسير عنده القطارات، وكل شيء آخر، في الوقت المحدد بالضبط. فالمراحيض العامة في سويسرا نظيفة جدا بالفعل، كما هو حال كل شيء آخر. وفي بعض البلدان، يعد شرب ماء الصنبور بمثابة انتحار. أما في سويسرا، فإنه من الرقي أن تشرب من ماء الصنبور، لأن الماء يأتي من ينابيع طبيعية.
كيف نفسر هذه النظافة والدقة في المواعيد؟ لا أحد يعرف على وجه التحديد. لكن النظرية السائدة تقول إن ذلك يستمد تاريخياً من التضاريس الجبلية الوعرة للبلاد، وطبيعة الزراعة المتعلقة بذلك.
فإذا لم تزرع محاصيلك هنا في توقيت محدد، وتحصدها في توقيت محدد، فإنك ستعاني من المجاعة. وقد أصبح الالتزام بدقة المواعيد مع الأسف فنًا يتلاشى في كثير من أنحاء العالم. وتعد الهواتف النقالة مسؤولة جزئياً عن ذلك. فنحن نشعر بأننا لسنا مرغمين على الحضور في الوقت المحدد إذا كان بإمكاننا أن نرسل رسالة نصية نقول فيها إننا سنتأخر لعدة دقائق.
تقول سوزان جين غيلمر، كاتبة أميركية عاشت في مدينة جنيف طوال السنوات الـ11 سنة الأخيرة، بنوع من الذهول: «لم يحدث أن صادفت سيارة أجرة تصل متأخرة، فهي لا تصل إلا في الوقت الذي ينبغي أن تصل فيه بالتحديد». وتعبر غيلمر عن دهشتها، على سبيل المثال، عندما اشترت ثلاجة، وحددت لها الشركة مدة ساعتين لإيصال الثلاجة إلى البيت، والتزمت بدقة بذلك الموعد.
لقد غيرتها سويسرا، فبعدما كانت معتادة على التأخر، أصبحت غيلمان الآن ملتزمة بدقة في مواعيدها. وتقول وهي تبدو كأنها سويسرية حقاً: «أشعر باحترام كبير لوقت الناس».
لكن الجانب الآخر هو عندما تزور غيلمر نيويورك، مدينتها الأصلية، تشعر بالانزعاج من قلة الالتزام بالمواعيد، كالحافلة التي تصل متأخرة مدة 15 دقيقة عن موعدها الأصلي، أو لا تصل على الإطلاق، أو الأصدقاء الذين يصلون إلى المطعم متأخرين بنحو نصف ساعة. «أصدقائي يقولون لي 'سوزان، هذه ليست سويسرا، هدئي من روعك›. لكنني أشعر بالانزعاج من تأخر الناس».
لكن مسألة دقة المواعيد ليست خالية تماما من بعض السلبيات فهي تخلق نوعاً من الشعور بأن أحداً يلاحقك. فالمقاهي في سويسرا تبدو مكتظة في الرابعة بعد الظهر من كل يوم، لأن الجميع يأخذون استراحة لتناول القهوة في الرابعة تماماً. وفي البنايات السكنية، يتقيد السكان بمواعيد منضبطة للحصول على بعض الخدمات، كاستخدام الغسالة على سبيل المثال.
كما تولد الدقة المتناهية في المواعيد نوعاً من التوقع، وإذا لم يصدق ذلك التوقع، تحدث خيبة أمل. ففي تلك المناسبات النادرة التي لا تجري فيــها الأمور على ما يرام، ويحدث تأخــر ما، يشعر السويسريون بالضــيق والغضب.
في الآونة الأخيرة، ساد الانفعال في البلاد بسبب الأخبار عن أن 87.5 في المئة من القطارات التي تديرها الهيئة الفدرالية للسكك الحديدية تصل في ظرف ثلاث دقائق من وقتها المقرر، وهي نسبة أقل من تلك المتوقعة، والمقررة سلفا بـ89 في المئة.
لكن ربما كان لذلك الغضب بعض الفوائد. فسويسرا منافس عنيد في مجال دقة المواعيد. وفي اليابان، تجعل القطارات السريعة المعروفة باسم «شينكانسن» القطارات السويسرية تبدو متأخرة، حيث إن معدل التأخير السنوي في اليابان هو ست وثلاثون ثانية فقط.
وكالات
إضافة تعليق جديد