الفصائل المسلحة.. وافقت أم لم توافق على الهدنة؟احتضان ماكر لـ «النصرة» قبل ابتلاعها
احتضان «جبهة النصرة» والتخوف من تداعيات الهدنة ومآلاتها السياسية والعسكرية، كانا أبرز ما اتسم به الموقف الموحد الذي صدر عن الفصائل المسلحة المعنية تجاه الاتفاق الأميركي ـ الروسي الذي دخل حيّز التنفيذ منذ مساء الاثنين. ومن شأن هاتين السمتين الظاهرتين أن تؤشرا الى وجود العديد من السمات المخفية التي لا يود أصحاب الشأن التعبير عنها علناً. ومن أهمها، انعكاس عدم ثقة الفصائل بقدرة المفاوض الأميركي على إدارة المفاوضات مع الطرف الروسي، وكذلك استمرار عمليات التجاذب المكتومة بين الفصائل على خلفية مساعي الاندماج في ما بينها واستغلال كل منها للاتفاق الروسي ـ الأميركي لتعزيز موقفها تجاه الفصائل الأخرى.
وقد وافقت جميع الفصائل المسلحة المعنية على الهدنة التي أقرها الاتفاق الأميركي ـ الروسي والتي بدأت مساء الاثنين، لكن هذه الفصائل، لأسباب مختلفة، آثرت التعبير عن موقفها بطريقة ملتبسة لا تعلن فيها الموافقة الصريحة، بل تترك إمكانية استنتاج ذلك من اكتفائها بإيراد تحفظات على بنود الاتفاق، وهو ما يعني موافقتها الضمنية عليه.
وكان من الواضح أن هذه الموافقة الضمنية انتزعت من الفصائل بعد ضغوط كبيرة مورست عليها من قبل جهات عدة، وهو ربما ما يفسر عدم رغبتها بالتعبير عن الموافقة الصريحة. وتكفي بعض العبارات التي وردت في مقدمة البيان المتطابق الذي أصدرته أمس الأول (الاثنين)، بشكل مستقل، كل من «أحرار الشام» ومجموعة من الفصائل المسلحة المعنية، للدلالة على عدم قبول الطرفين بالهدنة وشروطها. وفي إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة، ذكرت مقدمة البيان أنه «لم يزل دعاة الحرية والعدالة وسدنة الديموقراطية وحقوق الإنسان مصرين على المتاجرة بدماء السوريين وأشلائهم»، فالاتفاق بالنسبة للفصائل هو من قبيل المتاجرة التي تمارسها الولايات المتحدة. ولكن بما أن الفصائل مضطرة للقبول بالاتفاق رغم نظرتها السابقة، فقد عمدت إلى تبيان الكثير من التحفظات على بنوده وشروطه، حتى يكاد من الصعب بعد هذه التحفظات تحديد على ماذا وافقت بالضبط.
وبعد تشديد الفصائل على أن «الخيار الوحيد أمامنا هو المضي في معركتنا ضد النظام حتى آخر طلقة في بنادقنا وآخر مقاتل من أبطالنا»، ما يؤكد إصرارها على تبني الحل العسكري المطلق، فإن أخطر ما ورد في البيان هو الموقف المتقدم تجاه «جبهة النصرة» ومحاولة احتضانها رغم أن المجتمع الدولي يصنفها كتنظيم إرهابي.
وفي مناسبتين متقاربتين، سعت العديد من الفصائل إلى اتخاذ موقف خطير من حيث مدى المرونة التي أبداها تجاه «جبهة فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً). وهو ما ظهر جلياً في نعي فصائل ذات توجهات مختلفة، ومن بينها فصائل مدعومة أميركياً، للقيادي في «جبهة النصرة» أبي عمر سراقب (اسامة نمورة) برغم وصمة الإرهاب التي يفترض أنها تشمل جميع عناصر وقيادات «جبهة النصرة» بموجب قرار أممي. ثم ظهر بعد ذلك بساعات من خلال إعلان الفصائل الكبرى رفضها استهداف «فتح الشام»، التي أكدت واشنطن مراراً وتكراراً إرهابيتها رغم تغيير اسمها، وذلك في بيان صدر لإعلان موقف الفصائل من الاتفاق الأميركي ـ الروسي.
وجاء هذا الموقف تجاه «جبهة النصرة» ضمن تحفظات كثيرة أبدتها الفصائل على اتفاق «الهدنة وعزل المعتدلين عن المتطرفين»، وهي تحفظات تشي بمدى قلقها من هذا الاتفاق وتخوفها من أن يكون مجرد خطوة تمهيدية لفرض حل سياسي لا يناسب مصالحها السياسية والعسكرية، وهو ما يعكس بدوره ضعف ثقة هذه الفصائل بالمفاوض الأميركي الذي تولى عقد الاتفاق مع الطرف الروسي.
وترمي الفصائل من وراء هذا الاحتضان المكثف لـ «جبهة النصرة» بعد فك ارتباطها بـ «القاعدة» إلى تحقيق أهداف مختلفة، قد تكون أبرزها محاولة العمل على طرح معادلة جديدة مفادها «جبهة النصرة» مقابل القوات الأجنبية التي تقاتل إلى جانب الجيش السوري، وتوجيه رسالة بأن التخلي عن «جبهة النصرة» بما تمثله من ثقل عسكري في الجبهات ينبغي أن يقابله إخراج القوات الرديفة للجيش السوري من معادلة الصراع. وقد يكون الهدف النهائي لمثل هذا الطرح هو زرع بذور أولية يمكن استغلالها لاحقاً في مساعي إفشال الهدنة إذا تطلبت التطورات ذلك.
ولكنّ هناك هدفاً آخر قد يكون هو الأهم بالنسبة للفصائل. فهذا الاحتضان لا يعني بأي شكل من الأشكال أن تغييراً جذرياً طرأ على علاقة الفصائل بعضها ببعض، أو أن تقارباً جديداً حصل بينها وبين «جبهة النصرة»، خاصةً أن بعض الفصائل التي وقعت على البيان هي من بين الفصائل التي اعتدت عليها «جبهة النصرة» مؤخراً مثل «الفرقة 13». بل على العكس، فإن هذا الاحتضان الذي جاء بعد أسابيع من فكّ الارتباط يشكل خطوة جديدة من سلسلة خطوات اتخذتها الفصائل من أجل احتواء «جبهة النصرة» والعمل على تدجينها ضمن كيان موحد لا يكون لها فيه أي نفوذ أو صلاحيات خاصة.
ويتعلق الأمر هنا بالمفاوضات الجارية بين الفصائل بخصوص مساعي الاندماج في ما بينها والتي تشهد الكثير من محاولات الشد والجذب وسعي بعض الفصائل لإخضاع فصائل أخرى لهيمنتها ونفوذها. إذ بعدما أحرجت «جبهة النصرة» الفصائل بقرار فك ارتباطها وحاولت استغلاله للحصول على مكاسب في مفاوضات الاندماج، فإن الفصائل بدورها ستستغل موقفها المحتضن لـ«الجبهة» وتعمل على ترجمته إلى نقاط لمصلحتها في هذه المفاوضات، هذا إذا لم تكن تسعى إلى ابتلاع «جبهة النصرة» تحت ذريعة احتضانها والدفاع عنها.
وقد تكون «حركة أحرار الشام» أكثر الفصائل المؤهلة لمنافسة «جبهة النصرة» في هذا المضمار، فهي وإن أعربت عن رفضها لاستهداف حليفتها «جبهة النصرة»، إلا أنها سارعت عبر بعض ممثليها لممارسة ضغوط عليها لإظهار مرونة ما في موضوع الاندماج. وهو نفس ما قامت به «جبهة النصرة» التي سارعت إلى شكر الفصائل على موقفها تجاهها، ولكنها سارعت أيضاً إلى ممارسة ضغوط معينة لمنع هذه الفصائل من استغلال الموقف في بازار الاندماج.
وتبدت ضغوط «أحرار الشام» مع تصريح إياد الشعار، مستشار رئيس الجناح السياسي فيها، حول نية الحركة تشكيل «هيئة عسكرية» مع فصائل ليس من بينها «جبهة النصرة»، تضم كلاً من «جيش الإسلام» و «فيلق الشام» و«الزنكي» وفصائل من «الجيش الحر»، فيما تلوّح «جبهة النصرة» بأنه في حال فشل مساعي الاندماج، فإنها ستقوم بتشكيل ما يشبه «طالبان الشام» من فصائل محسوبة على «القاعدة» مثل «أجناد القوقاز» و«التركستاني» و «جند الأقصى» وفصائل أخرى ذات صبغة أجنبية.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل كان من اللافت أنه برغم الموقف الموحد والبيان المتطابق الذي عبّر عنه، إلا أن «أحرار الشام» فضّلت أن تصدر البيان باسمها منفردةً، بينما صدر البيان ذاته عن باقي الفصائل مجتمعة، وأبرزها «جيش الإسلام» و «فيلق الشام» و «صقور الجبل» و «ألوية سيف الشام» و «الجبهة الشامية» و «الزنكي» وغيرها. وهي المرة الوحيدة التي يصدر فيها بيان متطابق بهذا الشكل. وهذا التطابق في صيغة البيان من جهة والتمايز في صدوره منفردا أو جماعيا من جهة أخرى، لهما دلالات مختلفة من أهمها أن التقارب الكبير في مواقف الفصائل تجاه حدث ما، لا يعتبر كافياً لتوحيدها وتقريب المسافات الايديولوجية في ما بينها. إذ مما لا شك فيه أن انفراد «أحرار الشام» في إصدار نسخة متطابقة عن البيان الذي أصدرته باقي الفصائل، ورفضها وضع توقيعها على نسخة الفصائل، يشكلان مؤشراً مهماً على أن «أحرار الشام» ما زالت غير قادرة على اتخاذ الخطوة التي ستخرجها من تحت راية «السلفية الجهادية» وتضعها تحت راية «الجيش الحر».
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد