سوسيولوجيا العلم الإسلامي وصكوك المستقبل الكوني
في صيرورة دائمة، تتغاير إشكالية الإنسان مع الدين وتتنوّع، ليس في جوهرها وإنما في شكلها، ليس في ثوابتها وإنما في محاورها، ذلك سعياً الى تطابق الحقائق النسبية مع الحقائق المطلقة. وهو سعي قد بلغ عمر الزمن، وقد دأبت حركة العلم لاستكشاف أغوار الدين في ما يقدمه من ظواهر وأفكار وأحداث وأحقاب تاريخية وإعجازات استغلقت أسرارها على البشر، ولم يفشل العلم في الإعلان عن كنه أشياء وأشياء، لكن ظل التحدي قائماً، بل إنه يتفاقم. وهو ما يطرح فكرة تضاؤل العلم أمام الدين، لذا فهناك إرهاصات كبرى بضرورة توظيف مجموعة من العلوم تمثل منظومة متكاملة، تساعد على تكثيف الفهم وتعميق الإدراك وشحذ الحس تضييقاً للفجوة الهائلة بين المعلوم والمجهول. لكن ما أكثر المجهولات التي تحرك سؤالاً ملحاً هو: هل يظل معدل هذه المجهولات لا يتغير في ظل ذلك الإيقاع المتسارع لحركة العلم؟ وما معنى احتفاظ تلك المجهولات بمعدلاتها وحركة العلم تأخذ مساراً تطورياً مذهلاً؟ وما القيمة التراكمية للعلم إذا لم يبدّد الخزعبلات الذهنية عن اشتباك الدين بالواقع؟ وإذا كان العلم يسعى الى تحسين الواقع وتجويده، فهل يمكن أن يعتمد على تلك القوانين والمبادئ الكونية في إضفاء صورة جديدة لهذا الواقع باعتباره محل شكوى دائمة للإنسان؟ وهل للدين جذور فطرية في بواطن الإنسان وأعماقه؟
ولماذا يخالف الإنسان تلك الفطرة؟ وكيف يمكن إحياؤها داخله لتمثل بؤرة انطلاق لإعلاء وتعادل الجانب الروحي مع المادي؟
وفي إطار تشعّبات تلك القضايا، جاءت أطروحة علمية على درجة من الأهمية والخطر للدكتور أحمد فؤاد باشا، حاملة مسمى «مقاربات علمية للمقاصد الشرعية». وتكمن هذه الأهمية وذلك الخطر في الدعوة المباشرة الى استنهاض سوسيولوجيا العلم تلك التي عايشت عصر الازدهار الإسلامي وكانت إحدى أهم ركائزه. لذا كانت المحاولات الدؤوبة لفؤاد باشا في استقصاء إرهاصاتها في التراث الفقهي تواصلاً للحاضر مع الماضي، بما يحقق امتداداً مستقبلياً لذلك العلم حول مدى الفاعلية في إثراء الفكر الديني وتفعيله، أملاً بازدهار ونهضة حقيقية ربما تطمس أزمنة الرجعية الدينية.
ويمهّد فؤاد باشا لأطروحته بفكرة أن الهدي الإسلامي هو رسالة حضارية متكاملة ومتوازنة تجسّدت في عصور الازدهار الإسلامي الأولى بتطبيق مبادئها وقيمها في واقع حياة البشر وإقامة الحجة على الناس كافة، وهي ليست أفكاراً مجردة من ذلك النوع الذي يتشدق به الفلاسفة والحكماء والمثاليون، بل هي رسالة حق قوامها العلم والإيمان الموصولان بالخالق. وهذا هو مكمن النهضة الإسلامية التي أثمرت نوعاً خاصاً من التفاعل الإيجابي بين الإنسان المستخلف والكون المسخر، فكانت أعظم حضارة إنسانية حققت دواماً وانتشاراً لا يماثل.
وتنطلق الأطروحة لتؤسس لفكرة محورية هي أن إيمانيات العلم قد أصبحت ضرورة ملحة لصياغة فلسفة جديدة تتجدد بتجدد العلوم المختلفة وتقنياتها، وتقوم على بحث الظاهرة العلمية من جوانب عدة تسمى علوم العلم، وتهدف إلى فهم العالم برؤية إيمانية حضارية مؤسسة على مسلمة التوحيد الخالص، ترسيخاً للبعد الإيماني والوجداني في الفكر الإنساني الذي يفتح آفاقاً رحبة للتأمل والبحث وفق منهجية رشيدة تلتزم تعاليم الإسلام ومقاصده وقيمه وغاياته، من دون تعطيل لوظيفة العقل أو تعويق حرية البحث والتفكير. ذلك بجانب البعد العلمي ودوره المحوري في دعم مرتكزات الخطاب الإسلامي المعاصر.
وتتطرق الأطروحة إلى مفهوم سوسيولوجيا العلم أو علم اجتماع العلم، الذي خرج من عباءة سوسيولوجيا المعرفة وشغل حيزاً كبيراً منذ أوائل العقد السابع من القرن العشرين، بهدف تعظيم الإفادة من المعارف العلمية والتقنية المتنامية التي تنتجها جماعة العلماء في ظل الظروف والبنية المجتمعية المصاحبة لإنتاجها.
ولعلّ هذه الأطروحة على إجمالها إنما تؤصل لبحث سوسيولوجيا العلم في عصر الازدهار الإسلامي، بجانب كونها تقدّم نماذج معاصرة للدور الذي يمكن أن يقدمه ذلك العلم الجديد كخدمة جليلة للدين الإسلامي وترشيد للخطاب الدعوي، الذي بات يعاني مأزقاً حاداً يستلزم إذابة الجمود وتبديد الانغلاق وإحياء الجوهر التقدمي للعقيدة، بما لا يجعلها نهباً للأهواء الجاهلة والنزعات المغرضة والأحادية الفكرية، وغيرها من الآفات العقلية التي انتزعت العقل الإسلامي إلى متاهات أصبحت العودة منها مراهنة جديدة لبلوغ الآفاق العادية، فما بالنا وهذا العقل قد أصبح أمام مهام فائقة، يتحتّم عليه النهوض بها من منطلق مسؤولية الحفاظ على العقيدة وتقديمها كمنهج حضاري يحفظ الوجود البشري الممزق ويحقق أمنه وسعادته، وهي منتهى غايات البيولوجيا الاجتماعية؟.
محمد حسين أبو العلا
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد