الدين والتدين وسؤال المشترك الانساني
لو وجّهنا سؤالا إلى أيّ من أبناء الطوائف الدينية حول المبرّرات والأسباب التي أدّت به الى اعتناق عقيدته لوجدنا أهمّ سبب هو ما توفّره هذه العقيدة من فهم للحياة القائمة على التواصل مع المطلق من خلال تعميم مفهوم الخير والأعمال الصالحة الموصلة الى رضا الله. لكن هذا الاقتناع ما يلبث أن يتمظهر اليوم من خلال صراع ديني يجيز استخدام العنف والقتل والتصفية للأخر المختلف دينيا مما يثير التساؤل حول صحة هذه الأديان، وتعارضها الواضح مع متطلبات التعايش القائم على التنوع والاختلاف ، وهو ما يؤدي الى البحث عن صحة هذه الاديان من خلال التمييز بين عدة مستويات للدين نفسه لجهة ارتباطها بالكلي والثابت وبين الدين و كافة اشكال الحضور الاجتماعي وتقاطعها معه مثل الطائفة والقبيلة والعشيرة والاعراف والتقاليد وغيرها
الدين مكون ثقافي يتمظهر من خلال عقائد وطقوس ومؤسسات ،يهدف الى رسم كيفية العلاقة مع المطلق والكلي الذي هو الله، كما يتجلى في الاديان التوحيدية الثلاثة ،هذه العلاقة تتسم بانها علاقة تفاعلية وجدانية في جانب كبير منها ،وتحتوي على جانب عقلي بدأت منه الفلسفة عملية البحث عن اصل الكون ،لكن يبقى أن الدين هو انفعال بالمقدس والمطلق والكلي، وقد يتقاطع ويشترك مع عدة مظاهر انفعالية اخرى مثل الرسم والموسيقى لزيادة مستوى الانفعال بالهوية الدينية التي قد تساهم بتجييش هذه العاطفة او تهدئتها ، في مجال البحث عن مستويات الدين يأتي دور الذات في علاقتها مع الدين وتحويل الدين بما هو حقائق مطلقة ونسبية الى عملية تدين غالبا تهدف الى التمايز عن الاخر ،هذه العملية تتميز باعتمادها على عقائد مركبة تتوارثها الاجيال من دون تعرضها للسؤال او الشك ،وفي حال توصل العقل الى قناعات بأن موضوعات هذه العواطف مغلوطه، فقد يكون الدافع الى عدم تركها هو الخوف من الخروج على الاجماع ،ايضا بالمقابل قد يؤدي تبني هذه العقائد الى درجة الاستعداد للموت في سبيلها.
هنا يأتي الحديث عن الخطاب الديني المعاصر بكافة اشكاله ،من ناحية التساؤل عن سر عدم قدرة الاديان كمكون ثقافي ،يفترض فيه رسم العلاقة الوجدانية مع الله على اساس الحب والطاعة عن وقف ظاهرة الاقتتال بين ابتاع الديانات على مر التاريخ والانقسام الحاصل بين اتباع الدين الواحد ،وتنامي الطائفية كأحد ابرز العوائق لتطبيق قيم الديمقراطية وحقوق الانسان ،واذا كان القرن العشرين قد شهد انبعاثا دينيّا كردة فعل ضد الشيوعية فان هذا الانبعاث مع صلته بأجواء الحرب الباردة هو في النهاية انبعاث لأصوليات تستند على التمايز ورفض الاخر، مثل الاحزاب اليمينية المسيحية في الغرب ،والصراع السني الشيعي عند المسلمين ،وظهور الجماعات التكفيرية وانطلاقها من نفس اسس الرؤية الدينية المغايرة.
لا يمكن اليوم اغفال ظاهرة النفور من الظاهرة الدينية ،من خلال المعارضة الواضحة والجلية لسيطرة الاحزاب الدينية على الحكم كما راينا في مصر ضد الاخوان المسلمين ،و الرفض الشعبي العام لتوجهات القاعدة والجماعات الجهادية، وهذه المظاهر ليست دليلا على عودة العلمنة كخيار بديل بقدر ما يعبر عن ازمة لا يمكن اغفالها تتضمن تداخل بين ثلاثة مستويات وهي الدين والتدين والطائفة، ،نتيجة لتبني استراتيجيات معينة مثل استثمار وتهييج الجانب الانفعالي واستحضار التاريخ ،وقبل ذلك استغلال النصوص التأسيسية لتدعم هذا التداخل. وهنا يحق لأي متابع للواقع أن يتساءل عن الاسباب وراء تنامي الاصوليات بالرغم من ادعاءها الفهم الكامل والشامل للدين ؟ واذا كانت كل طائفة تبني تدينها على محبة الله فهل يعقل أن يكون احد الادلة على هذا الحب هو العداء والاقتتال ضد اتباع الطوائف الاخرى مع الاصرار على وصف هذا التدين من خلال نصوص تأسيسية مثل الحب والسلام والرحمة بين البشر ففي المسيحية نجد مثلا في رسالة بولس الى اهل روميه2“اما الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء فبالحياة الابديه،واما الذين هم من اهل التحزب ولا يطاوعون للحق ،بل يطاوعون للإثم فسخط وغضب وشدة وضيق” وفي القران نقرأ الآية الكريمة “وما ارسلناك الا رحمة للعالمين”.
عملية التفاعل مع الدين هو دخول الذات في تشكيل توجّه معيّن، يحاول الاقتراب وموضعة نفسه ضمن الخط الكلي والمطلق والمقدس للدين التي هي نتاج نصوص تأسيسية مطلقة تشرح ماهية ورؤية الدين للكون والحياة والبعث ،وباعتبارها نصوصا مطلقة، فإن الذات تحاول تأسيس رؤية معينة استنادا على عناصر وربطها بالمطلق ومع السياق الزمني تتخذ هذه العناصر صفة المطلق بجانب النصوص التأسيسية، مما يؤدي الى استقلالها التشريعي، ففي المسيحية نجد أن فكرة التجسد لم تتبلور في بدايتها مع المسيح الذي صرح بأنه امتداد لشريعة الله كما انزلت في العهد القديم على موسى “لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الانبياء ما جئت لأبطل بل لأكمل”،وفي الاسلام ساهمت المصادر اللانصيه في بلورة العديد من الرؤى التي اتخذت مع مرور الزمن صفة النهائي والمطلق دون اعتبار لحركية النص مع الواقع والذي تبلور بصورة واضحة بمسالة تنجيم القران ونزوله لعلاج الوقائع الغير متناهيه وارتباط العديد من الاحكام بصفتها الزمنية ،مع بقاء الاصل هو الدعوة الى العقيدة والاخلاق الكلية كثوابت هي الدين واستمرار التأكيد على هذين العنصرين في المرحلة المكية والمرحلة المدنية ،مع تأخر التشريع الى المرحلة الاخيرة بعد بدء تكون الدولة .
ففي تاريخ الاسلام ساهم الاستناد الى المرويات المنسوبة الى النبي صلى الله عليه وسلم والتي تم جمعها بعد ما يقارب المئة سنه من وفاته اضافة الى تأسيس الشافعي للمصادر التشريعية من خلال الكتاب والسنه والقياس والاجماع وانضمام القرون المفضلة كمصدر من مصادر التأسيس قد يستقل في بعض الاحيان بالتشريع كما نجد في أحكام الذمة ،وحكم المتغلب وتحريم الخروج على الحاكم الظالم ،والاستقلال بأحكام تشريعية تصادم النص التأسيسي الاول كما في حكم الرجم والردة وغيرها، أقول ساهمت هذه المصادر في انتاج رؤية اتخذت صفة المطلق والنهائي ،وفي العصر الحديث عندما تكونت الدولة المدنية الحديثة ومفهوم السيادة والمؤسسات والمواطنة كوحدة العيش المشترك ،واجهه التيار الاسلامي ازمة فكرية اضطر خلالها الى التبرير والدفاع عن هذه الرؤى دون التساؤل عن مصداقية اصولها التأسيسية ،وقل مثل ذلك في الجانب الشيعي الذي اعتمد على مرويات اهل البيت دون اعمال النظر في مدى بعدها وقربها من اخلاق الدين الكلية. بل وتناقض الروايات مع بعضها البعض مثلما نجد في نصوص ائمة اهل البيت الداعية الى اعتماد الحكم الشوري مما يلغي تماما عقيدة التوريث والامامة هذه المصادر ساهمت في بروز الطائفة كنتاج لعملية التدين ،واعتمادها على الجانب الانفعالي كوسيلة تجييش ضد الاخر .
احد من البشر يختلف على مفاهيم العدالة والحرية والمساواة وبذل الخير والتسامح ،فهي مفاهيم مطلقة، لا يوجد تشريع إلا وينص عليها يدعوا الى تبنيها بخلاف الامور التشريعية التي قد تختلف من عصر الى اخر ولم يؤثر اختلافها على صلاح وفساد البشرية ،لكن حين نرى مظاهر العنف بين اتباع الديانات والطوائف المختلفة حتى في اصحاب الديانة الواحدة وهي تدعو في ادبياتها الى هذه المفاهيم ،فلا شك ان احد الاسباب هو حضور التدين واحتمائه بالطائفة ،بمعنى اخر ما نراه اليوم هو صراع ذوات على السيطرة على الاخر باسم المقدس والمطلق والكلي.
إبراهيم المبرك
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد