من إشكاليات المجاهرة بالإلحاد
في إحدى رسائله إلى والده يصف الكاتب الألماني الشهير"فرانز كافكا" الناس وهو ينظر إليهم من شرفته العالية بالقول " إنهم يمشون في الشوارع، يعملون، ويتحدّثون، ولديهم إحساس أو إيمان بأن هناك قوّة عليا، هناك في السماء، تراقبهم، وتمنحهم الإحساس بالأمان، وتضفي على حياتهم معنى، إنهم يدركون أن لحياتهم معنى بوجود الإله".
و بنفس النبرة المتفهمة المتعاطفة كتب ألماني آخر من قبل و هو "كارل ماركس" "إن الهمّ الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن هم واقعي واحتجاج علي هم واقعي . إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة ، هو قلب عالم لا قلب له ، مثلما هو روح وضع بلا روح . إنه أفيون الشعب ". لا شكّ أنّ التدّين هو أسهل إجابة لسؤال الإنسان الحارق عن المعنى. فالإلحاد تجربة صعبة، لا طاقة للإنسان البسيط على تحمّلها و هي غير متاحة سوى لقلّة من البشر.
وصف "جبران خليل جبران" ذات مرّة تجربة الإلحاد بالقول "أن تنظر في هوّة عميقة دون أن ترتعد قدماك أن تحدّق في الشمس دون أن يرتعش جفنك". تتسع القلّة الملحدة في الغرب الذي لا تتردّد نخبه في الإجابة باطمئنان عن إيمانها أو إلحادها على شاشات التلفزة وتتضاءل هذه القلّة وتتوزّع اتجاهاتها في عالمنا العربي الإسلامي بين التقية وإخفاء الأمر وإرجائه أو التهوين من شأنه.
لقد باتت معظم النخب العربية في العشريتين الأخيرتين أميل إلى القول بأن قضية الإلحاد ثانوية في هذه المرحلة التاريخية بالقياس إلى أولويات مثل الدفاع عن الدولة المدنية وتوسيع هامش الحريات الفردية وخصوصا حرية المعتقد الذي يتأسس على حفظ كرامة الإنسان ومشاعره مهما كانت نزعاته العقائدية. لا يعود الأمر في هيمنة هذا الرأي إلى قوّة التيار المحافظ في المجتمعات العربية/الإسلامية فحسب بل لتعاظم سطوة الحركات الأصولية التكفيرية التي دخلت المسرح العالمي من أكبر مدنه فيما صار يعرف بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، حركات امتدت عروقها و باتت تهدّد المجتهدين، المعتدلين من الإسلاميين فما بالك بمن يجاهر بالإلحاد منهم.
عرفت الثقافة العربية الإسلامية كما هو معلوم في أوج ازدهارها ما اصطلح عليه "الطيب التيزيني" بنزعات مادّية فيها و" إنسية" بعبارة "محمد أركون" و حداثية بمصطلحات "أدونيس" و عقلانية كلامية بعبارة "حسن حنفي" وشخصيات قلقة في الإسلام بعبارة "عبد الرّحمان بدوي" ولكن هذه النزعات وهذه السير قبرت مع انطفاء شعلة الحضارة وتراجعها وانتكاسها في حالات من الجمود والتقوقع التي استمرت واستفحلت في المرحلة المعاصرة. بسبب هذا التراجع الحضاري العام الذي طال مجالات عديدة وما تركه من تخلّف عن العلوم والمناهج العلمية الحديثة بما في ذلك ما يتصل بالدّين وعلومه ومناهج دراسته تزعم الأكثرية من المتدخّلين في القضايا التي لها صلة بالدّين والإيمان وما يعرف بقضية المعنى المتصل بالوجود أن الإيمان الدّيني بوجود إله خالق وراع لهذا الكون ينشأ بالفطرة وأنّه ملازم للطبيعة البشرية، بل غريزة فيها.
ليس الإلحاد ضمن هذا التصوّر تفكيرا منحرفا فحسب بل مناقض لجوهر الطبيعة الإنسانية. وهذا ما يجعل الملحدين في نظر المتدّينين المتعصّبين أو البسطاء منهم أشبه بكائنات غريبة، ملعونة يطلب شفائها وتوبتها وإن لم يكن ذلك فموتها أفضل بالنسبة للمتشدّدين.
لا يحتاج الأمر إلى تخصّص دقيق ولا إلى اطلاع واسع لإقرار ما تؤكده المعلومات والمعطيات المبذولة اليوم في مختلف المواقع من أن الإنسان لا يولد مؤمنا بل يصير كذلك بفعل الثقافة والتربية والمحيط الذي ينشأ فيه. تؤكّد الأدلة الموجودة في الدراسات المختصة في تاريخ الأديان والمقارنة بينها وجود شعوب وأمم وقبائل لا صلة لها بالإيمان سواء في شكله الدّيني التوحيدي، كما هو الحال في الصين التي يدين أكثر من مليار فيها بالبوذية التي لا تعتقد في وجود إله واحد أو بعديد القبائل التي لا تؤمن بوجود إله للكون، وهو ما لم يمنعهم في المساهمة بقوة في إثراء الحضارة الإنسانية.
لا شكّ أنّ الدّين التوحيدي يضفي على الحياة القصيرة، التي مآلها الموت معنى حين يعد المؤمنين بالنعيم والخلود وفضلا عن ذلك فإن الإيمان باللّه ضمن هذه العقيدة هو الإجابة الوحيدة التي تفسّر دقة وتناسق وجمال وعظمة الكون والحياة. هكذا يذهب المؤمنون في الدّيانات التوحيدية الثلاث بثقة وحماس كبيرين إلى أن الحياة بلا معنى ولا هدف ولا غاية بدون إيمان باللّه واليوم الآخر، بل إنّها لا تعدو أن تكون مجرّد قاعة انتظار مملّة للعدم، حيث الوجود مجرّد أرحام تدفع وأرض تبلع كما في المثل الشهير. ولكن ما هو "المعني" ؟ وما هو المعنى الدّيني للحياة؟ وهل يعتبر هذا المعنى محرّرا للإنسان حقا؟ وأيهما أقرب إلى العدمية الرؤيا الدينية للحياة، أم الرؤيا غير الدّينية؟ وهل يعيش الغرب أزمة روحية حقّا على خلاف ما يتمتّع به العالم العربي/الإسلامي من ثراء في هذا الجانب كما يقال؟
لقد تمكّن العلم وما يزال من تفسير عديد الظواهر الكونية بما في ذلك نشأة الكون ذاته، وتشكّل الحياة على الأرض، وظهور الإنسان. والقول بوجود إله، أو محرّك أوّل بالعبارة الأرسطية الشهيرة، وراء كلّ ما حدث لا يمثل إشكالا في حدّ ذاته باعتباره اعتقادا دينيا ولكنّ الأجوبة الدّينية التوحيدية لا تلغي شرعية استمرار التساؤل الإنساني العميق عن الهدف من خلق الإله للبشر وهو ما كان مطروحا في مجادلات الإسلاميين فيما بينهم فيما يعرف بعلم الكلام. إن القول بأن اللّه خلق البشر ليعبدوه أو ليختبرهم لا يقدّم المعنى بالإطلاق، بل يقدّم معنى لا يبدو قادرا على الصمود أمام المنطق العقلي الصرف. فما الذي يجعل إلها مستغنيا عن الخلق ينشئ البشر والحياة لكي يعبد ولكي يختبر بشرا يعرف مسبّقا مصيرهم وما سيفعلونه بحكم طبيعته الإلهية، التي يحيط علمها بكلّ شيء؟ كما أن ردّ ما يفترض أنّه دقة وتناسق وعظمة في الكون إلى وجود إله مهندس لكلّ ذلك، وإن بدا إمكانية غير مستبعدة وفرضية منطقية لها ما يدعمها بل إجابة أبوية شعرية جميلة تسعد الأطفال الشغوفين بالحياة والنهايات السعيدة، إلاّ أنّها مع ذلك، بل مع كلّ ذلك لا تسكت حيرة الإنسان التي تسأل بضراوة ودونما تواطأ أو شفقة عن الحكمة من مظاهر القبح وعدم التناسق والفوضى والظلم والعبث الذي نراه في الطبيعة والحياة.
لاشكّ أنّ وجود الإله يمثّل سؤالا مستمرّا عن حقيقته، وهو ما أعجز كبار المؤمنين الذي انتهوا بذكاء إلى أن الأمر لا يمكن إدراكه أو تفسيره عقليا وهذه من الإشكاليات التي كانت وراء نشأة علم الكلام في الفكر الإسلامي الكلاسيكي. بل إن إيمان العجائز أفضل في هذه الحالات و التسليم الإيماني والنور الذي يقذف في الصدر هو الخلاص من نفق الأسئلة القاسية كما خلص إلى ذلك الغزالي مثلا في مؤلّفه الشهير "المنقذ من الضلال".
فلسفيا يعدّ سؤال "ما المعنى" في نظر نيتشه السؤال الأرقى للفلسفة، والأكثر تجريبية، لأنّه يطرح في الوقت ذاته مشكلة التفسير والتقويم. وإذا فهمنا أعمال نيتشه جيّدا، فهو يعني بسؤال "ما المعنى" "ما العدالة"؟
من وجهة نظر نيتشوية فإنّه لم يجر البحث عن معنى الوجود إلا بطرحه كشيء خاطئ أو مذنب، شيء ظالم كان من الضروري تبريره. كانت ثمّة حاجة إلى اللّه لتفسير الوجود وكانت هناك حاجة لاتهام الحياة من أجل افتدائها، ولافتدائها من أجل تبريرها. كان يجري تبرير الوجود، لكن بوضع النفس دائما من وجهة نظر الإحساس بالخطأ".
هكذا سعى نيتشه لأنّ يحرّر الإنسان كما يقول "دولوز" عبر الروح "الدينوزوسية" اللاّعبة من عبودية المعنى والهدف. يقول "نيتشه" في هذا السياق "صدفة، هذا نبل العالم الأكثر قدما، أرجعته إلى كلّ الأشياء، خلصتها من عبودية الهدف".
يطرح نيتشه فلسفيا على نفسه المهمات التالية : مثلا أعلى جديدا، وتفسيرا جديدا، وطريقة جديدة في التفكير كما يتبيّن ذلك في مؤلّف "أصل الأخلاق". "إعطاء اللاّمسؤولية معناها الإيجابي" "لقد أردت اكتساب الشعور بلا مسؤولية كاملة، وأن أجعل نفسي مستقلا عن المديح وعن اللّوم، عن الحاضر وعن الماضي. اللاّمسؤولية هي أنبل وأجمل سر لدى نيتشه.
لا يمثّل الدّين من وجهة نظر نيتشه وغيره من الفلاسفة والمفكّرين الملحدين الضمان الوحيد للحياة والقيم الأخلاقية، فبالإمكان الاستغناء عنه، واستبداله بالعقل وما يقترحه من ضوابط منطقية وأخلاقية وتنظيمية مختلفة ومتطوّرة لحياة البشر كما تشكّلت في المنظومات الحقوقية الدّولية وما طوّرته الثقافات الإنسانية من قيم. وفيما يتصل بسؤال المعنى فإنّ الآداب والفنون المختلفة التي تردّد بعمق تناقضات وأشواق الإنسان يمكن أن تكون بديلا روحيا دنيويا مادّيا للرّوحانية الدّينية.
نميل إلى القول بأنّ الإنسان ينخرط في لعبة الحياة اليومية بحماسة باهرة. ولعبة الحياة هي الاستمرار. وسؤال الوجود يهدّد الاستمرار. فلعلّ لعبة الحياة هي أن نتفادى السؤال وإذا ما طرحنا السؤال بإلحاح فالأفضل أن نكون قادرين بشهامة ونبل على تحمّل إجابته. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّه لا شيء يؤكّد ما يشاع من أن الغرب يعيش أزمة روحية بسبب نزعته العلموية المادّية وما قيادته الإنسانية الآن في مغامرات البحث والاختراع والإبداع إلا دليل قوي على ثراءه الرّوحي وليس صحيحا أيضا أنّ موجات الانتحار والانحلال الأخلاقي والفساد في المجتمعات الغربية هي من نتائج هذه الأزمة الروحية. توجد أسباب أخرى لهذه الظواهر التي لا يخلو منها مجتمع قديما وحديثا. وتثبت التقارير المحلية والدّولية أن نسب الجريمة والفساد والانحلال الأخلاقي ومظاهر التفكّك الأسري والطلاق والعنف هي في المجتمعات المتخلّفة ومن بينها مع الأسف مجتمعاتنا العربية الإسلامية أعلى ممّا هو عليه الأمر في الغرب. فعن أيّ ثراء روحي نتكلّم؟
كمال الشيحاوي
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد