«حبسوها» في غرفة 2×3 م2 خمس سنوات مع الخبز اليابس والعفونة
ذنب الفتاة «د» أنها تتعرض لنوبات عصبية، أما عقوبتها فالسجن في غرفة منعزلة لتسع سنوات وبدون سرير وبدون ما يستر أرضية الغرفة، ومحكمة قرار سجن الفتاة هو والدها.
وطبعاً لم ينطق الحكم على الفتاة باسم الشعب، بل باسم «ديكتاتورية الأب» التي تعتمد على خصوصية اللحم والشحم والدم الذي قيل بأنّه لا يصبح ماء،.. ولأن الدم أصبح بعكس ماقيل سافر الأب للعمل في دولة خليجية وترك مهمّة الإشراف المنظّم على تنفيذ حكم سجن الفتاة لزوجته «خالة الفتاة» ولأخت الفتاة من الأب، أمّا «حقوق» السجينة فيمكن تلخيصها بالتالي: (من حق الفتاة فلذة كبد أبيها الحصول على حرام صوفي قذر جداً، والتزاماً بصلة القربى من حق القريبة الحصول على طعام بالمنفردة (مكدوسة وشاي بقصاصة من تنك الكولا)، ومن حقها أن تشعر بالإلفة كونها في حرم دار الأسرة، من حقها أن تسمع أصوات أحرار الدّار وهم يغردون حول غرفتها، وهي في زاوية مظلمة، ومن حقها ألا تموت لذلك فإن قطع الطعام والشراب عنها ممنوع، ومن حقها أن تربطها في الأب علاقة سجينة لسجّان، ومن حقها أن تشم العفونة والرطوبة لأن الهواء خارج الغرفة صحي وسليم ونقي، ومن حقها ألا تتحكم بقفل الباب الحديدي، فـ «السقّاط» من الخارج وهي في داخل الغرفة، ومن حقها ألا تشوش على الآخرين عند حدوث نوبة عصبية لها، ومن حقها التصرف بكامل الحرية داخل غرفة 2ھ3 م2وبارتفاع مترين، واستثمار كامل الحقوق المذكورة آنفاً...
- هكذا تضمن ضبط الشرطة: «الفتاة في غرفة صغيرة في الجزء الجنوبي للمنزل ضمن حرم الدّار والغرفة من البيتون والإسمنت المسلح بارتفاع حوالي مترين وبعرض مترين أيضاً وبطول غرب شرق حوالي ثلاثة أمتار، لها نافذة صغيرة تطل على الدار في الحائط الشمالي بأبعاد 40ھ30 سم، وللغرفة باب حديدي في الجهة الغربية في الحائط نفسه مطل على الدار وهو مغلق وله قفل في الخارج (سقّاط) يفتح من الخارج فقط، وبعد فتح الباب خرجت من الغرفة رائحة كريهة جداً وشوهد خلف الباب في الزاوية الشمالية الغربية للغرفة فتاة رثّة الثياب مضبوبة اليدين والساقين وملتحفة بحرام صوفي وسخ ورائحته كريهة وشوهدت منكوشة وشاحبة الوجه والغرفة ذات أرضية إسمنتية قديمة بدون أيّ «مد» ولا تحتوي على أيّ أثاث، وفي أرض الغرفة فتات من الخبز اليابس والمكسّر وشوهد على قطعة منها مكدوسة، وعلبتا بلاستيك كولا مقصوصتان من الأعلى تحتوي على سائل أحمر على الأغلب شاي، والغرفة مظلمة وغير مضاءة..»
هذا هو عالم الفتاة «د» لمدة خمس سنوات حسب معلومات واردة في ضبط الشرطة ولمدة خمس سنوات حسب إفادة «خالتها»، التي قالت: زوجي لديه ابنة مختلة عقلياً، وقد أوصاني بأن أضعها في غرفة في المنزل كونها تؤذي بتصرفاتها، وفعلاً وضعناها في الغرفة التي نضع فيها الخبز اليابس، وخصصنا لها الغرفة منذ خمس سنوات، حيث أوصاني والدها بذلك، ولم نقدم على ضربها أو إيذائها..
- الفتاة المشار إليها هي اليوم في دار السعادة لرعاية المسنين، عمرها 27 عاماً، وبشهادة مسؤولي الدّار فإن وضعها جيّد وتآلفت مع باقي النزلاء، وبدأت تشارك ببعض الأعمال وتساعدهم، وانّها غير خطرة على سلامة الآخرين..
بقيت «د» شديدة الصمت أمام أسئلة تشرين وعدسة الكاميرا، عندما قابلتها في الدّار، تجلس على كرسي نظيف وبثياب نظيفة ومظهر لائق، وتطيل من مكوث رأسها باتجاه الأسفل، وتستشعر الأمان بينما يوجّه المسؤول في الدار المشرفات بأن يتم إشراكها بالأعمال مع باقي النزلاء لكسر حاجز العزلة التي عاشتها...
لا أحد من أقاربها يتواصل معها في دار المسنين ولا أحد يزورها، فوالدها يعمل في دولة خليجية، ولا يرسل حتى ما يسهم بنفقات ما على ابنته، وسيتبين أن خالتها زوجة الأب حنونة إلى الحد الذي قالت عن الفتاة: الله يعينها..؟! ووردت هذه الجملة في إجابتها رداً على سؤال وجهته لها: لماذا لا أحد يزور الفتاة في دار السعادة «مأوى العجزة» ويساهم في نفقاتها..؟!
- تختصر صبية بات عمرها بالعقد الثالث الأجوبة عن كل الأسئلة المثارة في الكون بضحكة خفيفة تزيد قليلاً عن درجة الابتسامة، وحتى لو كانت الأسئلة تخص ضياعها فهي جديرة بابتسامتها، أسألها: مااسمك؟ وأين أسرتك؟ من أنت؟ وأين هويتك؟ من أين أتيت؟ تضحك وتصرّ على الضحك حتى عند سؤالها السؤال الأخطر من قذف بك الى الشارع وتركك على قارعة الطريق؟
تترك هذه المجهولة للآخرين حريّة الاجتهاد في قصتها من مهدها الى رميها في الشارع الى دار رعاية المسنين، وهذه المجهولة موجودة في دار المسنين منذ منتصف 2001 عندما قامت «الدار» بجلبها من وسط الشارع إثر اتصال مجهولين يخبرون عن صبية ملقاة في الشارع، ويؤكد المشرفون على دار المسنين أنّها مسالمة جداً وهي طبعاً من ذوي الاحتياجات الخاصة ولا يمكن قبول فكرة أنّها ثقيلة على أسرتها، ولا يتوفّر أيّ مبرر إنساني لرميها في الشارع وعدم السؤال عنها منذ حوالي ثماني سنوات، وماهذا الرمي إلا قسوة من أسرة مهملة، إذ لا يمكن التسليم بأنّ هذه المجهولة ضيّعت أسرتها لتنتمي الى سرير في دار المسنين بات يشكّل عالمها الوحيد؟!
- إذا ثبت أنّ فتاة تأتيها نوبات عصبية في منزل مكون من عدة أفراد، كيف يمكن التعامل معها؟! وهل يجب حبسها في غرفة منعزلة؟ توجهت بهذين السؤالين الى خمسين أباً وأماً فأجمعت الإجابات على ضرورة معالجتها وأنّ آخر شيء يمكن تصوّره حبسها، لأنّ هذا ما يزيد حالتها سوءاً..
إحدى الأسر لديها حالة مأسوية وموثّرة، أيضاً فتاة بعمر متقارب مع عمر الفتاة «د»، تعاني من شلل دماغي منذ كان عمرها سنة وحتى الآن، وطوال سنوات طويلة وأسرتها تضع برنامجاً ملزماً بتأمين كامل احتياجات الفتاة، والعناية الصحية والطبية، وتأمين الرعاية لها، وتعامل بشيء من الدلال الذي يزيد عن حقوق باقي أفراد الأسرة...
ويقول والدها لـ «تشرين»: إنّها فلذة كبدي، وأنا ملزم تجاهها أكثر من التزامي تجاه باقي أفراد أسرتي، لأن ابنتي المشلولة دماغياً هي من ذوي الاحتياجات الخاصة وكي تستمر بالحياة لابدّ من الاهتمام الكامل بها، خشية من أن تؤذي نفسها كما يحدث أحياناً نتيجة سقوطها، وعلى الرغم من صعوبة التعامل معها إلا أننا في الأسرة لم نفكر ولو للحظة بوضعها في مشفى أو دار لرعاية المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة، بل هي فرد من أفراد أسرتي ولها كامل الحقوق الانسانية التي بمقدورنا تقديمها إليها..
وهكذا بين من تخلى عن ابنته وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة، وبين من التزم بابنته وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة توجد انسانية تتهادى، وتارة تترنّح في ضمير إنسان وتنبعث في ضمير إنسان آخر..
ظافر أحمد
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد