النصر المبين على النساء والعلمانيين
شرّ البلية ما يُضحك. العرب اليوم على شفير إنهيار عظيم. مظلومون وظالمون. يُقتلون ويَقتلون. اوراق اشجارهم، الوطنية والقومية والدينية، تتساقط الواحدة تلو الاخرى. ينكشفون على ذواتهم، فينتحرون...
ومع ذلك، الفئة الغالبة بينهم، الفئة الاصولية الدينية بتنوّعاتها، ترى في هذا المناح من التذابح والتقاتل والتناحر «إنتصاراً»: من «الانتصار» على اسرائيل، وعلى «المشروع الاميركي في المنطقة»، وحتى الانتصار على «العلمانيين» بفضل «سقوطهم المدوّي» في حزيران (يونيو) 1967. في الذكرى الاربعين لهذه الهزيمة تدفّقت الكتابات المكررة حزنها... ولكن معها ايضا، الاقلام «الاسلامية»، الأقوى الآن، والتي ترى في 1967 هزيمة لـ»العلمانية»، أي لـ»غيرها»، ونصرا لعقيدتها الاسلامية السياسية. قال مؤخرا احد «المفكرين» الاسلاميين عن 1967: «لحظة واحدة سوداء عربيا، تلتها لحظات إشراق...».
لكن البلية لا تتوقف عند هذا الحد. البلية طالت هذه المرة شواطىء الاسكندرية. نجمة من نجوم الاسلام الاصولي التلفزيوني «الثقافي» لا تغيب عن الشاشة الصغيرة الا قليلا. تكتب في يومية سياسية ايضاً، فتحشر شواطىء الاسكندرية في حربها المقدسة ضد اعداء الداخل «العلمانيين»: اصحاب النصيب الاوفر من الرجم الاصولي. وهذه النجمة، مساهمةً منها بالرجم، تحشر شواطىء الاسكندرية بمقال يضجّ بالتشفّي بهم؛ عنوانه «الاسباب التي تملأ العلمانيين بالأسى» (الشرق الأوسط، في 8- 6-2007). ماذا تقول في هذا المقال؟ تصف المسابح الشعبية الاسكندرانية بنشوة المنتصر وابتسامته: «إبتسم إبتسامة المنتصر» تقول. لِم؟ لأن هذه الشواطىء اصبحت الآن تحتشد بـ»فقراء بسيطين ومرحين» لا ترى بينهم «فتاة تخطّت الثانية عشرة تلبس المايوه». اما الامهات فجميعهن «يلبسن الثياب الشرعية ويجلسن على الشاطىء». فيما الشابات والفتيات «ينزلن البحر بالبنطلون والبلوزة أو جلباب سميك وطويل». الاناث على هذا الشاطىء بنظرها «يضحكن ويبدو ان البحر يضحك لهن». فتخلص النجمة الاسلامية من ذلك: «ينتصر الضمير الاسلامي في كنانة الله ويتفتح الوعي رويدا رويدا بالعقيدة الهوية (الاسلام) ويقر المصريون بأغلبيتهم الشعبية ان تعكس شواطئهم احكام دينهم». وتتابع بالمزيد من التشفي: «الحمد لله. قلتها وقلبي يقفز مع الامواج طرباً. الاسباب التي تملأ نفسي بالفرح هي التي تملأ العلمانيين بالأسى والغم». ثم تورد استشهادات لكتاب مثل احسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم، مفكري «مطلع شبابي في الخمسينات والستينات» الذين ضلّلوها هي وابناء جيلها؛ فتحسد شباب «هذه الايام الذي وعى الفتنة الكبرى ونظر الى الزاعمين بانهم «اعمدة التنوير» وادرك انهم قد اعلنوا انتصاراتهم من مواقع هزائمهم...»، الى ما هنالك من وصف لهذه «الهزيمة العلمانية النكراء التي اخلت المكان لـ»العودة»، او بالاحرى لتصور العودة الى «الاسلام الاول»...
لكن الواقع اقل بعثا على الزهو: النصر الواضح، البديهي، الذي لا ادنى شك فيه، هو انتصار على اجساد النساء والشابات والبنات. وعكس المقصود ايضا لا يقل وضوحاً. فالشاطىء المسكون بالهوية كما تراها وتفرح بها نجمتنا، اضفى مزيداً من الجنس، والايروتيكية الجنسية على اجساد اللواتي تتردّدن عليه. فمن جربت «السباحة» بثيابها تعرف انها لا تسبح، بل تجرّ هذه الاقمشة بما تمكنت من جرّ؛ خاصة عندما تثقلها المياه فيتضاعف وزنها، وتصبح وزراً لدى خروج صاحبته منها. وهذه الثياب لا تجف الا ويكون التصق بجسد المرأة التي تلبسها مزيج قارص من الرمل والملح. فما بالك عندما يكون بديل المايوه «الفاضح» هو «الجلباب السميك والطويل»؟ ومع ذلك، فالجنس هو الحاضر الوحيد في هذه الحالة. فالشاباب حبيسات هندامهن، الممنوعات من الحركة والراحة يجرجرن بثيابهن المبللة الملتصقة بنتؤات اجسادهن ما يكفي لتفسيرها... هن في الواقع صاحبات «فتنة» اكبر من «فتنة» لابسات المايوه. فهذا الاخير يبدو بريئا طاهرا امام تموجات الجسد المستسلم والمبلل والمغطى بالف قماش... فلا ترى في هذه الشواطىء «المؤمنة» غير عيون زائغة هائجة، لا شيء طبيعي في سلوك اصحابها. وكأن العلاقة بين الجنسين على شواطىء البحر قصاص للجسد على «فتنة» لا تردعها غير الحصون. وقد لا تردعها!
كان الاجدى بالنجمة الاسلامية ان تتوسل المسابح غير المختلطة مثلا، وهي اقرب الى تصور «العصر النبوي» الذي تعتقد نفسها ذاهبة نحوه. هذا كي لا نقول بان «انتصارا» كهذا على حضارة الغرب بمشهد بحري كهذا امرٌ مثير للشفقة على اصحابه. فالكاتبة تجهل، او تتجاهل، ان وجود النساء على شواطىء المدينة، بالحجاب الشرعي او بالمايوه، هو نفسه نتاج الاحتكاك بالغرب والتأثر به. قبل هذا الاحتكاك كانت نساء المدن الحرّات لا يظهرن الا للقبر. النساء في الداخل فحسب، في المنازل، خلف الاسوار الحريمية. تلك كانت الوضعية. بعد الغرب والحداثة، لم يعد هناك امرأة في البيت. صرن في العمل، في التعليم، في التنزه... وعلى شواطىء الاسكندرية!
والارجح ان الغرب الآن ليس مهتما ان اعتمد المايوه على شواطىء الاسكندرية، ام الجلباب الشرعي. لا احد من الغرب يجادل. وقد يضحك في سريرته من هذه الدونكيشوتية السمِجة والخطيرة في آن.
المهم في الداخل. ماذا يحصل في الداخل. الاسلامية السياسية اطلقت ديناميكية صراع اهلي ضد «العلمانيين». فحيثما تحل وتغلب، بالقول او بالسلاح، تصوّب كل عداوتها ضد عدو «علماني»، لم يعرّف إلا تعريفا فضفاضاً (مقصودا على الارجح)... اما الذين يسمون انفسهم «علمانيين»، فيمارسون الآن اقصى «التقية». خوفا من الجزر والنهر والترهيب والتهديد والتكفير. يخافون على ارواحهم، على مكانتهم، لأن الشامتين بـ»هزيمتهم» تفصلهم خطوات بسيطة عن العنف الاقصى، أي القتل. «حماس» مؤخراً فرزت سجناءها بين «حمساوي مؤمن» و»فتحاوي كافر علماني». اطلقت سراح الاول، وابقت الثاني، «العلماني»، سجينا عندها... وقد تكون صفّتهم، بعدما صفّت رفاقهم «الفتحاويين الكفار» الآخرين وهم طلقاء.
نجمتنا الاسلامية كانت ذات يوم يسارية. تقول انها لم تسبح بالمايوه يوما. وقد تكون صادقة. ولكن ما لا تستطيع نكرانه انها طافت اوروبا بـ «الشورط الحامي» و»عبر الاتو ستوب». ما المشترك بين ماضيها «الايديولوجي» وبين هدايتها الدينية الجديدة؟ انها تصرخ بها صراخاً. انها تنسف ماضيها الشخصي الذي هو جزء لا يتجزأ من التاريخ وتستبدله بآخر... ليته هو نفسه الذي تدعي بانه يعود. تصرخ ولا تحاور بالتالي. انها اسيرة الغضب والمرارة. وصورة هذين الغضب والمرارة على الشاشة. لا تناقش، بل تتلو الدعاوى والعقائد. فقط «خلعت» اليسار، كما خلعت قبله «تقليدية» اهلها. لتعود الى تقاليد اخرى ليست تقليدية. فتخوض بذلك حربا ثقافية اهلية على انقاض يساريتها السابقة، التي تسميها «علمانية الخمسينات والستينات»... وكأنها ليست هي المسؤولة عن «إنحرافها» السابق عن دينها ايام يساريتها الغابرة. فتوقع على جثة العلمانية الهامدة المزيد من التمثيل، لعل حربا اهلية تندلع بنار المناكدة والشماتة والانتصار...
وشر البلية ما يُضحك: ان يسمى كل ذلك «إنتصاراً».
دلال البزري
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد