مستثمروا خرجية التلاميذ في المقاصف المدرسية
لم نكن نعلم ان ذلك الشخص الذي كان يبيعنا في المدرسة البوشار، والعلكة، والكازوز، هو مستثمر، ونافذة البيع تلك هي مقصف مدرسي..
ولو كنا نعلم لتشكلت لدينا حينها ثقافة اقتصادية بدائية على الأقل، ولا أعلم إن كان المعلمون على علم بذلك كله.. فما المعنى الحقيقي لما حدث ويحدث..؟!.. وفي التفاصيل..
رغم ما تحاوله الوزارة حالياً من اعادة توصيف ماله علاقة بالعملية التربوية والتعليمية المناطة بها، إلا انها وعلى ما يبدو ما زالت غافلة عن موضوع ما يسمى بـ «المقاصف المدرسية» الذي ما زال قائماً منذ عقود، لأن المسألة ذات تأثير غير مباشر على الطالب.. والمقاصف المدرسية، لا تحمل معنى مفهوماً، وما هي إلا عبارة عن غرفة من غرف المدرسة أو «كشك» يوضع داخل المدرسة وعلى نفقة المستثمر.. وعادة ما تعلن مديريات التربية عن مزايدة بالظرف المختوم لاستثمارها.
تابعنا واحداً من هذه الاعلانات، وقد صدر عن مديرية تربية ريف دمشق، ومن خلال عدد من الوثائق عرفنا ما الذي كان يحدث.
مزايدة أولى وثانية معاً
في عام 2005 وبموجب الكتاب رقم 4702/3، أعلنت مديرية تربية ريف دمشق عن مزايدة بالظرف المختوم لاستثمار مقاصف مدرسية للمرة الأولى والثانية، لمدة ثلاث سنوات دراسية بدءاً من عام 2005 وحتى 2008، وأعطت مهلة لتقديم العروض حتى 31/7/2005 على ان تفض العروض في اليوم الثاني.
وتضمنت قاعة المقاصف المدرسية ذات الرقم 5179/3، تاريخ 25/7/2005 أسماء المدارس وعدد الطلاب والحد الأدنى للمزايدة، وقد بلغ عددها بحدود 125 مقصفاً، ومن خلال تدقيقنا وجدنا ان الحد الأدنى للمزايدة متفاوت حسب نوع المدرسة (ح1، ح2، ثا)، وعدد طلابها، فإذا كانت المدرسة حلقة أولى، وعدد طلابها مثلاً 300 طالب، فإن الحد الأدنى يساوي 7500 ل.س، وإذا كانت حلقة ثانية، فإنه يساوي 12000، وإذا كانت ثانوية، فإن الحد الأدنى يصبح 16500 ل.س، مما يعني وبقسمة الحد الأدنى على عدد الطلاب توصلنا إلى انه قد تم تقدير حساب المصروف اليومي للطالب في الحلقة الأولى بـ 25 ل.س يومياً، وفي الحلقة الثانية بـ 40 ل.س، وفي الثانوية بـ 55 ل.س يومياً.. وهذه التقديرات واحدة سواء أكانت المدارس في المدن أم في القرى.
وعلى مايبدو، فقد وضعت هذه التقديرات دون معطيات أو دراسة حقيقية، وبعد فض العروض، عُرف الأشخاص الذين رست عليهم المزايدة، وتمت المباشرة بإجراءات عقود الاستثمار، تحت عنوان: «عقد استثمار مقصف مدرسي»، ونظمت العقود بناءً على نظام العقود الصادر بالقانون 51 تاريخ 9/12/2004.
ونقرأ في دفتر الشروط الفني والحقوقي لمزايدات المقاصف المدرسية المنشور تحت رقم 1029/22 تاريخ 22/8/2006، حيث توضح المادة الأولى ان الغاية من هذه المزايدة استثمار المقاصف المدرسية المبينة في جدول المزايدة وعلى وضعها الراهن، وذلك في حال توفر غرفة لهذه الغاية أو يقوم المستثمر بتركيب (كولبة) على نفقته.. وضمن الشروط الخاصة للمقاصف، فإنه لا يحق للمتعهد التراجع أو المطالبة بفسخ العقد، ويوضح الدفتر الشروط الصحية وشروط النظافة والمأكولات والمشروبات المسموح ببيعها في المقصف والكولبة.
وحدد الدفتر كذلك العمل والدوام في المقصف والكولبة، بدءاً من الحصول على موافقة مديرية التربية في تشغيل أي عامل، والالتزام بنظام المدرسة، ويشترط ان يكون العامل ذكراً في مدارس الذكور، وأنثى في مدارس الإناث، والبيع في أوقات الفرص، ويخضع المستثمر لإشراف إدارة المدرسة ومديرية التربية.
وأوضحت المادة السادسة من دفتر الشروط، ان مدة الاستثمار حسب ما ورد في الاعلان عن المزايدة ووفق الاعلان، فإن مدة الاستثمار هي ثلاث سنوات، لكن محافظة ريف دمشق ومديرية التربية وبعد الانتهاء من الإجراءات، ولدى التصديق على العقود، تراجعت عن المدة، لتختصرها إلى عام واحد، ليبدأ المستثمرون بالاحتجاج، لنتعرف بعدها على التفاصيل.
لكن المحافظة ومديرية التربية كانتا قد صدقتا على بعض العقود وتراجعت عن الأخرى، مما زاد في إثارة التساؤل.. فالعقد رقم /44/ المتعلق باستثمار مقصف مدرسة بنات جسرين - حلقة ثانية قد صدق وفق ثلاث سنوات كمدة استثمار.. وفي العقد رقم 107 والعائد للمستثمر نفسه، تم شطب عبارة 3 سنوات ليكتب بدلاً منها سنة واحدة، (مقصف مدرسة حرستا السادسة - بنات حلقة أولى).
نتوقف هنا للإشارة إلى ان إدارات المدارس عادة ما ترفع كتباً إلى مديرية التربية تبين فيها حاجة المدرسة إلى مقصف نظراً للحاجة إلى مال من أجل المصاريف اللازمة للمدرسة، وبالتالي تطلب إجراء ما يلزم لاستثمار هذا المقصف (لدينا كتب من هذا النوع)، وعلى ما يبدو ان الهدف الأول هو المصاريف، أما يتعلق بالرقابة والإشراف، فهي أمور لم تكن بالأولية، حتى ان مستثمراً في ثانوية الغوطة الشرقية قد هرب دون ان يدفع المبلغ المترتب عليه، رغم انه تم تحديد غرامة التأخير عن دفع بدل الاستثمار بنسبة 1 ٪ عن كل يوم تأخير، شريطة ألا يزيد مجموع الغرامات عن 20٪ من قيمة بدل الاستثمار، ويسدد بدل الاستثمار السنوي خلال خمسة أيام، من استلام المباشرة، ولا يسمح للمستثمر بدحول المقصف إلا بعد إبراز شعار الدفع واستلام كتاب من مديرية التربية، فكيف دخل واستثمر وهرب، وكيف سمح له بذلك..؟!.. ليس مهماً.
وبالعودة إلى ما حدث لاحقاً بعد رفض تصديق عدد من العقود بعد ان رست المزايدة على من رست عليه، فإن بعض المستثمرين تحدثوا عن ضرر لحق بهم بسبب عدم تنفيذ التعاقد، وان هناك أموالاً قد فوتت على خزينة الدولة بسبب ايقاف التعاقد مع العديد.
عرض الموضوع على وزارة الإدارة المحلية والبيئة، التي طلبت من محافظة ريف دمشق مذكرة تفصيلية مشفوعة ببيان الرأي والمقترح، وقامت المحافظة بدورها وعلى الكتاب نفسه بمخاطبة مديرية التربية ببيان الواقع مفصلاً والاعادة، ومن ثم إلى الدائرة القانونية في مديرية التربية.
والمستغرب هنا، هو مبرر هذه الاحالات، على كتاب أُرخ في 22/11/2006، بينما محافظة ريف دمشق قد أعادت في كتابها رقم 4167 تاريخ 14/9/2005 اضبارة مشروع استثمار مقصف مدرسة حرستا السادسة بنات، وقالت فيه: انه وبعد عرض الاضبارة على المكتب التنفيذي، تم اقرار عدم الموافقة على تصديق العقد وذلك لرفع سعر العقد واعادة الاعلان.
على كل، الشؤون القانونية رفعت كتاباً إلى مديرية التربية، اقترحت فيه احالة الموضوع إلى شعبة العقود لبيان الواقع وسبب عدم التنفيذ.. وبعبارة: نحيطكم علماً، بدأت العقود، في كتابها رقم 5634/11 تاريخ 3/12/2006، وانه تم توقيع مشروع عقد من قبلنا مع المذكور وفق الأنظمة والقوانين أصولاً، وعادت اضبارة العقد بسبب عدم موافقة المكتب التنفيذي وذلك لانخفاض الأسعار وطلب رفع سعر العطاء واعادة الاعلان، ثم تمت الموافقة على تصديق عقود المزايدة الجارية في 1/8/2005 شريطة رفع العقود بنسبة 20٪ من قيمة العقد، وتخفيض مدة الاستثمار من 3 أعوام دراسية إلى عام دراسي واحد، فتم تصديق العقد من بين تلك العقود في جلسة المكتب التنفيذي رقم 99 تاريخ 23/12/2005 وعاد الكتاب في رحلة العودة.
في المحصلة فإن محافظة ريف دمشق وافقت على تصديق 25 عقداً من أصل 75 عقداً، وفق صيغة الاعلان ونظام العقود المتبع حيالها، ثم أعادت العقود التي لم تصدق بعدم الموافقة لرفع قيمة العقد 20٪ وتخفيض مدة الاستثمار إلى عام دراسي واحد، مما دفع بالمتضررين من الذين رست عليهم المزايدة للشكوى والمطالبة بتطبيق نظام المزايدة كما تم الاعلان عنه، ووفق الشروط التي وضحت في دفتر الشروط.
وفي قراءة لعقد استثمار نجد انه قد ورد في المادة /10/ من حيث انه ينبغي عدم تحديد عدد الطلاب أو التلاميذ في المدرسة التي تم التعاقد عليها في العام الدراسي، فإن للفريق الأول (التربية) حال زيادة العدد أو إنقاصه تعديل قيمة العقد بما يتناسب مع هذه الزيادة أو النقصان، ولا يحق للفريق الثاني الاعتراض على قيمة التعديل أو تاريخ بدء نفاذه، ولا يحق له الاعتراف على الزيادة أو النقصان.. فهل استندت المحافظة على هذه المادة..؟!.. وإذا كان كذلك، فالمادة توضح مسألة تعديل قيمة العقد فقط، دون التطرق إلى تخفيض أو تعديل مدة الاستثمار..؟!.
ولاحقاً، وفي قائمتين، الأولى حملت الرقم 1098/22 تاريخ 27/8/2006، وحملت العنوان التالي: مزايدة مقاصف مدرسية، بقي الحد الأدنى للمزايدة بصفة سرية غير معلنة، والثانية حملت الرقم 5950/10 تاريخ 16/12/2006 حيث تم توضيح ذلك الحد الأدنى.
وبمطابقته مع القائمة التي صدرت في عام 2005، وبسببها أثيرت المشكلة، وجدنا ان نقصاً قد حصل في عدد الطلاب، رغم مضي أكثر من عام ونصف بين قائمتين.. ففي قائمة 2005 على سبيل المثال كان عدد طلاب مدرسة جرمانا بنين - حلقة ثانية 400 طالب، والحد الأدنى 16 ألفاً، بينما نقص في قائمة 2006 إلى 350، وزاد الحد الأدنى إلى 35 ألف ليرة سورية.
وكذلك بالنسبة لمدرسة سقبا الثانيةحلقة 1، فقد نقص العدد من 800 إلى 791، وزاد الحد الأدنى من 20 ألفاً إلى 62480.
مما يعني ووفق نظرة محافظة ريف دمشق، كان متوسط المصروف اليومي لطالب الحلقة الأولى قد صار 80 ل.س، ومتوسط المصروف اليومي لطالب الحلقة الثانية قد ارتفع إلى 100 ل.س.. ونعود لنسأل ثانية: وفق أية دراسة وأية معطيات نقص عدد الطلاب وارتفع متوسط المصروف اليومي من 25 أو 40 ل.س إلى 80 أو 100 ل.س..؟!.
هالة رزق، عضو المكتب التنفيذي المختص لقطاع التربية والرياضة والشبيبة، قالت: منذ عقود والأمور تمشي على قاعدة 25 ل.س للطالب في الحلقة الأولى، و40 ل.س للثانية، و60 للثانوي، وعلى مستوى العام كله، ومن ثم تأتي العقود إلى المحافظة لتصدق دون تدقيق، ودون الانتباه إلى مسألة التوزيع المناطقي، وعملت كموجهة تربوية، ثم أصبحت عضواً في المكتب التنفيذي وأجبرت بعد تسلمها مديرية التربية بعدم ابرام أي عقد.. وتضيف: والملاحظ ان هناك عدداً من المتعهدين احتكروا هذا الاستثمار لسنوات، حيث الأسماء هي ذاتها تتكرر كل عام، وذلك بالتنسيق ما بين تلك الأسماء وعناصر من التربية في عمل أشبه بالعمل المافيوي ومنذ 20 سنة وعلى حد قولها، فإنه تمت المباشرة بتدقيق العقود والقوائم السابقة، واكتشفت ان هناك حللاً ما، وعرض الموضوع على المكتب التنفيذي فاتخذ قراراً باعادة الاعلان ورفع نسبة العقود.
وتم الاعلان عن عرض جديد، ولكن تضررت مصالح من احتكر الاستثمار وأخذوا بإثارة المشكلات وحاولوا منع الكثيرين من التقدم للاعلان، وأخذوا بالضغط ليعيد المكتب التنفيذي وجهة نظره فيما يخص مدة الاستثمار واعادتها إلى ثلاث سنوات.. وعندما سألناها بأن نصوص الاعلان واضحة والشروط واضحة، فلماذا تمت عدم الموافقة..؟!.
أجابت: بأن ما قام به المكتب التنفيذي هو فعل قانوني، ونصوص العقد واضحة طالما ان العقد شريعة المتعاقدين.
وتساءلت: لماذا لم يتقدم من زعم انه تضرر إلى المزايدة الجديدة؟.. ولماذا لم يعترض على السعر واعترض على المدة فقط؟.
وقالت: ان لجنة شكلت لفض العروض ولتقدير الأسعار بشكل سري، وكشفت ان لجنة العقود في المحافظة قد أحيلت إلى الرقابة الداخلية والتفتيش بسبب الأخطاء والتجاوزات التي حدثت سابقاً.
من المؤسف حقاً، ان جدل المقاصف المدرسية، يؤطر في شقه المادي فقط، دون النظر وباهتمام إلى الجوانب الأخرى المتعلقة بأثر وجود ذلك النوع في مدارسنا ومدى جدواه، وكيف يراقب.. ولا أحد يفكر أو فكر في علاقة تلك المقاصف بما يسمى بالنمط الاستهلاكي وتشويهه أو تهذيبه لدى الأطفال، طالما ان مدارسنا عموماً ذات صبغة ايديولوجية معينة.
وإذا ما بقيت في الإطار المادي، فعلى أي أساس تم تقدير وحساب متوسط المصروف اليومي للطفل السوري سابقاً ولاحقاً، بحيث وصل إلى 100 ل.س، ثم إذا كان هناك نية تطويرية لدى المحافظة أو مديرية التربية، لماذا لم توضع سابقاً بشكل صريح وقبل الاعلان عن المزايدة، وانشغال الجميع بذلك الاعلان مدة ليست بالقصيرة..؟!.
الأمر لا ينطبق حتماً على محافظة أو تربية ريف دمشق.. فالصورة تتكرر في باقي المحافظات والمديريات، وقد تكون هناك أمور لا نعلم بها وما خفي كان أعظم.. لذلك لا بد من اعادة تقويم هذه المسألة وفق أسس تخدم بالمقام الأول العملية التربوية وأطفالنا أولاً وأخيراً، ثقافةً ونشأةً ورعايةً.. ثم لو تم حساب عائدات استثمار تلك المقاصف على مستوى مدارس القطر، لكان المبلغ بعشرات الملايين ظلت قيد التداول حصرياً بين أصحاب الشأن.
غسان الصالح
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد