مقطع من رواية "روائح حارة المؤيد" لعماد نداف
الجمل ـ عماد نداف:
ملاحظة :
أصيب فادي عبد الرحمن خلال الحرب في سورية بشظية إثر انفجار سيارة مفخخة في دمشق، مما تسبب بالتهاب في رأسه، ولم تستطع تدخلات الطبيب السيطرة على نوبات الحمى التي أصابته، وتقوم أحداث الرواية على هذيانه! والنص التالي الذي أرسله لنا الكاتب السوري عماد نداف هو فصل من الجزء الثاني من رويته : روائح حارة المؤيد :
****
الغيومُ غطّتْ الشمس. جاءتْ العتمة باكراً. توقفتْ أصواتُ القذائف. كأن القذائف ندِمتْ فصمتَتْ. لا أصدق أن الدكتور رضوان المؤيد كفَّ بلاهُ عنّي ومات. لا أصدق. بكوا جميعاً. استعادوا حركاته. قالت فدوى : كان واثقاً أن إصابة فادي بسيطة. كان يروح ويجيء في الغرفة وكأنه هو المحموم وليس فادي. مسكين أصابته قذيفة فموتته بدون حُمّى . وقالت مزنة : مابصدّق . خسارة . وقال حامد لاحول ولاقوة إلا بالله ..
سمعتُ بكاءً . وسمعتُ صوتَ تنظيف أنف بمحرمة. وسادَ صمتٌ . كأنهم ذهبوا ليتفقدوا الطبيب الدمث . وأنا كنت صامتاً أيضاً . لم أحزن . ولم أقل شيئا . لم أكن أريد أحداً .. أحسستُ أني أريدُ النوم . ناموا جميعاً. الأمير الجزائري ظل ساهراً معي. كان واهن الجسد يتكئ على عكازة من الخيزران. كان وجهُه مشعشعاً بالنور. حمل بيده كمّادة بيضاء واقترب مني وهو يتمتمْ . وضعها على رأسي . أحسستُ أن الحرارة خفّتْ . شعرتُ بالراحة . مسحةْ رسول كانتْ . قلتُ . سأنام . لم أنم . أنا بين النوم واليقظة. ذهبت إلى الجسر الأبيض. كان ذلك منذ زمن طويل . طويل . دخلت الجامع . رأيت شيخاً يجلس على الأرض ولا يُصلّي . كان يجلس عند الدرج الصاعد إلى المئذنة. يلتف الدرجُ صاعداً لتنكشف في جهة اليسار فُسحة تشبه القاعة وتطل على صحن الجامع بنوافذ خشبية مستطيلة محكمة الإغلاق. كانت القاعة واسعةً وباردةً وفي زاوية منها يجلسُ رجلٌ كبيرٌ يشبه الشيخ. على رأسه طربوش أحمر، وعلى الطربوش خصلة من خيطان حريرية صفراء. تحلّق حول الرجل عدة أولاد يجلسون وكأنهم يتعلمون حروف اللغة العربية في أحد كتاتيب الخجاتي!
شاهدني الرجل فقال اقعدْ يا ابني. هذه أول مرة أراك فيها هنا. عرّفْنا على حالك يا ابني. قلت وأنا أنظر إلى خصلة الخيطان الصفراء: أنا فادي أريد أن أطلع على المادنة. ضحكَ الرجل . سعلَ واهتزّ الطربوش الأحمر فوق رأسه ورقصتْ خصلة الخيطان الصفراء من السعال وقلتُ له أنا تبرعت للجامع بعشرة قروش . فقال الحسنة بعشرة يعني صاروا مائة . سألتُه من يعطيني المائة . قال الله . . قلتُ أين هو. قال فوق في السماء وإليه نصلي كل يوم خمس مرات . سألته لماذا تجلس ولاتصلي .أجاب أنا أصلي أحيانا هنا في غرفتي خارج الحرم و الله يقبل كل شيء يا ابني. المهم النية الصادقة في العبادة وفعل الخير . سألته ما عندك بيت فقال: هذا بيت الله وأنا أسكن فيه.
قلت له : يعني أنا أقدر أن أسكن بالمادنة . قهقه الأولاد وقال واحد منهم : الشيخ الجزائري الأمير ما بتعرفه. فقلت لأ . ما بعرفه. طلبوا مني أن أجلس وأسمع . جلستُ وسمعتُ . . قال الأمير الجزائري لازم نحب ألله قال : حبوا ألله وبلادكم الله حاميها. نحنا في الجزائر دافعنا وعم ندافع عن بلادنا والله معنا سنطرد الفرنساوي. واجبنا الديني الدفاع عنها. سألته: طيب كيف اليهود أخذوا فلسطين وأخذوا القنيطرة من الشراكس وماحدا دافع عنها . ابتسم . قال لكي نصحصح .. اسمك فادي يا فادي يوجد حكمة من وراء كل قصة.. تركنا ديننا فأراد الله أن يذكرنا. قال تعالى: يا حسرة على العباد لا يأتيهم من رسول إلا وكانوا به يستهزؤون صدق الله العظيم!
وسألني الأمير الجزائري هل تحفظ جزء عمّ في القرآن الكريم يا فادي . قلت لأ . حافظ قل هو الله أحد والحمد لله رب العالمين قال: لا. لا. ما بيصير لازم تحفظ جزء عمّ فقلت: أحفظه إذا تركتني أصعد إلى المادنة فقال بهدوء ووقار: خذوه . خذوه يا شباب إذا كان يحب المئذنة فهذا يعني أنه يحب الجامع والجامع بيت الله، ولكن انتبه ابق بحدود الدرابزين!
صعدتُ إلى المئذنة والدرج يدور ويفتل وأنا أدور أفتل أحس بالدوار أصير في أعلى المئذنة . أرى ممر ضيق ودرابزين . خفتُ . شعرتُ بالدوّار. ثم تجرأتُ . أمسكتُ خشب الدرابزين، ورحت أراقب كل شيء. رأيت جبل قاسيون . أحسستُ أنه قريب. أحسستُ أنه يريد أن يحكي معي. رأيتُ بيوته وكأنها تعمشقت عليه . نظرتُ إلى أسفل فرأيت الجسر الأبيض ونوري باشا. بحثتُ عن ديمة بين المارة الصغار الذين حدّقتُ بهم من فوق فلم أجدها. لم أجد ديمة.. ناديت من فوق : أين أنت ياديمة.. ديمة . مة .. مة ..مْهْ ؟
كان الجسر الأبيض يغلي بالناس. ناس في كل الاتجاهات. ناس يذهبون وناس يأتون. كلٌ ينظرُ في اتجاه. لا أحد ينظرُ إلى فوقْ. لا أحد ينظر إلى أعلى المئذنة. لا أحد ينظر إليّ . رأيتُ حارتنا. حارةُ المؤيد . لم تكن حارتُنا كما أراها من تحت . كانت حارة أسرار. حارة لها رائحة. منذ ذلك الوقت صرت أحب رائحتها. رائحتها لا تروح أبداً من أنفي. شممتُ رائحتَها من فوق. عندما أشم الرائحة من فوق لا أنسى أبداً تلك الرائحة. خرابُة بيت المؤيد وبيتُنا لا يظهران . تظهر دكان أبو صلاح في رأس الحارة . نظرتُ إلى الشام . هذه هي الطريق إلى الطلياني . وهناك في الشارع الفرعي كان يسكن جارنا شكري القوتلي. وتلك البعيدة هي بناية الكويتي . أعلى بناية في الشام. هذه سوق الحميدية .. يا ألله ما أجمل الشام من فوق.. تصورت نفسي حمامة . كنت أحلم كثيراً أنني حمامة. قلتُ لجدّي ذات مرة ياجدي لماذا لا نطير. وجدّي شيخ عمره تسعون سنة . يصلي . لايمل من الصلاة . عندما يتوضأ صباحأ يغمر رأسه بماء البحرة البارد ، ثم يُخرٍج رأسه تتساقط منه حبات الماء، ويشهق. عندما سألته شهق جدّي. كأن رأسه كان في الماء. ذقنُه بيضاء مثل الأمير الجزائري. لكن ذقن جدّي طويلة. تحركت ذقن جدّي البيضاء. قال لي بعد أن فكّر : نحنُ لسنا حماماً. الحمام يطير. نحن لا . . ومن وقتها صرتُ أحلم أنني حمامة لكي أغيظ جدّي. كنتُ أرى حارة المؤيد من فوق أحلى. شاهدت بيت مزنة من فوق. بيت كبير واسع فيه أشجار. ناديتها . مزنة . مزنة . نة . نة . نْ . لم تسمعني . كأنها نائمة. شاهدت بيت أبو صلاح من فوق .بيت واسع فيه بحرة وأشجار. شاهدت كل تفاصيل الحارة . تذكرت الأمير الجزائري وهو يحذرني أن أتخطى الدرابزين . صرختُ من فوق: رُحْ يا أمير . رُحْ يا ستين عاماً في بيت الله. رُحْ يا جدي يا ذقن طوية بيضاء. رُحْ . رحْ . رحْ . حْ. حْ . وانكسر الدرابزين. صرتُ أطير مثل الحمامة . طرت فوق الشام. فوق بيوت كلها حكايات. فوق بيوت تفوح منها رائحة ياسمين وخبّيزة وزهر الليمون وزهر البابونج. وقلتُ سأذهب إلى سوق الحميدية. وذهبتْ. كان هناك خلق كثيرون. شاهدتُ جمال عبد الناصر. حملني أبي على كتفيه. مثل البطيخة المدورة جلستُ على كتفيه. قال انظر بابا. انظر إلى جمال عبد الناصر.. ونظرتُ لم يكن جمال عبد الناصر كان سوق الحميدية معتما ً وفيه خلق كثيرون. جاءت سيارة سمينة سوداء مكشوفة. وفيها رجلٌ أسمرٌ طويلٌ يلوح بيده. صاح أبي من جديد: السيارة المكشوفة يافادي.. انظر هاهو أبو خالد يقف فيها.. وأنا بطيخة صغيرة مدورة جلست على كتفي أبيها قلت لجمال عبد الناصر: ماذا تفعل في سوق الحميدية؟
فقال: الوحدة العربية . بيّة . بيّة. القومية العربية. بيّة . بيّة. فلسطين. والإستعمارررررر ..رْ. سمعتُ نبض أيادٍ كثيرةٍ . ورأيتُ حناجرَ تهتف بدون سعال وعبد الناصر يردد: الإستقلال ل ل ل لْ وأرعد الناسُ موجات وموجات. سقطتْ البطيخة المدورة بين الموجات. سقط فادي بين الرعد. كاد يختنق لولا أبوه .. انثقب سقف سوق الحميدية من رعد الموجات. خرج الرعد منه. صار حماماً وطيوراً وصهيلاً وصلاة . فهَمْهَمَ أبي في الحارة : عبد الناصر صلى في الأموي يا أبو صلاح وأنتم تقولون عنه إنه كافر. اصطكت أسنان أبو صلاح.. قالت أسنانه: السياسة يا أبو حامد. فرد لهاث أبي : عبد الناصر صلى عن حق وحقيق!
كانت المظاهرات تدور في الشام.. مع عبد الناصر . مع شكري القوتلي . مع الوحدة العربية . مع فلسطين . قال أبي عن القوتلي . هذه أعجوبة . رئيس يتنازل عن الحكومة . القوتلي أكرم رجل في العالم . تخلى عن زعامته من أجل الوحدة . قال عمي القوتلي أذكى رجل في العالم. وصار حديث طويل . عبد الناصر والقوتلي . وأكرم الحوراني. وعبد الحكيم عامر . والانفصال ل ل ل ل ل ْ
لم أعدْ حمامة. وقعتُ من فوق. وقعت على حرف اللام في كلمة الانفصالْ. نزلت عن المئذنة حزينا . جلستُ على الدرج. دعوتُ ربي . دعوتُه من قلب مهزوم . يارب اجعلني حمامة. لم يجعلني اللهُ حمامة. نزلتُ عن الدرج إلى مكان الأمير الجزائري كان يحمل كمادات ماء بارد ..سألتُه معك حمى ؟! فجاءت الحمى . الحمى تأتي ولاتروح . الحمى لاتذهب أبداً . الكلُّ نيام . لا أحد يضع كمادات على رأسي . الأمير الجزائري وضع كمادات . راحت الحُمى . وعادت. جاء صوت أبي . صوت أبي مثل هدهدة لطفل نعسان . قال أبي لأمي . حامد صار شبّْ . كانت أمي تجلسُ قبالة أبي تشرب الشاي. قالت أمي فدوى صارت عروس وضحكتْ. وكانت أختي فدوى فتاة صغيرة كبيرة العيون تحلم أن تصير حمامة. قال أبي . فادي وُلد أيام العدوان الثلاثي . قالت لأ . يا أبو حامد وقت خطب عبد الناصر من الجامع بمصر .كان فادي وَلْدان وخالص. كان صغيراً . كنا نخاف يصير شي . كنا نخاف تجي الحرب للشام ويصير شي. وغنى العرب : وطني حبيبي .. وطني الأكبر .. الشام وقفت مع عبد الناصر. وقالت أمي الناس بتحب عبد الناصر . قال أبي . بحرب الستوخمسين بيّن العرب من غير العرب. قالت أمي النسوان بيحلفوا براس جمال عبد الناصر. قال أبي النسوان حلفوا من قبل براس أكرم الحوراني وغنوا له .. قالت أمي تركوه وقت الانفصال . قال أبي تركوا الحُسين قبله . قالت أمي كنا نتباهى لو ظل شكري القوتلي جارنا . قال أبي . ربما ندم . الله معه. صار بلبنان ..
إضافة تعليق جديد