أحلام اليقظة... مرض نفسي أم نشاط دماغي مبدع؟
يحلم أن يكون لاعب كرة قدم من الطراز الرفيع ليتذوق طعم الشهرة والسعادة والثراء. الدماغ التقط الرسالة، فقام في غفلة من الزمن بنسج خيوط فيلم قصير يحقق فيه الحالم هدفاً يصعب تحقيقه على أرض الواقع... إنه حلم في اليقظة حقق له ما يريد في غمضة عين، لكنه حلم في عالم افتراضي، كحال الشاعر المتيم قيس عندما يقول:
«تحدثني الأحلام أني أراكم فيا ليت أحلام المنام يقين».
إن أحلام اليقظة تشبه تلك التي تزور الشخص في عالم النوم، لكنها تتميز عنها بكونها تحدث في عالم اليقظة الذي يطير فيه الحالم فوق السحاب على أجنحة من التخيلات المرئية طمعاً في تحقيق الأمل المنشود. وفي الحال الطبيعية يستغرق هذا الحلم فترة قصيرة جداً من دون أن تتعطل النشاطات اليومية، أما إذا حلت أحلام اليقظة على صاحبها في حلّه وترحاله بحيث تعرقل ممارسته مسؤولياته، فعندها تصبح مضيعة للوقت والجهد، وقد تبرز المشاكل على كل الصعد المهنية والدراسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
كثيرون ينظرون إلى أحلام اليقظة بسلبية، لكن الدراسات الحديثة كشفت أن لها أهمية فريدة، خصوصاً عندما تأتي من حين إلى آخر وضمن الحد المعقول والمقبول، فهي ظاهرة طبيعية تحصل لجميع الناس صغاراً أكانوا أم كباراً، نساء أكانوا أم رجالاً.
لكن، هناك تباين في وجهات النظر حول تفسير أحلام اليقظة، فالبعض يعتبرها نتاج مواقف لا شعورية يرغب الإنسان في تحقيقها، في حين يؤكد آخرون أن سيناريو أحلام اليقظة تصنعه شبكة من الخلايا العصبية الدماغية التي تعمل على إخراج الإفكار إلى صور خيالية، وهذه الوظيفة لا تحدث عندما يكون الشخص منهمكاً في عمله، بل في أوقات الفراغ، وقد تبين أن هذه الشبكة تستهلك طاقة أكبر مقارنة بالمناطق الدماغية الأخرى.
ويقول البروفسور جيروم سينجر استاذ علم النفس في جامعة يال الأميركية إن أحلام اليقظة تحويل للانتباه من حالة جسمانية أو عقلية إلى مشاهد خيالية يصنعها الدماغ لدوافع باطنية.
ويمكن أحلام اليقظة أن تكون ذات فائدة إذا كانت تحمل على أجنحتها استعداداً لمواقف حياتية واقعية مقبلة، أو تحمل خطة لتحقيق الأمل في التفوق والنجاح على المستوى الدراسي أو العملي أو في محطات الحياة الفعلية.
وأظهرت دراسة حديثة أن أحلام اليقظة يمكن أن تعزز عملية التعلم في الدماغ، وتساعد الناس على تصنيف أنواع المشاكل وبالتالي تحقيق النجاح، خصوصاً أن صور الرنين المغناطيسي للمخ كشفت النقاب عن وجود مناطق لها صلة بحل المشاكل المعقدة تصبح نشيطة خلال فترات أحلام اليقظة.
وتصنف أحلام اليقظة في نوعين:
> أحلام اليقظة الإيجابية، التي تلعب دوراً بنّاء لأنها تنشّط الشق الأيمن من الدماغ، وتقوّي الروابط العصبية، وتنمّي عملية الذاكرة، وتؤدي إلى الإبداع وحل المشاكل التي يتعرض لها الفرد، وهذا كله يساهم في التحفيز الذاتي والتخطيط للمستقبل وبالتالي دعم الاستقرار النفسي والعصبي.
> أحلام اليقظة السلبية، التي تجعل الشخص يعوم في أحلامه فتدخله في معمعة من الأفكار والصور القاتمة والمواقف المخيفة والسلبية التي تغرقه في بحر من الصراعات الداخلية التي يمكن أن تقوده إلى حافة الهاوية.
وتنتشر أحلام اليقظة أكثر ما تنتشر في فترة المراهقة التي تشهد اضطرابات صاخبة، نفسية وجسمية وعقلية. ويدور جوهر هذه الأحلام عادة حول الرغبات والميول المادية والاجتماعية، كالمركز الاجتماعي المتميز، والثراء، والتفوق الدراسي، والقوة العضلية. وتختلف طبيعة الأحلام بين الجنسين، فبينما يحلم الشبان بالبطولة والمغامرة، فإن الأحلام الرومانسية هي التي تشغل عقول المراهقات. وتساهم قراءة القصص الرومانسية، بأبطالها وأحداثها، في إشعال أحلام اليقظة، وكثيراً ما تكون هذه الأحلام بمثابة صمام أمان يسمح بتحقيق ما هو بعيد المنال على أرض الواقع ليصبح أمراً ممكناً على صعيد الخيال.
وتشتد أحلام اليقظة في سن المراهقة بسبب كثرة الرغبات والمشكلات والتطلعات والحاجات التي لا يستطيع المراهقون تحقيقها في الواقع فيلجأون إلى عالم أحلام اليقظة التي قد تفضي إلى حلول واقعية... أو إلى حلول غير واقعية. وهنا بؤس المصير. ولا يجب إغفال المشكلات النفسية في سن المراهقة، فكثيراً ما تدفع أصحابها للهروب إلى عالم أحلام اليقظة.
وأحلام اليقظة شائعة أيضاً عند الأطفال، فالمعروف عن هؤلاء أنهم يتمتعون بالخيال الخصب الذي يمكنهم من التغريد لبعض الوقت بأفكارهم بحرية ومن دون قيود، ما يعطيهم الفرصة للابتكار والإبداع. أما إذا سرح الأطفال بأفكارهم وخيالاتهم بعيداً إلى درجة الانغماس فيها وبالتالي إلى العجز عن التمييز بين الواقع والخيال، فهنا تصبح أحلام اليقظة أم المصائب.
ويلجأ الأطفال إلى أحلام اليقظة عندما يفشلون في إشباع حاجاتهم ورغباتهم، أو قد تكون هذه الأحلام تعويضاً لإعاقة حقيقية، جسمية أو عقلية. كما يمكن عوامل مثل القلق، والخجل، والإحباط، والعوز الاقتصادي وغيرها، أن تكون الشرارة التي تشعل أحلام اليقظة. وفي بعض الحالات تصبح أحلام اليقظة مجرد عادة نشأت عند الأطفال فأصبحت سلوكاً مألوفاً لديهم.
وعلى صعيد أحلام اليقظة عند الأطفال، أكدت دراسة علمية حديثة أجراها باحثون من جامعة كاليفورنيا أن هذه الأحلام تساعد الأطفال على التركيز وعلى أداء أفضل في الاختبارات، ما دعا القائمين على الدراسة إلى المناشدة بضرورة إعطاء الأطفال الوقت الكافي للتأمل والتفكير.
إن أحلام اليقظة هي من الأمور الطبيعية وهي تملك وجهين: ايجابي وسلبي، لهذا يجب العمل كي تكون هذه الأحلام لمصلحة الشخص وليس ضده.
ولئلا يسرف المراهقون في أحلام اليقظة في شكل مرضي بحيث تجعلهم عاجزين عن التفريق بين الواقع والخيال، هذه بعض النصائح المفيدة لهم:
> تأمين الاستقرار النفسي في جو الأسرة.
> حل المشاكل التي تعترض المراهقين.
> تعزيز الثقة بالنفس.
> التوجيه نحو العمل الخلاّق وزرع بذور النجاح والتفوق والثقة في النفس.
> كشف الاضطرابات النفسية باكراً وعلاجها قبل فوات الأوان.
> التواصل مع الآخرين والمشاركة في النشاطات المختلفة المدرسية والاجتماعية والرياضية والثقافية.
أما في ما يخص الأطفال فيوصى بالآتي:
1- شغل أوقات الفراغ عندهم وتنمية هواياتهم المفضلة.
2- تعزيز قدراتهم وحضّهم على العمل والمثابرة والنجاح والتفوق.
3- كشف الاضطرابات النفسية وعلاجها في الوقت المناسب.
في المختصر، إن أحلام اليقظة ما هي إلا عبارة عن مظهر لنشاط عقلي ذي طابع نفسي واجتماعي، وهذا النشاط أمر طبيعي يزور كل الناس بمختلف شرائحهم العمرية، وهو عبارة عن وسيلة يلجأ إليها الفرد هرباً من الواقع الذي هو فيه من أجل إشباع رغبات وميول يعجز عن تحقيقها في عالم الواقع.
وإذا ساهمت أحلام اليقظة في استنباط حلول خلاقة وبالتالي في تحديد معالم الهدف الذي يسعى الحالم إلى تحقيقه، فإن بوادر النجاح ستكون على الموعد. أما إذا غرق الشخص في بحر أحلام اليقظة بحيث إنها تؤثر في نشاطه وواجباته اليومية، وتخرجه من عالم الواقع إلى عالم الأوهام ، فهنا تصبح حالة مرضية.
طريق الإبداع
الإبداع وتطور الفكر والأفكار المبتكرة غالباً ما تبدأ من أحلام اليقظة. فالعديد من العلماء أكدوا أنهم مروا بلحظات من أحلام اليقظة ألهمتهم في إيجاد حلول للمشاكل التي واجهتهم، وبالتالي توصلوا إلى تحقيق اكتشافات باهرة.
وأظهرت بحوث حديثة أن أحلام اليقظة قد تساعد في فك بعض الألغاز المستعصية، لأن العقل البشري قادر على أن يجول في الخيال بشكل حر ومن دون قيود. ويعتقد البحاثة أن أرخميدس وآينشتاين ونيوتن وضعوا النقاط على حروف اكتشافاتهم عندما كانوا مستغرقين في أحلام اليقظة، وبناء عليه فقد اكتشف الأول العلاقة بين مستوى الماء وكتلة جسمه، وتوصل الثاني إلى نظرية النسبية، أما الثالث فطور نظرية الجاذبية.
د. أنور نعمة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد