نقائض العلائق بين الدين والثقافة في الزمن الحاضر
يخوض أوليفييه روا في مسألة علاقة الدين بالثقافة، وامتداداتها المختلفة ومركباتها المتعددة، ويجترح مفهوم «الجهل المقدس» لوصف الاعتقاد بـ «الديني المحض» الذي يبنى خارج الثقافات. وهو جهل يحرّك مختلف الأصوليات في عالم اليوم، ويفاقم اختلافاتها، ويوحد أنماط ممارساتها، ويعتبر في كتابه «الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة» (ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، 2012) أن ما نشهده في عصرنا الراهن، ليس عودة إلى ممارسات سلفية ماضية، بل إعادة صياغة للديني، تجسده اتجاهات وحركات لا تتماشى مع الرغبة في أوسع إمكانيةِ رؤيةٍ في الفضاء العام، إنما تريد إحداث قطيعة بينة مع الممارسات والثقافات المهيمنة، لذلك يرفض الديني أن يكون مختصراً في نظام رمزي بين أنظمة أخرى.
ومع أن العلاقة بين الدين وبين الفضاء العام تتغير مع الزمن، إلا أن عودة الدين إلى الفضاء العام تتجلى في شكل عرض لديني محض، أو تقاليد مستعادة، وليس في شكل بداهة ثقافية، الأمر الذي يشوش علاقة الثقافة بالدين، ويجعل الأشكال الدينية المسماة «أصولية» أو «كاريزماتية» تعرف انتشاراً كبيراً، سواء كانت إنجيلية بروتستانتية أو أصولية إسلامية، وبما يشكل طفرة، ويرجع إلى ما يسميه روا «زوال الصفة الإقليمية وفقدان الهوية الثقافية»، حيث لا يرتبط زوال الصفة الإقليمية بانتقال الأشخاص فحسب، بقدر ما يرتبط بانتقال الأفكار، والمواد الثقافية، والإعلام وأنماط الاستهلاك بعامة في فضاء غير إقليمي.
غير أن المادة الثقافية تحتاج كي تنتقل، إلى أن تبدو عالمية، غير مرتبطة بثقافة معينة ينبغي فهمها قبل إدراك رسالتها، فيما ينتقل الديني خارج المعرفة، ذلك أن الخلاص لا يتطلب معرفة، بل إيماناً، والاثنان بعيدان من أن يكونا متعارضَيْن في أديان مُنزلة في الثقافة تنزيل الجوهرة من الخاتم، ومطوِّرةٍ تفكيراً لاهوتياً منتعشاً بالتماس مع الفلسفة والأدب.
ويتناول أوليفييه روا مفهومً الثقافة وفق المعنى الذي يعتمده علماء الإناسة وعلماء الاجتماع في معالجة الدين بوصفه نظاماً رمزياً بين أنظمة أخرى؛ كي يغدو مدرَكاً بوصفه جزءاً متمماً من ثقافة محددة. لكن معظم الأديان ترفض أن تكون نظامَ معتقدات بسيطاً بين أنظمة أخرى، لكونها تؤكد أنها الحقيقة، أو تقول الحقيقة، وحاملة رسالة عالمية متعالية على «الثقافات»، والإيمان عندها ليس اعتقاداً بسيطاً أو امتثالية اجتماعية، بل يطرح حقيقة أبعد من العلاقة الثقافية.
ويفضي تأمل الأديان، التي ترجع إلى نظام متعال للحقيقة والمطلق، إلى وجود علاقة عرضية وظرفية بين الدين والثقافة، نظراً لأن الدين، مدرَكاً على هذا النحو، يرغب في أن يكون أبعد من كل ثقافة معينة في لحظة معينة، أو أنه نتاج ثقافة تحول معايير دينية إلى مظهر خارجي، أي إلى سلوكيات مستبطنة وثابتة، لا تتبع الإيمان ولا الاعتقاد. ويظهر ذلك في الاستخدام المألوف لدى المسلمين لمفهوم «الثقافة الإسلامية»، حيث المقصود: معايير ثقافية تخص العائلة، اختلاط الجنسين، الحشمة، الغذاء... إلخ، وهي تختلف عما يعنيه المستشرقون الغربيون بقولهم ثقافة إسلامية، تلك التي تشتمل على: الفن، الهندسة المعمارية، الحياة الحضرية... الخ.
وفي الواقع، لا يُطرح الدين بصفته ديناً إلا عندما ينفصل انفصالاً بيناً عن الثقافة، وإن كان ذلك في توتر مؤقت وهش ومجردٍ إجمالاً، ففي الإسلام يُنعت كلُّ ما يتصل بثقافة عربية قبل الوحي بالجاهلية، وعلى ذلك فهو باطل على نحو ما، ولم تقدَّم ثقافة ما قبل الإسلام إلا كثقافة «إناسية»، تلك الخاصة بالمجتمع القبلي البدوي، وكان ذلك وسيلة ناجحة للتحويل إلى الإسلام. ولا تزال الجاهلية مستخدمة من قبل الليبراليين والإصلاحيين الذين يريدون إثبات أن مشكلة الإسلام لا تنجم عن الدين بل عن الثقافة بالمعنى الإناسي، وعليه تتم إعادة موضعة القرآن في سياقه الإناسي لاستخلاص مغزاه الحقيقي، كي تعزَّز في الواقع فكرة الثنائية بين ثقافة إسلامية وثقافة عربية مع الانتقاص من الثانية.
ويقرر أوليفييه روا أن معظم علماء الإسلام يرفض إعادة التفكير في القرآن في بيئته الثقافية، الأمر الذي يثير معضلة جوهرية في العلاقة بين الإسلام والثقافة العربية، اذ لا يجري الالتفات إلى الاستقلالية الذاتية للثقافة العربية غير القرآنية، وتوضع في قالب الاستلاب. وقد أظهر تصدير الإسلام في ثقافات أخرى الاستقلال الذاتي للعامل الثقافي، اذ صادف الإسلام في بداية توسعه كلاًّ من الثقافتين اليونانية والفارسية. وبتوسع الإسلام، ظهر المسلم ذو الثقافة الأخرى، ومع ذلك فقد نشأ في العالم العربي الإسلامي تاريخياً فضاء ثقافي مستقل ذاتياً، لكنه كان بانتظامٍ عُرضةً لسهام أصولوية متلفة للآثار الفنية، ومعادية للثقافة.
ولم تكن أوروبا مهتمة قبل القرن السادس عشر بالفكر المسلم كفكر، بل كان تركُّز الاهتمام فيها على الفلاسفة الذين نقلوا الفكر الإغريقي، وليس على القرآن او على الشريعة. ولم تهدف الحرب الصليبية إلى التحويل (التنصير)، وإنما كانت تريد أن تجتث الهراطقة من أرض مسيحية، الأمر الذي حسم مصير المانويين، أو أن تفتح الأماكن المقدسة، أي أن تطرد وتقهر لا أن تُقنع. وكانت الإرساليات تتبع الحروب الصليبية في حال الهراطقة مثل المانويين، ومع محاكم التفتيش، وغايتها جعل إقليم ما منسجماً دينياً، وليس إنقاذ أرواح الهراطقة، اذ لم يحدث تبشير في أثناء الحروب الصليبية، بل كان القتل، أو الطرد أو المعاهدة، وليس الوعظ، وكل من كان يتحول دينياً يبقى مشبوهاً.
وحدث الأمر نفسه عندما بدأت حركة الإصلاح الديني البروتستانتية، اذ كان الأمر في نظر السلطات الكاثوليكية يتعلق باقتلاع الهرطقة أكثر منه بعظة البروتستانت، لأن البروتستانتي كان ينظر إليه في البداية على أنه كاثوليكي سابق، يعرف عقيدة الكنيسة التي رفضها عمداً، والبروتستانتي هو الآخر «الداخلي» بصورة سلبية، والمسلم هو الوجه الخارجي منه.
ويخلص روا إلى أن التفكير في الاندراج الثقافي ينهض على مبدأ يقرّ بأن الدين ليس الثقافة، لكن لا يمكنه أن يوجد خارج ثقافة ما، والصلة بين الحقيقتين هي على نسق الصلة بين الكلمة والجسد في التجسد، حيث الإنجيل لا يتماهى مع ثقافة وإن كان لا يستطيع مطلقاً أن يوجد خارج تعبير ثقافي. ويخلق الديني ثقافة، في معظم الأحيان، لأن الدين معيش هو أيضاً كثقافة، والإسقاط الثقافي للديني أمر لا مفر منه، لأن ما من مجتمع يمكنه أن يستقيم على مستوى معقد واضح فقط. ولا يمكن آلية الحكم أن تعمل إلا إذا انتشر الدين المهيمن في ثقافة، أي في منظومة رمزية وخيالية تبرر النظام الاجتماعي والسياسي، لكنها لا تجعل من الإيمان شرطاً للحياة المشتركة.
عمر كوش
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد