«الأنهار الضائعة» قصائد الصّغار عن «الآخر» الراشد
«لا شيء يستطيع إيقاف أولئك الذين يريدون العيش»... هكذا ببساطة مدهشة يختتم فرانسوا (15 سنة) قصيدته المنشورة في كتاب «الأنهار الضائعة» الذي يتضمن قصائد كتبها صغار من العالم، في مثل سنّه أو أقلّ، وترجمت الكتاب عن الإنكليزية أنطوانيت القس، وأصدرته أخيراً الهيئة العامة السورية للكتاب (منشورات وزارة الثقافة)، مُرفَقة به مجاناً مجلة «أسامة» السورية للأطفال.
وُلِدت هذه القصائد في صفوف الدراسة التي طُبِّقت فيها طريقة «فرينيه» الفرنسية التربوية، والمعتمدة في العمل الحر لمجموعات من التلاميذ، كما تشرح المترجمة. إلا أن أهم ما يُميّزها هو الانفصال التام عن عالم الكبار، أو بالتحديد عن الضعف في الإرادة والقول الذي يعانيه بعض الكبار. فالنصوص مذهلة في وعيها الأمور. ولم يخجل الأولاد والمراهقون من التعبير عن أي تفصيل في مشاعرهم. وأشد التعابير جرأة تلك التي كتبتها كريستيان (13 سنة)، إذ تلخّص سخطها على المجتمع الذي يُؤنّب اليافعين بلا سبب، فتقول: «أنت شاب، فأنت محكوم إذاً، مذنب إذاً، كن عجوزاً، عندها ستعيش قرير العين، حتى نهاية حياتك». قد تكون كريستيان مُحِقّة، فالطاقة الهائلة لدى الطفل مرفوضة من محيطه، والمجتمع يرفض لاحقاً طاقة الشاب ويُحبِطها.
وتتساءل الطفلة شانتال عن حجم فعلها وتأثيره، وكيف لها أن تسير مع كل من هم في حاجة إلى مساعدة من الآخرين؟ القصيدة عالية الصوت: «إذا صرخت في وجه اللاعدالة، يُسكِتونني، ويقولون إني لست سوى طفلة». تحلم شانتال بأن تكبر لتغير العالم، مع أشخاص مثلها يساندونها. لكن فنسنت (9 سنوات)، يرى في قصيدته القصيرة أن السلام لن يسود أبداً، مبرراً ذلك بجملة: «لا أحد.. يدع السلام يسود».
يبدو الراشد أنانياً جداً في القصائد، مع أن الأطفال مفطورون على حُبّ الآخرين. فماريزيا (8 سنوات)، تتجوّل مع كلماتها في الحقول المزهرة، وما إن ترى زهرة صغيرة وتسقيها، حتى تصير الزهرة في اليوم التالي أطول منها. لم يفهم البستاني، بحسب الطفلة، هذا الأمرَ، فقد قطع الزهرة لأنها كبيرة جداً. هل نسبب للصغار أذى نفسياً من دون أن ندري أو نبالي؟ يقول جيروم (11 سنة): «أنظر، ما بقي من قصيدتي بدّله الناس، أنظر، كتبت قلبي لكنهم مزّقوه».
يُعدّ الكتاب مرجعاً مهماً لتذكير البالغين بهفواتهم. فالصغار الشعراء يتنقّلون بين الحروب ودور العجزة، بين العنصرية والعنف، وملاجئ الأيتام، ولا نرى بين الكلمات سوى صورة قاسية مُشوَّهة لكل نموذج بشريّ لا يحترم النقاء.
ما هي تلك الأنهار الضائعة؟ أين تقع؟ يأتي الجواب في قصيدة جيروم (11 سنة) الذي يملك رؤيا حول ما يقبل عليه هذا الكوكب، المُلوَّث بيئياً وإنسانياً. وها هو جيروم، ينطق بضع كلمات حاسمة عن مصيرنا الأسود: «آه، كنّا ساذجين، والآن الوقت متأخر، والغد سيكون أسوأ!».
تجول بعض القصائد في العوالم غير المُفسّرة، عند الأطفال. فلِمَ يحلم طفل، على سبيل المثال، بجولة في الطبيعة وبين الأشجار، ستنتهي بموته مع الأشياء التي شاهدها بعدما جال متحدثاً مع السناجب والضفادع، وملقياً عليها تحية الصباح؟ هذه الحالة المُتخيَّلة هي نتاج ما يصنعه الكبار من الأذى، ربما.
«اليوم أيضاً، أتمنّى أن تُحبّني قليلاً»... يُوجِّه الكتاب رسالته الطفولية، بجملة وُضِعت على صفحته الأولى، علَّ «الآخر» الكبير يتوصّل إلى حلّ يقلّص المسافة التي تتوسّع اليوم، إثْرَ إهمال أجيال عدّة لها.
أما الجنس الذي لا يظهر إلا شفيفاً في عالم الطفولة، فقد برز صريحاً بعضَ الشيء في قصيدة جاكلين (15 سنة). وطبعاً هنا يُحسَب عمر الفتاة في مكاشفتها، إلا أنها على الرغم من ذلك، أبقت تخيُّلها الشعري الجنسي مختبئاً خلف الكلمات. فالآخر الشابّ يحني ظهره، ويدفع المحراث، ليحفر ثلماً عميقاً وواضحاً، فيما تبذر هي بذرة الحياة، معنى الحب. تتمتع القصيدة بالصدق والذكاء: «يكفي أن تورق حبة واحدة، كي تلمع عيوننا من الفرح... أحفر أحفر هذا الثّلم».
تتحدّى نصوص الصغار أي عائق لبلوغ الغاية والطموح السليم. وفي الوقت ذاته، يحاربون بالأحرف واقعاً لا يعجبهم، حين يرون أناساً يموتون حولهم، محاولين تفسير لغز الكون والإنسان، ولا ينسون في المساء أن يُغمِضوا عيونهم بقوة، على أسرارهم. فهذه كوليت (12 سنة) التي لا ترى من على سريرها، ومن نافذتها، سوى التلة. تدير رأسها قبـل أن تنــام، متخيلـــة البحر خلف التلة، وقت غروب الشمس، وكيف سيلامس الشعاع الأصفر والأحمر المياهَ الزرقاء، ثم تختم قصيدتها: «بعد ساعة لن يبقى سوى امتداد المياه الفضية، في الليل المظلم».
رنا زيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد