شطط التطرف الديني وفوضى العولمة
يبدو التطرف بحسب اللغة خروجاً عن وسطية المكان وجهاته الأربع، والأطراف القاصية من المكان هي الأكثر انزلاقاً عن جغرافية الوحدة وهي بهذا التنائي تظل عرضة لخطر الخارج واستهدافاته.
وعلى إيقاع هذا المصطلح اللغوي يرى علماء النفس في مرض الفصام والانطواء تطرفاً يهدد سلامة التوازن بين العقل والروح والجسد، وربما أدى هذا الانفصام في الشخصية إلى تفجير منازع الحقد والكراهية تجاه الآخر. من هنا كان التطرف في الدين خروجاً عن وسطية الاعتدال فيه. والتطرف ظاهرة تاريخية لم يسلم من عشوائياتها دين من الأديان، فهي تبدأ من غلو الإيمان بذهنية امتلاكها للحقيقة المطلقة لتمر بتكفير الآخر وتنتهي بتصفيته جسدياً متقربة بسفك دمه إلى اللـه.
التطرف والخروج عن الوسطية
قد اكتوى الغرب بعصبيات هذه الظاهرة ونيرانها من محاكم التفتيش والحروب الدينية والطائفية مروراً بالمحرقة النازية وصولاً إلى تدنيس القرآن في سجون غوانتنامو والإساءة إلى شخصية الرسول الكريم (ص) في صحافة الدانمارك. وهي وثيقة تكشف أن الصورة النمطية للإسلام في الغرب لا تزال على حالها من التشويه الذي يكشف عن حجم العداوة لتراث العرب ومقدساتهم.
ومن أخطر مخاطر التطرف أن يختصر ناس في الشرق أو في الغرب صورة الدين والإنسان في حدود ما يؤمنون به من فلسفة هذا الدين وهذا الإنسان بتقديس الطائفية التي لم تفصل بعد الجانب الإلهي عن الجانب البشري من الدين، ويذهب كثير من الباحثين في دراساتهم عن عوامل العنف الديني إلى «أن ظاهرة التطرف بما تحمله من مضاعفات وأخطار وعواقب وخيمة على المجتمعات شدت إليها البحث العلمي الذي رصد منطلقاتها وأرجعها إلى خمس ظواهر:
- الشطط في الدين.
- الشطط في كراهية الدين.
- الشطط في معاداة النظم القائمة.
- الذهاب بعيداً في احتقار الأسس التي تقوم عليها المجتمعات.
- الشطط في وسمها بالتخلف إلى حد العمل على تقويضها بالعدوانية والعنف.
ويعني ذلك الانطلاق إلى التطرف من خانة اللاتوازن أي من قاعدة لا تنضبط بمقاييس ولا تعرف الوقوف عند حد، وهو ما يفسح المجال لمضاهاة التطرف لظواهر لا أخلاقية كالعنف، والإرهاب، والعدوانية، والاغتيال، واستعمال القوة، واللجوء إلى الثورة المسلحة، واستثني من جميع ذلك حق الشعوب بمقاومة الاحتلال الأجنبي لأنها لا تستخدم السلاح من منطلق المغايرة مع ثقافة العدو فتعمل على تغيير ثقافته أو دينه بالقوة، ولكنها تستخدم السلاح بهدف الدفاع عن تراب الوطن ومقدسات هويته وثقافته وكرامته وإنسانيته.
وقد حسمت قرارات منظمة الأمم المتحدة موضوع سلاح المقاومة فاعترفت للشعوب بالحفاظ على حقها المقدس في مقاومة المحتل الغاصب بكل وسيلة متاحة. والسؤال الآن: إذا كان القرآن الكريم كتاب هداية ووسطية وإذا كان القرآن صريحاً في آياته البيّنات بنقد التطرف الديني والمغالاة في الدين، «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كثيراً» (المائدة 77) فمن أين وكيف نشأت ظاهرة التطرف الديني في واقعنا العربي والإسلامي؟
نشأة التطرف
كتمهيد للإجابة عن هذا السؤال سأقف على عامل واحد من عوامل تلك النشأة حيث يبدو لي أن التطرف في الدين لا يقتصر على الجانب العملي من ضروب وعي التدين فمن أول تاريخ النص الديني نجد التخبط في تأويل النصوص تأويلاً يتعجل بإطلاق - المفاهيم الدينية - على غير مسمياتها وكأن ثمة فجوة ما داخل النص تغري بعض المتكلمين باسم الدين باستغلالها لأغراض سياسية وطائفية تنتهي بتأليب تناقضات الرؤى الدينية إلى استباحة القتل وسفك الدماء باسم الدين. ما يعني أن التطرف في الدين ينشب أول الأمر على فهم النص ثم يتحول العراك على فهمه إلى ساحات العنف والعنف المضاد، فليس من التطرف أن يؤمن المؤمن بمذهب فقهي دون سائر المذاهب لكنه ينقلب متطرفاً إذا هو أراد أن يفرض على الآخرين اعتناق مذهبه باستخدام وسائل القوة. وها هنا تبدأ خطورة التطرف ويبدأ معها البحث عن مهمات المجتمع لمواجهة هذا النمط من إرهاب الدين باسم الدين، ولم أجد في ظاهرة اللجوء إلى الغلظة والعنف تحت لافتات الدين وشعاراته إلا تعبيراً عن ظاهرة تسييس الدين تمثل في تشويه شعار - لا حكم إلا للـه - منذ بدايات الخوارج الأولى وحتى راهننا المعاصر فلم نلتفت إلى أن التحاكم إلى اللـه ورسوله بحسب القرآن كان بهدف التأسيس لمرجعية العقل والعدالة في مقابل الموروثات الوثنية التي كانت تتحاكم فيما بينها على مرجعيات التعصب للقبيلة، فكانت الجاهلية قبل الإسلام تقدس حاكمية القبيلة بمناصرتها ظالمة أو مظلومة دون أي بصيرة لتفهم معيارية الحق والباطل، فكان لا بد من استبدال هذه النزعة بمفهوم الركون إلى ولاية اللـه ورسوله فيما يمثلان من قيمة عليا لمرجعية الحق والعدالة والانتصاف للمظلوم من الظالم. وقد تأسس مفهوم الدولة الإسلامية الأولى على هذه الحقيقة أي حقيقة أن تكون السيادة لقانون يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر فلم نعِ أن مصطلح إسلامية الدولة لا يعني في صورته ومضمونه أن يرتهن النظام السياسي للدولة أو يختزل بحاكمية شخص الفقيه الفرد ومع غياب القيم المعيارية لروح النظام الإسلامي لم نلتفت إلى أن لا مدلول لإسلامية الدولة على أرض الواقع من غير تجسيدها الفعلي لإلغاء الطائفية السياسية الدينية ومع تعذر هذا الشرط الموضوعي في ظروف المجتمعات القائمة على التنوع الطائفي والتعددية الدينية فإن الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة وفصل الدولة عن الدين هو لمصلحة الدين والدولة معاً بمعنى أن دولة القانون والمؤسسات هي الضامن الوحيد لتحقيق - حاكمية العدالة - في مجتمع متعدد.
وأراني أزعم أن الأزمة المفصلية التي يمر بها العقل الفقهي الإسلامي أن نتاج فقه الدولة عندها لا يزال مرتهناً لإشكالات وأسئلة لا تمت إلى عصرنا الحاضر بصلة وإذا كان روح النظام السياسي في الإسلام هو منهج تفكير وآليات مشاركة وشهودية فإن العبء الكبير الذي يواجه فقيه اليوم هو في ضبط المسافة بين السلطة والدولة وفق صياغة المعايير القرآنية لبناء المجتمع الأكمل والأجمل. فإن لم يستطع بعض الفقه الإسلامي أن يتبين شكل الدولة الإسلامية في القرآن الكريم فلأن القرآن أخفى تفاصيلها لمصلحة إبراز صورة المجتمع بكامل منظومته العقدية والأخلاقية والتشريعية كيما تستهدي الدولة بروح صفاته وسجاياه وبدا المشهد الإسلامي عبر قرونه المديدة صارخاً في بؤرتين من بؤر التطرف والتطرف المضاد:
إحداهما: بؤرة التنازع على مفهوم الخلافة انتهى بالتنازع على شكل الدولة مع تغييب واضح لمشروع بناء الأمة والمجتمع.
ثانيهما: بؤرة التنازع على مفهوم - المذهب الحق والفرقة الناجية - ليمتد الخلاف في جميع مصادر تشكيل العقيدة الإسلامية وشريعتها ولاسيما الخلاف على تأويل القرآن الكريم وشروحات السنة النبوية الشريفة.
وها هنا يجدر بمجاميع الفقه الإسلامي إعادة النظر في ملابسات وأسباب نزول ما يسمى آيات العنف في القرآن الكريم حيث يعمد بعض المتكلمين باسم الدين إلى تثوير الوجدان الشعبي بأحاديثهم عن مفهومات البغض والتبري والإعراض ومصطلحات الاعتزال والتدافع والنبذ والقطيعة بوصفها شروطاً لتأكيد خصوصية الإسلام بالانفصال عمن سواه فيُخيل إليك من خطب الجمعة وفتاواها المرتجلة أن الهوة سحيقة بين المسلم والمسلم حيث لا أمل بينهما يرتجى في حوار أو لقاء.
أئمة التفرقة والنص القرآني
وواقع الأمر هو أن أئمة التفرقة ودعاة القطيعة في الوطن الواحد يستغلون تأويل النص القرآني استغلالاً يصادر روحه ويجافيه. ومن هنا كانت مناداتي في الماضي والحاضر بضرورة أن ينهض الفقه الإسلامي إلى تأسيس فقه الاجتماع الوطني استناداً إلى منظومات فقهنا الإسلامي الأخلاقي الذي تم إهماله تحت شعار - التسامح في أدلة السنن - ويبدو لي أن الإصلاح الذي نرتجيه في تطوير الكتاب الديني يجب أن ينطلق من رد الاعتبار لفقه الأخلاق لوضع آيات الجهاد وآيات الممانعة في سياقها الصحيح من عقيدتنا الإسلامية.
فما يظهر من حديث القرآن الكريم عن العداوة والبغضاء داخل الدين الواحد والمذهب الواحد هو توصيف تاريخي لنقض ميثاق اللـه في وحدة الدين والإنسان للفت نظر العالم إلى النموذج الإسرائيلي ممن قست قلوبهم وحرّفوا الكلم الإلهي عن مواضعه وما جاء في القرآن الكريم من آية في سورة الأنعام تحث النبي (ص) على الإعراض عن المشركين وسواها من الشبهات المتصلة بالموقف من الآخر، فالمفهوم من هذا الإعراض هو مجانبة سفاهتهم ومرائهم بدليل احترام القرآن نفسه لأمن المشرك في المجتمع وحقوقه الإنسانية فيما نستوحيه من قوله سبحانه: «وَإِنْ أحد مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللـه ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ».
الشيخ حسين أحمد شحادة
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد