"ظهورات مريم" تثير الاهتمام بأعدادها وتواترها ومضمونها وعالميتها
أقل ما يمكن القول انها باتت ظاهرة عالمية. "ظهورات مريم"، او ادعاء حصولها، طالت القارات الخمس، وسّعت اطارها الى مختلف الدول، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وحققت رقما مؤثراً، لا سيما في القرن العشرين. تجاه هذا الواقع، استقطبت اهتمام بحاثة ومؤرخين عديدين اجروا تحقيقات حولها، ووضعوا دراسات عنها، بينما تقف امامها الكنيسة، خصوصا الكاثوليكية، بحذر وتريث، قبل ان تصدر اي قرار.
موافقة... لا قرار... رفض
أقدم ظهور للعذراء مريم، وفقا لمراجع، هو ما عُرِفَ بسيدة "الشمعة" او "العمود" في سرقسطة (اسبانيا)، وحصل مع الرسول يعقوب بن زبدى، اخي الرسول يوحنا الحبيب العام 40 بعد انطلاق البشارة بالمسيح(1). بين القرن الاول والقرن الحادي والعشرين، يحكى عن آلاف الظهورات العلنية والشخصية. "اكثر من 21 الفاً احصيت من العام 1000"، وفقا لموقع "marie de Nazareth.com"، بالاستناد الى خبراء شاركوا في الاسبوع المريمي الـ 42 في ساراغوسا العام 1986. غير ان الكنيسة لم تعترف الا بقلة معدودة منها، بعد تدقيق وتمحيص وبحث وتحقيقات ومتابعات استغرقت اعواما عدة.
ومن هذه القلة، واشهرها، قبل القرن العشرين، غاريزون (فرنسا- 1515)، غوادالوب (المكسيك -1531)، لو لوس (فرنساة - 1664)، رو دو باك (فرنسا -1830)، لا ساليت (فرنسا - 1846)، سان لوكا (ايطاليا - 1861)، لورد (فرنسا - 1858)، بونتمان (فرنسا -1871)، وغيترزوالد (بولونيا - 1877).
القرن العشرون يزدحم ببضع مئات من الحالات. وقد احصى المؤرخ ايف شيرون 362، مستثنيا منها الظهورات الشخصية وتلك التي حصلت خارج الكنيسة الكاثوليكية. وقد اوصلته دراسته الى ان 87 حالاً تلقت قراراً سلبياً من السلطات الكنسية الكاثوليكية، في مقابل 226 لم تتخذ بها قرارا، اما لانها لم تخضع لتحقيق قانوني، او لان التحقيق فيها لا يزال مفتوحا(2).
ويخلص الى ان "الظهورات تبقى ظاهرة عالمية، مع ان ايطاليا وفرنسا حصدتا عددا اكبر منها". ويلاحظ ان "حصة ايطاليا (27%) زادت، في وقت تراجعت حصة فرنسا(22%). وفي المجموع، هناك 52 بلدا طالتها هذه الظاهرة في القرن العشرين"(3).
وتصل الحالات المسجلة الى نحو 536 من العام 1900 الى عام 2009 وفقا للائحة تبرزها المكتبة المريمية – معهد البحوث المريمية الدولي – جامعة دايتون في اوهايو(3)- وهي جامعة كاثوليكية مريمية للتعليم العالي، وقد ورد فيها اسم لبنان نحو 5 مرات. وبيّنت ان 513 حالاً نالت، اما جوابا كنسيا سلبيا (93)، اما "لا قرار بعد بشأنها (420).
فاطيما (البرتغال-1917)، بوران (بلجيكا-1932)، بانّو (بلجيكا-1933)، امستردام (هولندا -1945)، سيراكوزا (ايطاليا-1953)، زيتون (مصر-1968)، اكيتا (اليابان-1973)، بيتانيا (فنزويلا-1976)، كوابا (نيكاراغوا- 1980)، كيبيهو (رواندا -1981)، الصوفانية (دمشق-1982)، سان نيكولا (الارجنتين- 1983) 12 ظهورا نالت قرارا كنسيا ايجابيا، تبعا للائحة، في وقت تضيف مراجع اخرى الى اعلاه شوبرا (مصر-1983)، وياغما ولودا (بوركينا-1986)، وغيرها.
نحو 11 ظهورا وفقا للمكتبة، و16 وفقا لمراجع اخرى، لم تنل موافقة الكنيسة على طابعها الـ"فوطبيعي"، لكنها نالت "نعم" للدليل على موافقة الاسقف على طابعها الايماني (صلوات – تكريم - حج)، ابرزها تونغ لو (الصين-1900)، هيد-ام امسلند (المانيا-1937)، وانغن/ويغراتزباد (المانيا-1938)، لا كودوزيرا (اسبانيا- 1945)، ماريينفرايد (المانيا- 1946)، تري فونتيني (ايطاليا-1947)، ليل بوشار (فرنسا-1947)، سان فيتوريو رومان (ايطاليا-1964)، سيفالا ديانا (ايطاليا- 1967)...
ما بين الوحي والإيحاءات
تجاه ظاهرة الظهورات المثيرة والمتجددة دائما، تتريث الكنيسة عموما بحذر كبير قبل الاعتراف او الرفض. وتميّز الكنيسة الكاثوليكية ما بين الوحي العام والايحاءات الخاصة. ويشرح الاب مارون الشدياق، الراهب الماروني المريمي، لـ"النهار" ان "الوحي العام هو ما يظهره الله كحقيقة للايمان، وما كشفه لنا عن حقيقة ذاته وحقائق ايمانية دعانا الى الايمان بها. وعندما نتكلم على الوحي العام، نعني بذلك الكتاب المقدس وتعليم الكنيسة العقائدي. اما الايحاءات الخاصة التي نرى من خلالها هذه الظهورات، فهي في خدمة الوحي العام، ولا يمكن ان تكون خارجه او ضده، وهي لا تزيد عليه شيئا في الوقت نفسه".
ماذا تعني ظهورات مريم، خصوصا تلك التي نالت موافقة من الكنيسة؟ ولماذا تتميز مريم بهذا الدور؟
تبيّن الارقام المتداولة في القرن العشرين انه لم تمر سنة واحدة تقريبا الا وسجلت حال ظهور، وحتى حالان او اكثر، وان بين نحو 518 ظهورا انحصر نحو 80 بين 1914 و1943، ونحو 353 بين 1944 و1991، بما شكّل امرا لافتا يقرأه بعضهم بان ثمة ارتباطا بينها وبين تلك الحقبة الزمنية وازماتها وما شهدته من حروب ونزاعات، ابرزها الحربان العالميتان، هيمنة الشيوعية على روسيا واجزاء اخرى من اوروبا وغيرها من الحوادث...
دعوة مريمية إلى موقف روحي
"صلوا، صلوا كثيرا وقوموا بتضحيات من اجل الخطأة... استمروا في تلاوة السبحة يوميا كي تنتهي الحرب... يجب ان يصلح البعض انفسهم وان يطلبوا غفران خطاياهم... فليكفوا عن اهانة الرب الهنا الذي كثيرا ما اهين حتى اليوم"،(4) قالت العذراء مريم في ظهوراتها لرؤاة فاطيما الثلاثة. وفي ظهورات اخرى معترف بها، بقيت دعوتها الى الصلاة والتوبة والتكفير عن الخطايا والعودة الى الله ملحة دائما.
يمكن القول ان الرسالة الاساسية في كل الظهورات هي "دعوة الناس الى ان يعيشوا اكثر سرّ المسيح من خلال التوبة"، يقول الشدياق. و"التوبة لا تعني الاعتراف بالخطايا فحسب، انما ايضا العودة الى الله، والعيش بالتزام كلي له. وهذا يتضمن الصلاة والمشاركة في الاسرار بفاعلية اكثر".
نحو هدف روحي، تتجه اذًا الظهورات. وتترقب الكنيسة "ثماره" لتستطيع ان تميّز ما اذا كان صادقا ام لا. ويقول الشدياق: "عندما يحصل تغيير لمجرى الحياة وعودة الى الايمان في شكل قوي، فهذا يدل الى ان ثمة صدقية في الظهور. وثماره تدل الى صدقه". وثمة شروط اخرى، منها "ضرورة عدم تعارضه مع اي حقيقة موحاة، اي مع الكتاب المقدس، والا يكون الرؤاة يعيشون عكس الرسالة التي وصلتهم، وخصوصا ان ينمي الظهور الشراكة في الكنيسة، اي الا يكون هناك تناقض مع الكنيسة وتعليمها. فاذا كان هناك تناقض، هذا يعني ان شيئا ما ليس صائبا".
يحدد الاب اوغسطين دوبره لاتور في دراسة لاهوتية(5) 3 صفات عموما للظهورات المريمية الحديثة: "انها مبادرة من العذراء، فهي التي تبادر الى الظهور. انها ظهور حسي يحس به الراؤون الذين يبصرون وحدهم السيدة ويسمعونها. غايتها ابلاغ رسالة الى الشعب المسيحي، ففيها جانب كنسي". ويضيف ايضا ان "الرائين عموما هم اولاد تذكر بساطتهم وتواضعهم وروح خضوعهم "بالصغار" الذين عرضهم يسوع امثلة في انجيله، وان العذراء هي رسولة ابنها، فلا تتكلم باسمها".
دور العذراء الفائق الاهمية يشدد عليه المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) في دستور "نور الامم"، بحيث يخصّها بنص صريح تكلم فيه على "أم الله في سرّ المسيح والكنيسة". "بعطية النعمة غير العادية، تسامَت إلى حدٍ بعيد فوق كلِّ الخلائق في السماء وعلى الأرض. لكنها في الوقت عينه متحدة مع كل الناس الذين هم بحاجةٍ إلى الخلاص، لأنها من ذرية آدم، بل بالأكثر هي بالتمام "أم لأعضاء المسيح...".
في رأي الشدياق، هناك اسباب انتروبولوجية، واخرى لاهوتية "لتميّز" مريم في الظهورات. في الشق الانتروبولوجي، "يعيش الانسان، من وراء خبرته في النمو البشري، الامان بالنسبة الى الام والمرأة. فهي الاكثر فاعلية في تنميته ليجد ذاته الانسانية، اي ان يكون محبوبا وقادرا على ان يُحِب، ومن جهة اخرى ان يتعلم من شخص يثق به وينمو فيه، بينما لا يستطيع ان يعيش ذلك مع الاب، لان الاب، مع انه ينميه، فانه متطلب. فمن الام، يأخذ صورة المكان الذي يمكن ان يكون ذاته كليا، بكل ضعفه، ومقبولا كما هو، مما يقوي ناحية ميل الحس الروحي نحو انثوية العذراء مريم".
وبالنسبة الى الشق اللاهوتي، "يمكن ان نرى ان دور العذراء في الكنيسة من البداية مساند للرب يسوع، وهو كريستولوجي، اي انه متعلق كليا بمسيحانية يسوع. وهذا يعني ان لا دور لها وحدها، بقدر ما هو متصل بدور يسوع لخلاص البشر ومشارك فيه".
نقطة "مهمة" اخرى يشير اليها الشدياق هي ان "العذراء ليست شخصا من الماضي وانتهى. ففي الايمان المسيحي، وخصوصا الكاثوليكي، نرى العذراء التي حبل بها بلا دنس والمنتقلة بالنفس والجسد الى السماء. وهذا يعني انها حية بكيانها البشري كله، بنفسها وروحها وجسدها، وانها اختبرت القيامة من بين الاموات واشركها فيها يسوع. فهي علامة حية، مثال، محامية وشفيعة. وكي تكون محامية وشفيعة، تدخل بذاتها في موضوع الكشف عن الله فعليا وتفعيل حقيقة الله للانسان. انطلاقا من هنا، يفسح الرب لها كي تفعّل اكثر ايمان المؤمنين بما اختبرته وعاشته".
الكنيسة ترى في مريم امها وام البشرية. "هي ام الله"، يقول الشدياق. و"اذا كانت ام يسوع، اي ام الكلمة المتجسد، ام الابن، فهي امُّ جسده السري الذي هو الكنيسة. من هنا، ومثلما كانت تهتم بيسوع كأم في حياته العلنية، ليس ممكنا في حياة الكنيسة الا ان تهتم بها كأم لها. يمكن ان نقول ان هناك اذنا من الله، مبادرة للافساح في المجال امامها. لكن هناك ايضا ارادة مريم كأم لان تهتم بابنائها".
لورد، فاطيما، رو دو باك، لاساليت... ظهورات ذاع صيتها في كل الارجاء. ورغم الاعتراف المعلن بها وبغيرها، فان الكنيسة لا تلزم المؤمنين ان "يصدقوها او يؤمنوا بها".
نقطة اخيرة يشرحها الشدياق: "الظهور ليس اداة للايمان، حتى لو اقرته الكنيسة. ليست فيه الحقيقة، بل يدل إليها. وهذا ما يوصلنا الى نضوج الايمان الذي لا يتعلق بالظهور، بل بمقدار ما نعيشه من شراكة في الكنيسة بمحبة الله، من خلال الوحي العام الذي يصير خاصا بقدر ما نتعلق بالرب ونعيش فيه".
(1)"العذراء مريم من الناصرة الى بشوات" - الاب جورج رحمة الانطوني وانطوان عبيد-منشورات اليوبيل المئوي الاول للمعهد الانطوني.
(2) Enquete sur les apparitions de la Vierge- Yves Chiron-Edition Perrin.
(3) موقع campus.udayton.edu/mary
(4)"فاطيما" من ذكريات الاخت لوسي.
(5)"خلاصة اللاهوت المريمي" - الاب اوغسطين دوبره لاتور-دار المشرق.
هالة حمصي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد