دفاعا ً عن سارية السواس
تستجيب سارية السواس من حيث لا تدري لميول الأغلبية ، وليس للأغلبية في هذا المحل ثقافة ، إنما رغبات تتقاطع في منطقة المرح وتفترق بعده . في منطقة التقاطع تلك يكمن الطيش البهيج ،طيش مؤطر ، شعبي وسوري بامتياز.
فإن غنت سارية السواس أغنيتها الشهيرة (بس اسمع مني ) ، فإنها تطابق الذوق العام على الفور وتأتي على صورته ومقاسه ، تختصر المسافة بينها وبين سامعها وتشعره أنه هو الذي يغني بأسلوبه ومنطقه في الحب ومخاطبة المحبوب حيث تخاطب محبوبها الذي اعتذر كما يبدو بأعذار واهية لم تقلها الأغنية ، فقاطعته وذكرته أنه سبب لها الجنون بمبالغة شائعة ألفها الجمهور في لهوه وجده كحد من حدود التحمل ، وتكمل الأغنية ضمن هذه الحدود . ثم تستأنف بـ (اسمع بس اسمع ) ما بدأت به بنقلة جديدة ضمن الطابق نفسه. حيث قطع وأمر ثم قطع وأمرين ونشوة تضع ذروتها في محل سهل بمتناول الأيدي كدفع باب غير مقفل ، وعبور غرفة قليلة الأثاث تدرك بانتباهة واحدة ، يكاد سائق السرفيس عند بلوغها أن يرفع يداً للرقص ويترك الأخرى على المقود . فلا يريد ولا تريد منه الأغنية أن يترك الطريق ، بل يبقي التسلية بمكانها المنضبط المريح ، كالذهاب الى حفلة عرس .
سارية التي ترعرعت مع الحفلات تجلب العرس إلى السامع بطبل وزمر ومقدم ظريف يجعلها دلوعة للشعب ، ويبدو الشعب في حفلاتها المصورة سعيدا جدا . فلقد عثر على لحظته الذهبية ، لحظة البسط التي تملأ الرأس ، خالصة من غير نتوءات الحزن والتأمل ووفق ما اعتاد عليه من وضوح وخفة ، راضيا بأقل المعاني ولا يطلب أكثر في بلاغة لا تتفوق على بلاغته ، ومسرة من عجينة مسراته . فإن هيمن على اللحظة بإطلاق الذراع فوق الطاولة ، فإنه يقضي على كل الشكوك كأنه يقول هاهو الفرح . وترقص مضخة الفرح بعفوية ومن غير إتقان ككل البنات تحرك يديها بدولاب أو تطوي ركبتيها ثم تستقيم لتركل الهواء ، رقص من غير تكلف يشبه اللعب ، يطول أحيانا ويستغنى به عن الكلام .
يعزز المونتاج البدائي لبعض تسجيلاتها ذلك اللعب ، فيستنسخها على الشاشة إلى ساريتين ترقصان ، وقد يصيح واحد من طاقمها الجذل عبر مكبر الصوت : (يرجى الاطلاع واجراء اللازم) ، يوظف عبارة بيروقراطية بشيء من الهزء والفصاحة ، ليحطم بها بيروقراطية أخرى تعيق الانفلات الطفولي . وبصوته الحاسم يشحن العبارة الرسمية بمعان مضمرة ، كلها مضادة للالتزام ، ولبرهة قصيرة فقط بعيدة عن التعقل وضمن المزاج. ومن يقتطع مضغة من مزاج الجماهير يجد طفلا يرتدي شاربا ولحية ويفتح الشباك دوما لكل قافز للشابة التي بلغ أجرها خمسة ملايين ليرة في إحدى المرات ،ولغيرها ممن أراد الفوز في المناقصة . فارقص كما تشاء يامواطن ، ولا تلتفت لمثقف يدور حول نفسه ، .يبحث عن شيء ليقول عنه شيئا ، ولا يجد غير مزاجك الثمين ليشنأط عليه ، ويحزر لماذا تسمع سارية السواس ؟ ولماذا يعلو صوتها الغلامي الصداح من وسائط النقل وغرف العزاب ومهاجع الجنود ؟ ويتهمها بأنها تهبط بالذوق ، وكأنه كان صاعدا قبلها وقبل غيرها ممن سبقوها في طريق العسل الى مخيخ الأكثرية
ينطلق مدلل الأبوين في إدانته لنجمة العرب (كما قدمت بنادي الكاستيلو برعاية الأخوين جانم في حلب) ، أو نجمة النجوم (في طاحونة الحلاوة في الغاب) ، من معطف نخبوي يستعيره لليلة واحدة ، فيبدو فضفاضا عليه ، ويكاد ينعت الجو بالبروليتاري الرث (لولا حميمية الكلمة على قلبه) ، ويحجم عن ذلك ويذكر بمطربيه البروليتاريين ويجعلهم مسطرة تقيس الضعة والرفعة فيما يسمع الناس ويشتهون . والمفارقة أنه يستقوي بهذه الشهوات ذاتها في مواقع أخرى أكثر وعورة . حين يجد الجد ويزيغ عقله الكربوج ، فلا يبصر ويعجز عن إدخال خيط بإبرة في الفن وغير الفن . والعلة جهله بجهله ، وجهله بقصور معرفته ، فيمضي بجهليه ليحاكم الظاهرة السواسية وغيرها من الظواهر .
فلاينبغي، والحال هذه، لدلوعة الشعب أن تشتكي من محاكمة غير لازمة لها .
و لاشك أن وظيفة من نمط ناطق رسمي أو مستشار لسارية السواس ، هي وظيفة لذيذة ولو بنصف أجر . حيث ينافح المرء عن مغنية على وجهها ضوء وطيبة ويفند نقدا ثقافيا في غير محله بيسر وسهولة ، وعلى طريقة( اسمع بس اسمع ) . فدع سارية السواس تعمل . دعها تغني. واستمع
زياد عواد
إضافة تعليق جديد