العالم الإسلامي ... معارك الثقافة في مكان والنهضة في مكان آخر!
ما زال أمامنا الكثير من الدروس لنتعلمها من تجربة النهوض في جنوب شرق آسيا (ماليزيا وسنغافورة واندونيسيا بشكل خاص)، وكمثقف ينتمي للعالم الإسلامي وقلبه العربي النابض ثمة شيء يعنيه في هذه التجربة المثيرة التي لا يزيد عمرها عن ثلاثة عقود، أقصد معركة الحداثة مع الثقافة الإسلامية «التقليدية»، تلك المعركة التي بدأت منذ القرن التاسع عشر ومازالت مستمرة إلى اليوم.
وعبر قرن ونصف قرن انتقل النقاش حول التحديث والإصلاح الديني والفكري الفلسفي من حوار إلى معارك فكرية، وسرعان ما وجد المتعاركون سلاحهم في أيديولوجيات جذرية أكلت من عمر الثقافة العربية والإسلامية أكثر من نصف قرن، ليستفيقوا في بداية التسعينيات وقد هزمت الأيديولوجيات التحديثية وانكشفت أوهامها، لتخلف سنوات الضياع هذه وراءها فراغاً هائلاً سرعان ما ملأته أيديولوجيا العنف الديني السياسي، لنتتقل من معركة الهوية إلى ضياع الهوية، وإلى دوامة العنف سبيلاً وحيداً للتعبير عن «الحوار» لشعوب أصبحت جميعها متوترة ويخنقها هاجس المؤامرة والهزيمة.
الحقيقة المرة هي أن ملايين الصفحات المسودة بهذا النقاش الثقافي في عالمنا العربي لم تحقق أي درجة من التقدم، لا بل إن بعضها ساهم في مضاعفة أزمة التنمية حين أسس في الخمسينات والستينات لأكثر الأحداث السياسية خزياً في العالم العربي تحت مسمى «الشرعية الثورية»، ولسوء الحظ فإن أسوأ الدكتاتوريات العنيفة هي تلك التي قامت على أساس هذه الشرعية.
تنبني المسألة الثقافية برمتها في العالم العربي على مسلمة تقول إن إصلاح الفكر مقدمة للتغيير، وتبدو المقايسة التاريخية مع النسق الأوروبي في النهضة - والتي أسستها المدرسة الإصلاحية (الأفغاني وعبده) نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين - هي القاعدة البديهية التي حكمت مجمل الفكر العربي الحداثي، والإسلامي الإصلاحي والتجديدي، فيما القاعدة الأساس التي يقوم عليها الفكر الإسلامي الكلاسيكي هي المقايسة مع التجربة التاريخية لظهور الإسلام وصعوده الأول، وهي بهذا تستند على أساس أن الإصلاح الفكري يسبق النهضة عبر فكرة إصلاح العقيدة وفروعها في الولاء والبراء والدولة الإسلامية.
الشيء الذي نجده مقلوباً رأساً على عقب، ان النهضة في جنوب شرق آسيا تسبق الإصلاح الفكري لا العكس، في ماليزيا مثلاً لم يطرح التجديد الديني إلا بعد أن قطعت ماليزيا شوطاً كبيراً في النهوض، وطرح كاستجابة لمتطلبات التنمية وليس ليؤسس لها، بل ليسهل حركتها. ومن الطريف أن المعارك الفكرية الكبرى الثقافية والفكرية التي شغلت مثقفي أرخبيبل الملايو من ماليزيا مروراً بسنغافورة فأندونيسيا كانت في مرحلة الاحتلال حيث كان التخلف يمثل الطابع الأساس للحياة هناك، وكلما تقدمت النهضة تراجع المتعاركون وتقلصت ساحاتهم، وهكذا حتى أصبحت المسألة الفكرية والثقافية أحد أقل الأشياء اهتماماً وشغلاً لأبناء الملايو.
لا شك أن الفارق في نوعية ومستوى النهضة بين ماليزيا وسنغافورة من جهة وأندونيسيا من جهة أخرى بحيث بدت الأخيرة أقل نهوضاً يفسر لِمَ المسألة الفكرية والثقافية تبدو أكثر حرارة فيها، فالمسافة في النهضة هي المسافة ذاتها التي تتحرك فيها المعارك الثقافية، وعندما أدت أزمة المضارابات المالية في أسواقها في آب (أغسطس) عام 1997 إلى انهيار النهضة الإندنوسية بعد خضوعها لشروط البنك الدولي عادت أندنوسيا إلى معارك الثقافة، وهي اليوم من أكثر الدول في جنوب آسيا حراكاً فكرياً، لكن هذا الحراك الفكري ما عاد بهذا الزخم إلا مع تراجع التنمية وإحباط النهضة فيها، وتبدو المسألة كما لو أن المعارك الفكرية والآيديولوجية هي الوجه الآخر للتخلف هنا!
وسيكون على الأغلب مثيراً للدهشة في عيون المثقف العربي عندما يكتشف أن هذه التجربة النهضوية لم تكن فيها مسألة الثقافة التقليدية وتحديثها في المجتمعات المسلمة مطروحة كما هي الحال في العالم العربي، بل إن الثقافة التقليدية استوعبت بشكل تلقائي وبسيط للغاية فليس شرط التقدم التخلي عن الثقافة الإسلامية ومعاداتها، ولا من شرط الدولة الحديثة هنا العلمانية الفلسفية بالعنى الفرنسي، بل إن الثقافة التقليدية تشكل هوية النهضة لشعوب مسلمة لا تجد مشكلة في التقدم والإيمان كما هي الحال في العالم العربي.
التجربة النهضوية في جنوب شرق آسيا قد تكون حلت معضلة المسار الحتمي للتقدم، الذي لم يُر إلا من خلال تاريخ الغرب أو تاريخ صدر الإسلام، ولطالما قلنا إن الحتميات التاريخية (في هذا الموضوع بالذات) هي في الواقع تعميات عن إمكانات أخرى ليس إلا.
إذا صح أن مسألة النهضة في العالم العربي هي أقرب في معطياتها ومقدماتها إلى التجربة الإسلامية في جنوب آسيا فهذا يعني أن الأجدى نقل المعارك الثقافية إلى الساحة السياسة، فالنهضة تبدأ من السياسية، حيث رأس أفعى التخلف، فقرار النهوض قرار سياسي قبل كل شيء، وكل التبريرات للتخلف، «الإمبريالية» و «الصهيونية» و «العولمية» مجرد أكاذيب لخيانة أمانة مقدرات الأوطان.
النهضة - من منظور جنوب آسيوي - تحدث في مكان، والمعارك الفكرية تحدث في مكان آخر، ولا التقاء بينهما إلا أن يكون الحراك الفكري الثقافي وليد النهوض وليس مؤسساً له.
عبد الرحمن الحاج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد