موقع حلابيا ــ زلابيا مهدد بخطر الغمر
حلابيا ـــ زلابيا، مدينة كتب عنها المؤرخون ولم تُكتشف بعد معالمها المهددة بالزوال... بسبب مشروع بناء سد عملاق على نهر الفرات الﺫي شيدت على ضفته
600 متر من الأسوار العملاقة، مقابر مبنية على شكل أبراج عالية، حمامات ضخمة، طرق، كتدرائيات، بيوت... كلها معالم من مدينة حلابيا ـــ زلابيا الواقعة على بعد خمسين كيلومتراً من مدينة دير الزور السورية، والتي تمتد من ضفة نهر الفرات إلى أعلى التلة المجاورة. شيدت زنوبيا ملكة تدمر هذه المدينة برهاناً على جبروتها وامتداد حدود مملكتها. وحين خسرت الحرب أمام الإمبرطورية الرومانية، وصلت الى حلابيا جيوش الرومان واستقرت داخل أسوارها، وكانت المدينة إحدى آخر نقاط الدفاع عن الإمبرطورية على نهر الفرات. مع انتقال السلطة إلى الإمبرطور البيزنطي جوستينيوس، قرر هﺫا الأخير إعادة بناء المدينة وأرسل إليها أهم مهندسيه وأحد مؤرخيه، فكانت النتيجة ورشة عمل أضخم من تلك التي في أنطاكيا ثانية مدن الإمبرطورية، ومدينة تمتد لأكثر من 12 هكتاراً (120 ألف متر مربع)، وصفت أبنيتها واحدة تلو الأخرى في كتاب (دا أديفيسسيس De Aedificiis) للمؤرخ بروكوب، مما يعطي لمدينة حلابيا ـــ زنوبيا أهمية تتخطى من خلالها باقي المواقع الأثرية.
وهﺫا ما أشاد به العالم الفرنسي الكبير بيار لو ريش المختص في آثار الفترة الرومانية، في مقالة نشرها في مجلة أركيولوجيا الفرنسية، وجاءت المقالة بمثابة صرخة استغاثة لإنقاذ تلك المدينة الرومانية ـــ البيزنطية من الغمر، إذ أنشأت السلطات السورية سلسلة من ثلاثة سدود على نهر الفرات. ويقول لوريش في مقالته إن نتائج الدراسات الرسمية لإنشاء ثلاثة سدود في تلك المنطقة قد بدأت تظهر. ومن المؤكد أن بناء هذه السدود هو لتأمين متطلبات حياتية يومية وديموغرافية مفهومة. لكن أحدها سيرتفع في المنطقة الواقعة في أسفل موقع حلابيا ـــ زنوبيا، ومن المتوقع أن يبلغ مستوى المياه أربعة عشر متراً، مما يعني أن أسوار المدينة ومقابرها وطرقها وكاتدرائياتها البيزنطية وأبنيتها الشاهقة ستُغمر بالمياه حتماً.
شُيدت أسوار المدينة وأبنيتها كلها بحجر الجص الﺫي يتفتت في الماء. ما يعني أن المدينة التي وقفت بوجه الزمن 2000 سنة ستزول من الوجود في أقل من عقد، إلاّ إذا وافقت السلطات السورية على نقل موقع السد من أسفل المكان إلى أعلاه. ويؤكد لوريش في مقالته أن المتطلبات الجغرافية من تقارب بين ضفتي النهر وانحداره متطابقة في أسفل المدينة وأعلاها! ولو قبلت السلطات بنقل موقع السد الآن لأنقﺫت إحدى أهم المدن السورية التاريخية على الإطلاق، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه المشاريع لا تزال حبراً على ورق، وتعديلها لا يؤدي إلى خسارة مادية حقيقية.
ويؤكد لوريش في مقالته أن الموقع يمتلك من المواصفات ما يكفي لإدراجه على لائحة التراث العالمي. هﺫا إضافة إلى أن التنقيبات الأثرية في المدينة الرومانية ـــ البيزنطية ستكشف النقاب عن موقع قد يتخطى بأهمية كبرى المدن الرومانية السورية مثل دورا أوروبس وحتى تدمر. ويرتكز لوريش في قوله على بعض الحفريات الأثرية التي قام بها العالم الفرنسي جان لوفري بين عامي 1944 ـــ 1945 على الموقع، وقد أسفرت حينها عن اكتشاف المباني التي تمتد على طرفي الطريق مقسمة المدينة شمالاً ـــ جنوباً وشرقاً وغرباً، وتصلها إلى بواباتها الأساسية. وقد عملت البعثة على إبراز معالم القاعات التي ترتفع إلى مستويين ولا تزال القناطر تعلوها. والجدير بالﺫكر أن موقع حلابيا ـــ زنوبيا ينقسم إلى قسمين: المدينة التي ترتفع آثارها فوق التلة والقلعة والأسوار والمقابر التي تمتد بمحاﺫاة نهر الفرات. وكانت أهمية الموقع العلمية كفيلة بدفع بعثة أثرية مؤلفة من فريق علمي من ثلاث جنسيات (سوري، فرنسي، إسباني) لبدء إتمام دراسة مفصلة عن الموقع منﺫ عام 2006. وقد بدأت معالم المدينة القديمة الدفينة تظهر معهم، وأهمية اكتشافاتهم كانت الدافع الأساسي للمطالبة بالمحافظة على الموقع من الغمر.
ينبغي على السلطات السورية اعتبار العمل على تفادي خسارة حلابيا ـــ زنوبيا أمراً محتوماً. فلا بد للدولة التي تستقبل سنوياً 6 ملايين سائح تسوّق لنفسها على أنها «بلد التاريخ والحضارات» أن تحافظ على مواقعها. على أي حال، يبقى انتظار هذا القرار سيد الموقف...
ترجمة: جوان فرشخ بجالي
المصدر: الأخبار نقلاً عن (مجلة أركيولوجيا)
إضافة تعليق جديد